عزر بعل والنّظام الملكي في قرطاج

في كتاب عنوانه «حياة قرطاج وموتها» أفرد جيلبار شارل بيكار وزوجته كولات بيكار صفحات مطولة عن الملوكية في قرطاج استنادا إلى نصوص إغريقية استعملت فيها كلمة باسيلوس التي تعني «ملك» ونجد مؤرّخين لاتينيين يستعملون ريكس وهي لفظة لاتينيّة تعني «ملك» وكان المؤرّخون القدامى من رومان وإغريق يستعملون هذه أو تلك لنقل الكلمة الفينيقية سبط ذات الحقل الدّلالي الفسيح. فلمّا لم يجد المؤرّخ الاغريقي في لسان قومه كلمة تتطابق في مدلولها مع الكلمة البونية  سبط لجأ إلى معادلتها بالكلمة التي تشير إلى الملك.

ومعلوم أنّ السبط في قرطاجة يمثّل السلطة التنفيذيّة فهو المكلّـف قانونا بتنـفيـذ ما تقرّره السلطات التشريعيّة المتمثّلة في مجلس الشيوخ ومجلس الشعب وكان السبط ذا نفوذ دستورية يضبطها القانون ولا علاقة لها بالنفوذ الملوكية كما كانت معروفة عند الفرس والحضارات الشرقية السامية في وادي الرافدين أو في المدن الكنعانية وعند بني اسرائيل من داوود إلى الغزو البابلي وغيرها فثابت أنّ قرطاج لم ينشأ فيها نظام ملكي بل في النصوص القديمة ما يثبت تاريخية  النظام الجمهوري منذ القرن السادس قبل الميلاد ولا أدلّ على ذلك من المأساة التي عاشها أحد قادة الجيش القرطاجي يدعى ملكوس وأورد أحداثها المؤرّخ اللاتيني يوستينوس ومضمونها كالتالي: في القرن السادس قبل الميلاد، رفع ملكوس صولجان قرطاج في صقلّية ثمّ كلّف بغزو سردانيا لكنه فشل فاستاء القرطـاجيون من فشـله وحكمـوا علــيه وعلى أشلاء جيشه المهزوم بالإبعاد. اغتاظ ملكوس من حكم جائر وأرسل وفدا إلى قرطاج  يطلب السماح له ولجيشه بالرجــوع إلى وطنهم ولكن أعرضت عنه قرطاج ورفضت رجاءه فأعلن أنه لن يتردّد في اللجوء الى العنف وافتكاك ما لم يستطع الحصول عليه بالتوسّل .ولمّا بقيت مساعيه دون جدوى، غادر سردانيا على رأس جيشه وأرست سفنه قبالة المدينة حيث أقسم الجميع باسم الآلهة وباسم العباد أنّهـم لم يأتـوا للاستيـلاء على الحريات ولكن للعودة إلى وطنهم وإقناع مواطنيهم أنّ الهزيمة أرادها الحظ غير عابئ بما أبدوه من شجاعة وإقدام ثم انقطع الاتصال وضرب الحصار على المدينة فتملّك اليأس الجميع.

وفي الأثناء، كان قرتلون ابن القائد ملكوس في طريقـه إلى صور ليسلّم إلى خزينة معبد ملقرت عشر الغنائم التي جلبها أبوه إثر انتصاره في صقليّة. وإذ مرّ قرتلون بالقرب من المعسكر، طلبه أبوه فلم يستجب متمسّكا بما يمليه عليه الواجب الديني دون اعتبار واجب الأبوّة فاغتاظ ملكوس من موقف ابنه لكنـه أبى المسّ من عظمة الآلهة في شخص الكاهن وبعد أيّام قلائل عاد قرتلون أدراجه ومعه جواز مرور من مجلس الشعب وشاهده الجميع وهو يرفل في حلل الأرجوان ويحمل شارات الكهانة فأخذه أبوه جانبا وقال له: هل تجاسرت، يا مجرم وآثرت لمعان الذهب والأرجوان  لتبهر مواطنيك الأشقياء بلمعان الذهب و بريق الأرجوان وتدخل كالمنتصر تتحلّى بشارات الراحة والسعادة إلى معسكر ملؤه الحزن والدموع؟ ألم يكن في إمكانك التبرّج أمام أناس آخرين؟ فهل لابدّ من اختيار هذا الفضاء الشاهد على تعاسة أبيك وألم منفاه؟ لقد دعوتك لتمثل أمامي لكنك رفضت رفضا مهينا لا أقول ما طلبه منك أبوك ولكن رئيس مواطنيك! فهذه البدلة الأرجوانية وهذه التيجان التي تتحلّى بها ألا ترى أنّ كلّها عناوين انتصاراتي؟ وما دمت لا ترى في أبيك الاّ الشخص المنفى، فأنا، بدوري، أريد ألاّ أكون الّا قائدا عسكريّا وأعمل على أن تكون أنت مثالا لحماية الآباء من نكد الأبناء وإهانتهم... وفي الحين أمر أن يشدّوه وهو لابس بدلته الطقوسية إلى صليب طويل جدّا حتّى يشاهده كلّ من في المدينة.

