الصّحبي الوهايبي: رحلة في السّنوات
سنة 2068: هوامش من سنة 1976: في تلك السّنة، وأنا طالب، حائر أبحث عن سكن، بعد أن استوفيت وزيادة حقّي في السّكن الجامعي، دعاني صديقي منصف الهمّامي، وهو موظّف صغير حينها، في ديوان التّشغيل، أن أقاسمه الشّقّة التي اكترى في نهج «رولان قاروس» في مدينة أريانة، وهي في الأصـــل غـرفة وحيدة على السّــطوح، مازلــتُ، إلى يوم النّاس هذا، وأنا المهندس المعماريّ المتمرّس، حائرا كيف قَدَر صاحبها أن يفصّلها، ليضيف إليها غرفة ثانية ومطبخا وبيت حمّام! وصديقي منصف رجل وَدودٌ ألُوفٌ، ليس فيه ما يعيب، لولا عادته السّيّئة على الطّعام، فلا يلذّ له أكل إلاّ إذا قرع الملعقة في قاع الصّحن، وأريانة على أيّامها، مدينة هادئة ساكنة، لا يعكّر سكون ليلها إلاّ صليل ملعقة صاحبي! وأنا أترجّاه أن يخفّض من صوتها، وهو يعاند كحال كلّ همّامي:«وكيف يستقيم الطّعام دون صوت؟ في الصّحن وبين الفكّين وفي البلعوم!»؛ وأنا جالس هذا اليوم من شتاء 2068، في مطعم متواضع في نهج ابن خلدون، أتناول فطوري على مضض، فليس من عادتي أن أجلس إلى الطّعام وحيدا، مِلتُ إلى الرّجل الذي استوطن الطّاولة المحاذية وسألته متودّدا:«أنت همّامي؟ أليس كذلك؟»، وكفّتْ ملعقته عن الصّليل، وهو يسأل:«تبارك الله! وكيف عرفت؟».
سنة 2069: هوامش سقطت من دفتر الذّكريات. كان ناجي الشّنيتي رفيقُ الدّراسة سنواتِ الثانويّ، أواخرَ ستّينيات القرن الماضي يقاسمني الطّاولة الثّانية في الصّفّ اليسار، وتلك طاولتنا المخصوصة في كلّ قاعة، وما أحسب نفسي أصيب من العلم ولو نزرا قليلا لو جلست إلى طاولة غير طاولتي الثّانية في الصّفّ اليسار! وناجي يكاد لا يكتب شيئا، وأنا أحثّه وأستحثّه:«اكتبْ قبل أنْ تُمْحَى السّبّورة!»، فيميل إليّ بعيــنيه الماكرتين، وينقر بالوســطى على رأســه:«العلم في الرّاس وليـس في الكرّاس»؛ و«مسيو كواتانون» أستاذ الكيمياء لا يكتب كلمة حتّى يمحوَها، إصـــبع الطّــباشـير في اليسرى والطّلاّســة في اليمنى توشك أنْ تمحُوَ الحرفَ قبل أن يُكتب! لذلك بقِيتُ أتطيّر كلّما رأيتُ في اليمين طلاّسة! ولم أدرك أنّ صاحبي كان كفيفا إلاّ آخر السّنة الدّراســيّة، في امتحان الرّياضة، وقد خَذَلَتْه عيناه، حين وثب وثبته العالية خطواتٍ قبل أن يبلغ الحبلَ الحاجز؛ وهو نفسه لم يكن يدرك أنّه كان كفيـفا، «وما معنى أنْ أكــون كفيفا؟» فـــأدوخ في أمره ولا أدري ما أجيب؛ وأسأله كيف كان يكتب على قليـــل ما يكتب؟، «وما دخْل عَيْنِي؟ يدي هي التي تكتب! يا صحبي، حتّى لا تكونَ عينُك عبــــئا على يــدك أو على رِجْلك، دعْ كلّ طرَف يتدبّر أمره!»؛ وكان، وهو المُتيّم بحبّ الشّبيبة الرّياضيّة القيروانيّة، يرافقنا نحن أترابَه إلى ملعب «عليّ الزّواوي»، وأسترق النّظر إليه وهو طالع نازل، لا يسـتقرّ في مقعده، يصفّر ويصفّق:»لمسة يد! الهدف حرام، ابن حرام!»؛ والحَكَم يراجع مساعده ثمّ يلغي الهدف! «ألمْ أقل إنّه حرام ابن حرام؟». هل كان ناجي كفيفا، وهل كنّا نحن مبصرين؟
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق