عز الدّين المدني: علماء تونسيون في مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة
كان حضور العلماء التونسيين فاعلاً وبارزًا في مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة منذ البدايات... فقائمة عدد العلماء المصريين والعرب والمستشرقين قد اشتملت على عشرين عالما كما نصّ عليه المرسوم الملكي الّذي أصدره الملك فؤاد ملك مصر سنة 1933. كان من بينهم عالمان تونسيان هما محمد الخضر حسين وحسن حسني عبد الوهّاب.
الحقّ أنّ هذا المرسوم الملكي الرّسمي الّذي أنشأ مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة قد وضع محمّد الخضر حسين في قائمة العلماء المصريين العشرة، واعتبره مصريًّا، بينما جعل حسن حسني عبد الوهّاب في صفّ العلماء العرب الخمسة بعد ذكر قائمة المستشرقين الخمسة. ونحن نعلم أنّهما تونسيان.
من الزيتونة الى مشيخة "الأزهر"
ونحن نعلم أيضًا أنّ محمّد الخضر حسين الّذي ولد سنة 1877 في منطقة الجريد بالجنوب التّونسي قد تخـرّج كأمثاله من الجامع الأعظم... ثمّ رأيناه يهاجر بكرامته وحـريته وإسلامــه وعروبـتــه من ظلــم الحـماية الفرنسيــة على تونـس إلى الشّام فالآستانة وأخيرًا إلى مصر حيث استقرّ مقامه وطاب هناك، على غرار هجرة مثقّفين وعلماء تونسيين خلال القرن التّاسع عشر فلجأوا إلى الآستانة والشّام ومصر وحتّى إلى السّودان... وقد تبعهم تونسيون شعبيّون واستقرّوا بمصر مثلاً، وصاروا متمصّرين بطول الزّمن، بل صاروا أبناء مصر بأتّم معنى الكلمة.
ونحن نعتبر محمّد الخضر حسين تونسيًّا مصريًّا، تونسيًّا من حيث الميلاد ومسقط الرّأس والتّعليم والتّربية وطلبه في الزّيتونة ووظيفه في شبابه، ومصريا من حيث اعتراف مصر بعلمه واجتهاده وتقليده مناصب الأستذة والمشيـخة في الأزهر، ثمّ تسميته في مجمع اللّغة العربيّة عضوا عاملاً. ونعتقد أنّ هذه التّسمية شرف له كما أنّ لمصر شرفًا لها بفضل انتسابه لها واعتزازه بها.
والمعلوم أنّ البلاد الكبيرة تجذب إليها دائمًا العقول والإمكانات الإنسانية الكبيرة لدعم إشعاعها ومناعتها وقواها في نظر العالم. أمّا حسن حسني عبد الوهّاب الّذي ولد في تونس سنة 1884 فقد كان زميلاً للعلماء العرب الّذين نصّ عليهم المـــــرسوم الملكي المصري، وهــــم محمّد كرد علي بك (الشّام-سوريا) والشــّيخ عبد القادر المغربي ( الشّام – سوريا ) الأب أنستاس ماري الكرملي (العراق) وعيسى إسكندر المعلوف (الشّام – لبنان). وكان هؤلاء العلماء الأربعة معروفين عصـرئذ في مصر، إمّا بإقاماتهم بها وإما بمشاركتهم العلميّة والصّحفية في الجرائد والمجلاّت المصرية والعربيّة.
سفير الثقافة التونسية
وكان حــسن حســني عبد الوهّاب مشهورًا عصرئذ أيضًا في الأوساط العلميّة والثّقــافية المصـرية بفضــل حضــــوره في مؤتـمرات المستــشـرقين بالجـــزائر سنة 1905 وبالدّنمارك سنة 1908 وبأثينا سنة 1912 وبباريس سنة 1922 وبالرّباط سنة 1925. وأرسلته تونس إلى مؤتمر الموسيقى العربيّة بالقاهرة سنة 1932، وكذلك بفضل تحقيقاته لأعمال بعض المؤلّفين العرب القدامى ومنها كتاب «رسائل الانتقاد» لابن شرف القيرواني وكتاب «آداب المعلّمين» لمحمّد بن سحنون وكتاب «وصف إفريقية والأندلس» لابن فضل الله العمري. وهذه الكتب العربيّة القديمة كان تحقيقها العلمي بمثابة اكتشاف لها وزيادة مهمّة للتّعريف بمؤلّفيها الّذين غمرهم النّسيان والإهمال والتَّرك في قرون التّدهور والانحطاط.
ولا شكّ أنّ حسن حسني عبد الوهّاب قد بذل جهودًا جمّة في سبيل التّعريف بتونس القديمة أعني العربيّة العريقة (إفريقية ) وارثة حضارة الرّومان وحضارة قرطاج لدى النّخبة الثّقافية المصريّة والعربيّة والاستشراقية الّتي نصّ عليها المرسوم الملكي المصري. كانت للنخبة الاستشراقية اليد الطّولى على الدّراسات والبحوث في التّراث العربي الإسلامي.
وفي هذه النّخبة مَاسِينُيونْ وجِبْ وفيشر ونِلّينُو وﭭَنْسنك، وكانوا من ذوي السّمعة الإيجابيّة جدًّا والتّأثير الحاسم على المثقّفين والعلماء العرب عصرئذ. وهي غير النّخبة الاستشراقية اللاّحقة الّتي سقط تأثيرها تحت ضربات النّقد العربي.
إنتاج فكري غزير
وقد أصدر حسن حسـني عبد الوهــاب في هذا السّياق التعـريفي الفكري دراسات مهمّة كدراسة امتـزاج العنـاصر الّتي يتألّف منها الشّعب التّونسي وكدراسة «الاستيــلاء (التّونسي العربي) على صقلّية» وكتحقيق عنوانه «شاهد عيان للفتح العربي (لبلاد) الأندلس»، وكلّ ذلك باللّغة الفرنسيّة.
وقد نعت اللاّحقون من المجمــعيين بأنّ حسـن حسـني عبد الـوهــاب ينتـــمي إلى الرّعيل الأوّل من المجمعيّين الّذين عملوا على تقنين أعمال مجمع القاهرة، بفضل التّنظيم الهيكلي والتّرتيب اللّجاني الدؤوب وذلك بالتّعاون مع زملائه لتحقيق هذه المهمّة الحضارية العظمى، من أمثال محمد توفيق رفعت باشا وحايم نحوم والشّيخ حسين والي والدّكتور فارس نمر والدّكتور منصور فهمي والشّيخ ابراهيم حمروش وأحمد العوامري وعلي الجارم والشّيخ أحمد علي الاسكندري، هؤلاء المخلصون للغة العربيّة ولحضارتها الماضية والقادمة. وقد شـارك في أعمـال عـدد من اللّجان وأسهم بآرائه واقتراحاته فيما يخصّ قضيّة المصطلح وأيضًا فيما يتعلّق بكلمات الشّؤون العامّة. وهو مشهور بمعارضة اقتراح عبد العزيز فهمي الّذي دعــا إلى اتّخاذ الحروف اللاّتينيّة في الكتابة العربية مثلما فعلت دولة أتاتورك...
وقد توفّي رحمه اللّه عن سنّ عالية سنة 1968، وقبل أن يتوفّاه الله اسنِدَتْ إليه جائزة الحبيب بورقيبة الكبرى، كما إلى شيخ الشّيوخ الطّاهر ابن عاشور، اعترافًا ولو متأخّرًا من الدّولة التّونسية الحديثة بقيمـة هــذين العَلَمَيْن وبما أسـدياه من الأعمال الفكريّة الجليلة لتونس وللعالمين العربي والإسلامي.
ورغــــم ســـــــنّ حـســن حســـني عبد الوهّاب العالية، فقد كان يصغي إليّ اصغاء عجيبًا. وقد زرته في بيته الواقع بالضّواحي الشّمالية أمام البحر، وفكره المتّقد لم ينله خلل النّسيان، ولا ارتباك الاشتباه بين الشّيء والشّيء، ولا الامتلاء المعــرفي والعلمي الّذي يزهّـد المــرء في الإصغاء إلى الشّابّ مثلي يومئذ. وقد عرفته وكلّمته أيام طفولتي وهو في عزّ الكهولة والرّجولة بين أصدقائه وأحباّبه في أحد دكاكين سوق السرّاجين.
أعزّته مصر بقدر ما أعزّها
وقد وقف الدّكتور ابراهيم بيّومي مدكور باسم مجمـع اللّـغة العربيّة بالقاهــرة في حفل تأبين حسن حسني عبد الوهّاب فقال:
«وقد سئل مرّة: كيف وجدت مصر؟ فكان جوابه على نحو ما صنع مغربي سابق هو المقّري صاحب ( نفح الطّيب ): «من لم يزر مصر لا يعرف عزّ الإسلام». ولقد أعزّته مصر بقدر ما أعزّها، فاختارته عام 1932 من بين شيوخ المغرب وعلمائه ليكون أحد مؤسّسي مجمعها. ونشرت المطـبعة الأمـيرية بالقاهــرة عــام 1944 في طبعة ثانية كتابه «تاريخ الأدب التّونسي» بعد أن انقضى على طبعته الأولى في تونس نحو خمس وعشرين سنة. وفي عام 1950 منحته جامعة القاهرة (أو جامعة فؤاد الأوّل حينذاك) درجة الدكتـوراه الفخـريّة في اللّغة العربيّة والدّراسات الإسلامية».
والدّكتور ابراهيم مــدكور قد ســلك في تأبينه مسلك الرّثاء الحيادي الجميل الّذي يعدّد مناقب الفقيد دون التّفخيم والتّهويل رغم أنّه من أصدقائه الخلّص. وقد زار تونس مرارًا وتكرارًا وأصدقاؤه التونسيون يذكرونه بكلّ خير.
وقد استقيت عددًا من معلومات هذا المقال من مصادر مصريّة منها المجمعيون في خمسة وسبعين عامًا بإشراف رئيس مجمع اللّغة العربيّة الدكتور محمود حافظ سنة 2007 وإعداد الدكتور محمد مهدي علاّم نائب الرّئيس والدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو المجمع.
عز الدّين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق