أخبار - 2016.09.04

عامر‭ ‬بوعزة: الطّفل‭ ‬يُولد‭ ‬فنّانا

عامر‭ ‬بوعزة: الطّفل‭ ‬يُولد‭ ‬فنّانا

في نهاية السّبعينيـــــات، أقامت المدرسة الثّانوية بنهج عبد الرّزاق الشّرايبي معرضها الأوّل للفنون التّشكيلية في قاعة الأخبار بالعاصــمة، كان ذلك حـــدثا هـــامّا على الصّعيدين الثّقافي والتّربوي، فتقديم أعمال فنّية لتلاميذ لا تتجاوز أعمارهم الرّابعة عشرة من العمر في واحدة من أهمّ قاعات العرض كان تتويجا لمجهود كبير في سبيل الملاءمة بين تبليغ المعارف العلمية وتطوير المهارات الفنية، وقد جعل هذا التّلاحم بين التّعليم ورعاية المواهب المدرسةَ فضاء ًحقيقيّا للإبداع.

لم تقتصر المشاركة في المعرض على روّاد نادي الفنون فحسب، بل عمدت الإدارة إلى اختيار أفضل الرّسوم التي أُنجزت في نطاق البرنامج الدّراسي، ثم طُلب من كلّ تلميذ وقع الاختيار عليه أن يتهيّأ لتقديم رسمه أمام وزير الثّقافة الذي جاء ليدشّن المعرض بنفسه، فكان استقبال الشاذلي القليبي يومها ومصافحتُه ثم عرضُ تقديم موجز لمحتوى الرّسم وأبعاده الدّلالية اختبارا حقيقيّا في التّعبير عن الذّات والوثوق في النّفس وقوّة الشخصيّة، ولم تمض سنةٌ على ذلك اليوم المشهود حتى بادرت المدرسةُ إلى طبع كتاب يتضمّن كلّ الرّسوم التي عُرضت، وكتب مقدّمة هذا الكتاب الأديب الكبير مصطفى الفارسي تحت عنوان: الطّفل يولد فنّانا!

لم تكن مدرسة نهج عبد الرزاق الشرايبي الثانوية يومها مدرسة كبيرة بالمعنى التقليدي للكلمة لكنها كانت نموذجا حيّا للمدرسة النّاجحة، وعبارة الطّفل يولد فنّانا لم تكن مجرّد عنوان لكتاب توثيقيّ بقدر ما كانت عنوان مرحلة كاملة وفلسفة في التّربية لا يُستهان بها، فبعد أربعين عامًا تحلّلت كثير من التّفاصيل المدرسيّة اليــوميّة في الذّاكرة وترسّبت في قاعها أو ذابت، لكنّ ذكريات نادي المسرح والموسيقى والرّسم والبراعة اليدوية ماتزال حيّة نابضة بالحنين، وما تزال وجوه المشرفين عليها مشرقة في سماء العمر، هذه النّوادي لم تكن تهدف إلى اكتشاف مواهب استثنائيّة لإلقائها في ساحة الكبار كما يحدث الآن، إنّما كانت تتعامل مع الطّفل بوصفه فنّانا مكتملا.

وما أحوجنا اليوم على سبيل الاستئناس بهديها إلى مقاربة التّجارب السّابقة في التّربية والتّعليم مقاربة موضوعيّة عميقة لا تتوقّف عند حدود الأفكار الانطباعيّة الرّخوة والأوصاف المائعة، فالبعض عندما يتحدّث عن مدرسة الماضي يكاد لا يذكر منها غير كأس الحليب الذي تُطعم به الدّولة فقراءَ الحال في فترة الاستراحة أو حملات التّطعيم المجّانية ضدّ الشّلل والكزاز أو العصا التي يستخدمها معلّمون أشدّاء غلاظ لتحفيظ تلاميذهم جداول الضرب، بينما هي تجربةٌ في الحياة أوسعُ نطاقا وأبلغ معنى، إنّ مدرسة الزّمن الجميل هذه جزءٌ من تصوّر شامل للعمليّة التربويّة محوره الانسان، تصوّر يعتبر الطّفل منجما خصبا للطّاقة الإبداعيّة الخلاّقة ويعتبر الفنّ أداةً لصياغة الشّخصيّة الاجتماعيّة.

عامر‭ ‬بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.