عندما انطلق مقاتلو «البنيان المرصوص» باتّجاه مدينة سرت لطرد داعش، تحدثت التقارير الإعلامية عن تمكّن التنظيم الإرهابي من تحويل مسقط رأس الزعيم الراحل للجماهيرية إلى قلعة محصّنة تحميها خيرة كتـــائب ما يسمى بجيش الخلافة مسلحة بترسانة فتاكة اقتنتـــها من المليشــيات المنسحــبة من المنطقة. أما اليوم ومجموعـات المحــرّرين القادمــين من مصراته يقفون على أعتاب آخر الأحياء التي استعصت على الاجتياح فالأسئلة ونقاط الاستفهام تعدّدت: أين اختفت الأسلحة الثقيلة التي قيل إنّ الإرهابيين نصبوها لرد الهجوم ؟ كيف تبخّر آلاف المقاتلين في أرض المعركة ولم يرصد لهم موقـف مواجـهة أو صمــود؟ هل انتهـت العمليـات دون أن يتمكن المهاجمون من أسر ولو قيادي واحد أو عرض قتلى الإرهابيين وكأنّ تحرير سرت يجري خارج سياقات الحروب المعاصرة حيث الصورة جزء من الذخيرة إن لم تكن أهمها ؟ أسئلة تؤشر لتعقيدات العملية التي تشوبها عديد التناقضات ويشقها تضارب المصالح بين المشاركين فيها.
لم يكن بسط الدواعش سيطـرتهم على سرت تتويجا لمعارك وحروب بل كان ثمرة صفقة سلمت بموجبها المدينة للإرهابيين من طرف كتائب مصراته التي تقاتل اليوم ضمن «البنيان المرصوص». لقد اندرج التسليم للمدينة ضمن استراتيجية الصدام بين مصراته والجيش الليبي بقيادة الجنرال حفتر المتمركز شرق سرت على مشارف الهلال النفطي. فتنظيم داعش الإرهابي، خلافا للدعاية التي روّجت لها الدوائر الرسمية المقرّبة من حكومة فائز السراج لا يعدّ فصيلا معاديا ولا قوة مسلحة مدرجة على لائحة المنظمات التي تتحتّم مواجهتها بل هو حليف ورأس رمح يمكن استغلاله في المعركة الكبرى ضد العدوّ الرئيسي لمصـراته وحلفـائها في الغرب الليبي .
وهذا ما فسّر الموقف المتسامح والمتواطئ لما يزيد عن العام من طرف التحالف الحاكم في طرابلس إزاء تصرّفات التنظيم الإرهابي في سرت والتي شملت الإعدامات الجماعية لأبناء القبائل المحلية والحرابة و بتر الأعضاء والاعتداء على الممتلكات والمقامات الصوفية لمدينة مثّلت تاريخيا قلعة من أهم ثغور الصوفيّة المرابطة.
مسارات المعركة
إنّ مجريات المعركة التي دخلت شهرها الخامس تدل على اعتماد المجموعات المتبقية لداعش الإرهابي داخل المدينة على تكتيكات التفجير عن بعد مستغلة في ذلك ضعف التدريب لمقاتلي «البنيان المرصوص» وقلة أعداد تقنيي إبطال المفخخات في صفوفهم. وقد أشارت بعض التعليقات الصـحفية من مصراته إلى هـروب آمـن للقـيادات الداعشـية من سرت وأساسا المجموعات المسماة بجيش الخلافة ذي التكوينة القبلية المحلية والكوادر القادمة من المشرق والخليج في حين انحسر حضور التنظيم الإرهابي داخـل الأحـياء المحاصـرة في مجموعـات ما يسـمّى بـجيش الـولاية الـذي يعتمـد في تجنيده على العناصر القادمة من تونس والسودان وباقي دول الساحل والصحراء. وتمثل هذه المجاميع آخر مربع لتفجير الذين أُهدر دمهم من طرف أبناء المدينة وجوارها لتورطهم في عمليات الإعدام والصلب والسبي ضد القبائل.
إن التّستّر عن مجريات المعارك وحصرها في الإعلان الدوري عن تحرير الأحياء تباعا ساهم في تصاعد النقمة داخل مصراته ذاتها. فالمدينة دفعت غاليا جدّا ضريبة الدم لتحرير مدينة سرت، حيث ارتفع عدد الشهداء إلى ما يزيد عن الأربع مائة وفاق عدد الجـرحى الألفين. وتعدّ هذه الأرقام بمثابة الكارثة على المستويين الإنساني والعسكري إضافة إلى انتشار وتوسع الخطـــاب التشكيــكي لماهية المعركة ومغزاها داخل أوساط العائلات المكلومة . لقد ارتفعت أصوات العديد من مثقفي مصراته للتنديد بقلّة الإعداد لمعركة سرت وبعشوائية القيادة وبفساد بعض قادة المحاور الذين فتحوا معابر الهروب للدواعـش وعائلاتهـم مقابـل المال وبانهيار المنظومة الصـحية المحـلية وما انجرّ عنهـا من وفــاة عدد كبـير من الجرحى لعدم توفّر الرعاية الكافية في حين ينتقل المقاتلون في صفوف بعض الفصائل الإرهابية على غرار مجلس شورى مجاهدي بنغازي ومن بينهم دواعش إلى الخارج للتدواي على نفقة الدوائر الحكومية في طرابلس .
أيّ حلول في الأفق ؟
على الرغم من الغضب الشعبي داخل مصراته ضد حملة «البنيان المرصوص» فإن اصواتا عديدة في طرابلس لم تنفكّ تدعو إلى «تطوير» العملية بدفعها نحو احتلال الهلال النفطي والاصطدام بالجيش الليبي مما يفتح الباب لحرب أهلية شاملة تدور رحاها حول الثورة ويكون وقودها شباب مصراته وبرقة الذين كانوا أول من انتفض ذات شهر فيفري من عام 2011. هذه الدعوات إنما هي صدى لفتاوى الشيخ الصادق الغرياني وتحريكه لسرايا الدفاع عن بنغازي وعمليات تحشيد المليشيات ذات الخلفية التكفيرية للهجوم على معـاقل الجـيش الليبـي لا فقـط في شرق ليبيا ولكن أيضا في جبل نفوسة وجفارة والجنوب.
إن أصحاب دعوات الحرب الشاملة مقتنعون أن المضي نحو المواجهة الشاملة لن يحظى بأي مسوغات الانتصار ما لم تكن فصائل مصراته وبالخصوص كتائب الحلبوص والمحجوب في الصفوف الأمامية لقتال وحدات الجيش في المواني والآبار النفطية الممتدة شرق سرت.
إن بناء هذا التحالف يستوجب انخراط أوسع طيف اجتماعي في مصراتة هذه المدينة التي تشهد تغيرا عميقا في مزاجها الشـعبـي وإعادة صيـاغة لتمــوقـعها السـياسي داخـل المـعادلة اللـيبية بعد سنــــوات من التحالــف العضـــوي مع الإسلام السيــاسي. فالمـــدينة دفعــت من دماء شبابها الثمـــن الأغلى في حروب الحكومات المتعاقبة على طرابلس وتشتت قواتها على امتداد الجغــرافيا الليــبيـة وانخـرطــت في صراعات قبلية محلية دون أي أفق للحل. بناء على هذا الواقع الاستراتيجي الدقيق، بدأت مصراته مشروع المصالحات مع أعداء الأمس وأمّنـت خـروج فــصـائلـها المسلّـحـة من بــؤر الصـّراع في العديد من مناطق ليبيا.
المصالحات لتفادي الاقتتال الأهلي
لقد كانت المصالحــات مع ورشفـانــة في الغرب الليبي فاتحة السلم على أبواب العاصمة طرابلس ثم تلتها توافقات جبل نفوسة قبل أن تمتّد إلى فزان في الجنوب. أما اليوم فالتحدّي الأبرز أمام القوى الأساسية في ليبيا والمتمثلة في قطبي الصراع أي الجيش الليبي بقيادة الفريق حفتر وحلفائه من الزنتان والكتائب القبلية الملتـزمة بفـكر الجمـاهيـريّة من جهة والمجاميع المسلحة لمدينة مصراتة من جهة أخرى هو العبور إلى توحيد البندقية وبناء جيش وطني ذي عقيدة تعتمد الدفاع عن استقلال القرار الليبي وتكامل كلّ مكونات الطيف المجتمعي دون إقصاء أو تهميش .
تقف ليبيا اليوم أمام مفترق طرق مصيري قد يفتح الأفق نحو حلّ تــاريخي يفضي إلى بناء دولة تجمع كل الفرقاء تحت سقفها أو يفجر الأوضاع فيزيد المشهد انشطارا وتشظّيا وقد يكون فاتحة التقسيم النهائي لهذا القطر المغاربي. وقد مثلت لقاءات تونس الأخيرة مؤشرا لرسم الحل التوحيدي لليبيين خاصة عندما طرح ممثلو القوى المسلّحة الأساسية فكرة بعث مجلس عسكري أعلى يضمّ كتائب مصراتة والجيش الليبي بقيادة الفريق خليفة حفتر. إنّ طرح هذه المبادرة وفي هذا التوقيت يدل عن الوعي المتنامي لدى أبرز أطراف الصراع بعبثية الحرب والبلاد على شفى التقسيم والاحتلال التدريجي تحت عديد المسميات والواجهات وتصاعد الدعوات الغربية لرهن ثروة الأجيال بدعوى تمويل إعـادة الإعمـار. إنّ جلوس القائد الميداني سالم جحا المصراتي، أول المنتفضين على القذافي في المنطقة الغربية، إلى نفس المائدة لممثلي الفريق حفتر في العاصمة التونسية جسّد إرادة لتجاوز حالة الانقسام وإلغاء لشعارات الاقتتال الأهلي. ولكن بالمقابل، تحركت المجمــوعات الميليـشياوية التـكفــيرية في العاصمة طرابلس وغيرها من المجاميع الإجرامية على امتداد جغرافيا الفوضى الليبية لتنفيذ عمليات التفجير والإرباك الأمني حتى تقطع الطريق أمام أي خطاب عقلاني سلمي توحيدي.
في خضم الصراعات والتوافقات التي تتقاذف الواقع الليبي يمكن لدول الجوار أن تلعب دور الداعم لقوى السلم و تعمل على تأمين طوق سياسي لتجاوز حالة الانقــسام السيـاسي بتوفـير مـا أمكـن من فرص الوئام بين الفرقاء المحليين الذين يرتبط جلهم بمحاور اقليمية وبصداقات أو ولاءات لأنظمة بعينها.
إنّ إحلال السلم و قيام الدولة في ليبيا لن يعني فقط عودة الأمن إلى ربوع هذا البلد الجار واختفاء التهديد الإرهابي على حدودنا بل عودة قوية للاستثمار وفتح أكبر ورشـة إعادة إعمـار في الإقلــيم. من المؤكد أن يكون للفاعلين الاقتصاديين التونسيين دور بارز في تنفيذها و هذه بحدّ ذاتها من أهم الأسباب لمزيد الانخراط لدبلوماسيتنا في الدفع نحو الحل وربط العلاقات المميزة مع الشبكات القبلية والمحاور السياسية في ليبيا دون إغفال السمعة المحترمة لتونس في أوساط المجتمع العشائري لجارنا الجنوبي وأنّه باستثناءات قليلة قد يكون حوار المصارحة الأخوي كفيلا بتجاوزها.
د.رافع الطبيب