وبعد أيّام قليلة تمكّن ملكوس من فتح المدينة واحتل رحبتها وجمع الشعب واشتكى له من ظلم نفي أجبره على حمل السّلاح وصرّح أنه سعيد بانتصاره وسيقتصر على معاقبة الذين كانوا سببا في هذه الكوارث ويعفو على الآخرين حتّى ولو ساهموا في الحكم عليه بالإبعاد ظلما. ثمّ أمر بإعدام عشرة من أعضاء مجلس الشيوخ وأعاد المدينة إلى أهلها ولكن سرعان ما اتهم بالسعي وراء الملوكية وتمّ عقابه من أجل جريمتين اثنتين: إحداهما في حقّ ابنه والثانية في حق الوطن (13).

ففي هذه الرواية معلومات ثمينة أشبعها المؤرّخــون تحليلا ونقـدا ولمّــا كان بـطل هذه الأحداث يسمّى ملكوس لم يتردّد جيلبار شارل بيكار في الانقضاض على  الاسم ليقول إنّه مشتقّ من لفظة «ملك» واستنتج من ذلك أنّ القـائد الذي أشـرف على المعــارك في صقليّة وسردانيا هو ملك قرطاج في ذلك الزّمن فواضح أن المؤرّخ الفرنسي جيلبار بيكار لم يتردد في استعمال اسم ملكوس حجّة وهي تضاف إلى ملفّ يثبت تاريخية النظام الملكي في قرطاج وهو في الواقع اسم  علم مختزل فعوض أن يُسمّي القائد القرطاجي باسمه كاملا وقع اختزاله. فالأرجح أنّ القائد القرطاجي الذي تحدّث عنه يوستينوس كان اسما ثيوفوريا يتركب من اسم ملك يضاف إلى اسم الهي مثل عشترت فيكون الاسم الكامل ملكعشترت (14) وقد يكون ملك اسما إلهيا يكون مبتدأ ويكون الخبر فعل يتن بمعنى أعطى فيكون الاسم الكامل «ملكيتن» ومعناه الملك أعطى أو عطية الملك والملك هنا هو الاله ويرخّم في صيغة ملك ولكن عند استعماله من قبل الرومان يضاف إليه لاحق الأسماء اللاتينية وس فيصبح ملكوس وهو ما حدث في نصّ يوستينوس فلا علاقة له إذن بنظرية النظام الملكي حيث حشره جيلبار شارل بيكار (14).

يعتقد بعض المؤرّخين أنّ نظام الحكم في قرطاج كان ملكيّا من فجر تاريخ المدينة إلى منتصف القرن الرابع قبل ميلاد المسيح وهو ما لانتبنّاه... فقرطاج لم تعرف الملوكية وقد جـاء في الأسطورة أن الأميرة عليسة، صاحبة المشروع، انتحرت وتركت الأمر في عهدة الذين كانوا معها ثمّ إنّ كلمة ملك ببعدها السيـاسي لا وجـود لها في النصـوص البونية التي عثر عليـها في قرطاج مع العلم أنّ كلمة ملك في معناها السياسي توجـد في نقائش المدن الفينيقيّة كصيدا وجبيل كما توجد في نقائش قسنطينة الجزائرية التي كانت تسمّي في عهد الملوك المصوليين كرتن، هذا والذين ينتصرون إلى تاريخية النظام الملكي في قرطاج وهم كثيرون يستندون إلى نصوص إغريقية تتعلق بقادة قرطاجيين يحملون لقب باسيلوس بمعنى الملك فهيرودوتس يتحدث عن الملك عبد ملقرت الماجوني الذي كان على رأس الجيش القرطاجي في بداية القرن الخامس قبل ميلاد المسيح ولكنه ملك منتخب وهو لقب لا يمرّ إلى الأبناء بالوراثة بل لا يكون إلاّ بالاقتراع وعلى أساس مقاييس يضبطها القانون. وفي تقديمه لدستور قرطاج استعمل أرسطو الكلمة الاغريقية التي تعني «ملك» ويثبت أن الملك ينتـخب على أساس الكفاءة والوجـاهة  ولا دخل للســن في مواصفات المترشحين للخطة مع العلم أن  الانتخاب كان لمدّة سنة واحدة مع إمكانية التجديد. لقد سبق أن أشرنا الى النصوص اللاّتينية التي تستعمل لفظة راكس التي تعني «ملك» واعتمدها بعض المؤرخين لصالح تاريخية النظام الملكي في قرطاج وهو موقف لا يصمد أمام نقد النصوص وتحليلها فلا أحد يشك في استعمال لفظتي باسيلوس وراكس من قبل المؤرّخين القدامى ولكن يرجّح أنّ كليهما استعمل لترجمة كلمة سبط.

كان نظام الاسبطية من خصائص الواقع السياسي في العالم الكنعاني فليس له مرادف أمين يؤدّي نفس المعنى في النظم الإغريقية اللاّتينية ولتجاوز العجز لجأ كل من الاغريق والرومان إلى الكلمة التي تعني «ملك» وانطلاقا من ذلك نشأت نظرية النظام الملكي في قرطاج لدى بعض المؤرخين المعاصرين. ولئن وجدت هذه النظرية استعدادا وترحابا لديهم فلا يخلو ذلك من واعز عنصري: ومعنى ذلك أن بعض المفكرين الغربيين المتأثّرين بنظريات عرقيّة استعمارية يؤمنون بتفوق العرق الذي ينتمون اليه ويرون الآخر لاسيما إن كان من غير بني جلدتهم عاجزا عن تصوّر نظم دستورية وإنجاب حكم ديمقراطي وفي اعتقادهـم لا يمكن لمثل قرطاج إلاّ العيش في ظلّ حكم فرديّ مطلق وكأنّهم ينزّهون الديمقراطية والنظام الجمهوري من خطيئة الوجود في وسط ساميّ كالذي ساد في قرطاج.

وما دمنا مع رواية يوستينوس لابد من الإشارة إلى عناصر تثبت وجود نظام قرطاجيّ لا علاقة له بالنظام الملكي بل نظام تعدّدي ذي مؤسّسات تدير شؤون المدينة ومنها مجلس الشيوخ ومجلس الشعب: فعندما أراد قرتلون مقابلة أبيه في منفــاه مع ما تبقّى من جيشه المهـزوم، كان لا بدّ له من جواز مرور يمنحه شعب قرطاج فكان لا بدّ من موافقة الشعــب للحصـــول على ذلك الترخيص ممّا يؤكّد أنّ نظام الحكم في قرطاج كان إذذاك بيد الشعب ثمّ  لمّا زحف ملكوس على قرطاج واستولى عليها جمع الشعب ليثبت  براءته ويطلب منه الغفران معوّلا على كرمه وحلمه ولئن توجه ملكوس الى شعب قرطاج فذلك لأنّه كان يؤمن بوزنه في اتخاذ القرار وجاء في صلب هذه الرواية أن ملكوس أمر بإعدام عشــرة من أعــضاء مجلس الشيـوخ وفي هذا الخبر شاهدة على وجود مؤسّسة تسمّى مجلس الشيوخ في قرطاج وهكذا نتبيّن أن لقرطاج خلال القرن السادس قبل الميلاد نظاما يستند الى مؤسّستين جمهوريتين وهما مجلس الشعب ومجلس الشيوخ.

تعاقبت القرون والأجيال وقرطاج متشبثة بنظام جمهوريّ وقد ثبت أنّه يستند إلى دستور تولّى وصفه الفيلسوف الإغريقي أرسطو ونوّه بما كان له من توازن بين الفئات والمؤسّسات وحكم بتفوّقه على دساتير المدن الإغريقية المعاصرة لقرطاج مؤكّدا أنّ قرطاج لم تشك طيلة تاريخها تمرّدا ولا طاغوتا وكل من سعى إلى التغوّل والتفرّد بالحكم في قرطاج وقف الشعب في وجهه وكسر شوكتـه بالإبعـــاد أو بالإعدام وقد ذكر المؤرّخون عاقبة الذين غذّوا ذلك الطموح المشؤوم.

فالأسباطية في قرطاج تفيد الحكم والقضاء فالسـبط يقضـي بين الناس ويختلف الأسباط من حيث الميادين التي يتولّون إدارة شؤونها فكان في قرطاج وفي غيرها من المدن البونية قضاة أو كما يقال في قرطاج أسباط مختصون في شؤون العدالة ويستوجب عملهم اذذاك معرفة القوانين والأعراف التي يعتمدها الأسباط للقضاء بين الناس بالقسط وهناك قضاة سياسيون يسهرون على سلامة القوانين ومدى تطابقها مع الدستور وهناك صنف من القضاة يتولّون شؤون الإدارة اليومية فكلمة سبط تطلق على جميع هذه الأصناف.

محمّد حسين فنطر