عز الدّين المدني: هل تدهورت اللّغة العربيّة في تونس؟
قال شاعر أقوالا كثيرة ننتخب منها ما يلي وهو شاعر بين عمرين أو بين جيلين، كأن تقول إنّه شاعر مخضرم، يعرف الكثير عن السّابقين والجمّ الغفير عن اللاّحقين، رغم أنّه لا ينتمي لأولئك ولا لهؤلاء. وله أفكار في غير الانتماء. لا يحبّ الظّهور ولا التّظاهر بما يعرف وبما جرّب وبما خبر، أي أنّه لا يتخفّى على كلّ حال.
لقد خبر اللّغة العربيّة بشقّيها الدّارجة والفصحى. فانطلق من تونس في تفكيره بوصفها موقعًا للثقافة والحضارة واللّغة وذلك في سبيل كتابة لغته العربيّة، لا ممّا حفظه في المدرسة ولا في المعهد، بل من لغة تونس لا من النّصوص المشرقيّة الحديثة، لا من المعاجم اللّغويّة العامّة الّتي صدرت خلال القرن الـعشرين في لبنان ومصر وسوريا والعــراق. وله في كلّ هذا آراء ونظـــــريّات طــريفة لم يقبلها إلاّ القليل المهمّ من المتعلّمين والمثقّفين والكُتاب والشّعراء والفنّانين.
من ذلك كان يقول بأنّ اللّغة العربيّة المتكوّنة في جوانب عظيمة منها من الشّواذ بالإضافة إلى القواعد النّحويّة والصّرفيّة ممّا جعلها تتمتّع بقدر وافر بل هائــل من الحــريّة، لا يمكن بأيّة حال من الأحوال إبعاده ذلك القدر والتّعتيم عليه. الحريّة هي الّتي تبتكر وتبدع وتخلق مثل الحياة على هذه الأرض تمامًا. وكلّ لغة إنسانيّة لا تبتكر ولا تخلق فهي تموت. ظاهرة معلومة منذ الأزل يا صاحبي! على أنّ حصر اللّغة في القواعد يضرّ بها الضّرر الفادح، وأنّ جعل القواعد هي المركز وأنّ غير القواعد هي الأطراف فهذا قول كلّه حَيْف وظلم. وحسب ادّعاء بعض النّحاة واللّغويين أنّ القواعد هي الأغلب الأعم في تكوين اللّغة العربيّة. هذا رأيٌ مغالٍ ووُثوقيٌّ كلّه شطَط! فكلامهم مثل كلام الفقهاء الّذين يسعون في تسليط رؤاهم على الأجساد والأرواح والقلوب، مثل كلام السّياسيين أصحاب السّلطة على حياة النّاس، مثل كلام الايديولوجيين الّذين يفبركون العقول والمعتقدات، ولكن ليس مثل كلام العلماء أهل البحث والحقيقة.
هؤلاء النّحاة يسمّون كلّ نافر وشارد وناشز عن حظيرتهم شاذًا يُحفَظ ولا يقاس عليه! وحينئذ لا قيمة له! وكلامهم هذا إنّما هو كلام التّقعيد والتّقنين والصّياغة المُقَوْلبة والحصر ونحت تمثال للنّموذج الأمثل. وكأنّهم يقولون بأنّ النّافر والشّارد والنّاشز لا يمكن الانتصار لهم ولا حتّى مجرّد ذكرهم لأنّهم يشكّلون أسباب التّشتّت والانحلال بل الفوضى والهلاك، بينما نحن معشر النّحاة ندعو إلى الوحدة وإلى التّوحّد، إلى الواحد الموحّد، ففي ذلك نجاة اللّغة العربية في كلّ زمان ومكان ! إلاّ أنّ نجاة اللّغة العربيّة تكمن في استعمالها على أرحب نطاق في المجتمع، في الشّعب مع تيسيرها وتسهيلها وترويجها وإشاعتها والاعتزاز بها في كلّ وضع وكلّ موقف.
وكان يقول شاعرنا هذا: إن أصول اللّغة العربية عديدة أوّلاً ثمّ إنّ قدر الحريّة فيها عظيم جدًّا ثانيا. فليدرس من أحبّ لغة الجاهلية ولغة دولة الرّسول ولغة الخلفاء الأربعة ولغة الكوفة والبصرة والحجاز، ولغة الشّام ومصر، ولغة الفاتحين في البلاد المفتوحة، ولا يقتصر على لغة الأعراب عصرئذ بل ليتجاوزها إلى لغة المدن الإسلامية حتّى يلامس روح اللّغة العربيّة في فجرها المنفلق! وهل لا توجد الفصاحة إلاّ في لغة الأعراب والبدو؟ وهل لا توجد النّقاوة وطهارة الأصول إلاّ في الصّحراء لا في العمران؟
وقال: إنّي أنــطلــق من تــونس لا من مواقع أخرى. تونس هي المصدر والمرجع أحبّ من أحب وكره من كره! إنّي أكتب «شؤون» الهمزة على الواو، ولا أكتب «شئون» الهمزة على النّبرة، وأكتب «يقرأون» مثــل المعلّم الشّرتوني النّحــوي ولا أكتب «يقرؤون». كما في الكتب والجرائد المشرقية وأكتب «فنجال» باللاّم ولا أكتب «فنجان» بالنّون، ومعلوم حسب ابن جنّي العبقري وشيوخه الجِلّة الأعلام أنّ اللاّم أخت النّون أحيانًا. وأكتب «دوِيدَة» مثلما اقترحها العلاّمة حسن حسني عبد الوهّاب على مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة فرفضها له، ولا أكتب «مكارونه رقيقة». وأكتب «حُومـــة» لا بمعنى حي بل بمعنى الحُومة كجزء من الحيّ، ولا كساحة للخصام وميدان للحرب. وأمثلة كثيرة أخرى في رسم الكلمات وفي تحديد مساحات الدلالة وعلمها... ومن يقرأ المعجم الوسيط قراءة جدّ وتحليل وتعميق متأنّ يدرك ما أقصده ! .. وعلى كلّ فهذا الفرق في رسم بعض الكلمات إنّما هو إثراء للرّسم العربي... قال: تلك هي هويّتي التّونسيّة بوصفي شاعرًا عشت عصري. إنّي أؤكّدها كلّ التأكيد وأتشبّث بها. بدونها، فإنّي غير تونسي وغير شاعر عربيّ أكتب اللّغة العربيّة.
وقال: كأنّ بعض معاصريّ يشعرون أنّهم دخلاء على اللّغة العربيّة، وغرباء عنها، وأجـــانب بما أنّهم يعيشـــــون في المغرب!... فيتكلّفون الكتابة والشّعر لأنّهم يقلّدون غيرهم المشارقة، بما أنّ اللّغة العربيّة قد ولدت في المشرق وقد تربّى عليها المشارقة ولأنّهم يعتبرونهم النّموذج الكتابي الّذي يجب احتذاؤه والنّسج على منواله. فكيف يكون الإنسان شاعرًا، وهذه هي صفاته الرّديئة؟ فكيف يكون كاتبًا، وهو يحاكي سواه دون أن يدرك عقليًا أنّه يحاكيه ويقلّده وينسخه؟ وقد كان عبد الرّحمان بن خلدون يكتب عربية تونسيّة. ألم يستعمل كلمة «عَرَبْ» المرادفة لكلمة «بدو» في كلام شعب تونس قديما وحديثا؟ لكن المشارقة فهموا شيئًا آخر! من واجبات المواطنة أن يعتزّ المواطن بلغته النّابعة من تربته، وأن يناضل في سبيل الرّفع من منزلتها بين اللغات الأخرى. والشّعر والكتابة والأدب بشكل أعم هو الّذي ينشّط اللّغة ويروّجها ويشيعها ويجعل منها حياة حاضرة ومستقبلة وذاكرة وحضارة...
قال ناقد جريء في عهدنا هذا الّذي ساده اللّغو واللّغط والتّخريف وما أقلّ أمثاله، وما أندرهم، وما أخطرهم على شخصه وعلى النّقد الصّادق البعيد كلّ البعد عن التّزلّف والمداهنة والانحياز والباطل!
قال: اللّغة العربيّة خلال هذه السّنوات الأخيرة في طور الانقراض لدينا. وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بكلّ طاقتها الهزيلة الفانية. من يسمع كلامي هذا لا أريد أن يفهم أنّي أدعو إلى انقراضها، وإنّما هذه ملاحظاتي أستقيها من صميم الواقع لا تستند في شيء إلى الدّعايات الإيديولوجيّة والحزبيّة واللّغويّة الغازية. لا أطلب إلاّ حقيقة الأمور، وأتمسّك بالنّزاهة والحياد. الدّليل على ما أزعم أنّ الشّارع يغلي اليوم كبُرْمَة الحمّام بحُطام لغتنا العربيّة سواء كانت دارجة أو فصحى. أسمع تمزيق الجملة العربيّة تمزيقًا مدويًّا مروّعًا يَطْغَى على حسّ الشّارع وصَخَبه. فأشعر بآلامها الدّفينة في قلبي. أفزع عند كسر الجملة العربيّة بين اثنين من المتكلّمين وأكثرهُمَا عددًا، فتَتَشَــظَّى إربًا إربًا، وتَتَهـــــــشّمُ على قارعة الشّارع، فأجري لاسعافها، وجبر جراحاتها، ولكنّ بلّور الكريستال قد لا يُجْبر. حزينًا بائسًا يائسًا أشاهد سلخ الجملة العربية كما يُسْلخ كبش العيد الأقرن النّطّاح، ثمّ تُقطع قوائمه بالسّاطور، فتُشوَى، وتُسْفَح دمـــاؤه، ولا أحد يهبّ لينقذه، وكلُّه أوجاع مبرّحة قاتـلة، ولا عيدَ ولا موسَــم، ولا قرابينَ. الدّمعة تجري من فكري، وأنا أتابع مسخَ حروف الهجاء العربيّة، مسخَ موسيقاها فرَقَّقُوا التّفخيم وفخّموا التّرقيق، مسخَ إيقاعاتها غير مبالين بالمَجْهُور وبالمَهْمُوس، مسخَ ترابط الكلمات والكلمات بالحروف... ومع ذلك، فهم فقراء في رصيدهم للكلمات، يردّدونها بمعانيها السّطحيّة، وهي قليلة العدد، ورغم قلّتها فهم يثرثرونها دائمًا وبلا انقطاع في كلّ حوار، وكلّ مناسبة، وفي غير مناسبة.
قال: إنّهم لا يعلمون أنّهم بكلّ ذلك ينالون من هويّة تونس، ولعلّهم لا يريدون أن يعلموا! ولربّما لا يدركون رمز الهويّة لأنّهم عراة الفكر، عراة المواطنة، عراة التّعبير. وكذلك، إنّهــم لا يعلمون أنّهم ألعوبة في أيدي العَوْلمة الّتي تقولب كلّ شيء قوالبَ قوالبَ ! وتجتثّ الرّوح بعد أن تضرب الهويّة في القلب... سيكون العالم شنيعًا إذا صارت هياكله كلّها ذات قالب موحّد واحد!
قال: ومن مصائب هذا الدّهر أنّ بعض وسائل الإعلام الجماهريّة إذا ما أرادت أن تعبّر عن برامجها وفحواها فإنّها تضطرّ إلى التّكلّم باللّغة العربيّة الفصحى! فتكون الكارثة! فتكون الفضيحة!.. فهي لا تحسنها بتاتًا فكأنّها غريبة أو أجنبيّة عنها، وإذا بها لا تحترم النّحو ولا الصّرف، ولا تنطق الكلمات صحيحة، فتأكل الحروف، وتسلخ الكلمات في إلقائهم المغشوش، وتردّد تعابير ممجوجة... وتروّج كلمات بغير معناها !!! والأمثلة عن كلّ هذا عديدة جدًّا، يعرفها المستمع والمتفرّج المتابع، ولذلك هو يفضّل أن يستمع إلى محطّة أجنبيّة أو أن يتـــفرّج على برامجها الأجنبيّة دون انفعال!...
قال: ومهما يكن من أمر، فإنّ الّذي يحترم لغته الوطنية فإنّما يحترم وطنه، ومن لا يحترم لغته فإنّما لا يحترم نفسه ولا يحترم وطنه ولا حياته ولا حياة أولاده!...
قال: انظر في أعمال بعض الباحثين، فهم يعذّبون اللّغة العربيّة تعذيب جهنّم ! فتخرج من أفكارهم الهزيلة لَغْوَجَةً معاقة غريبة، وحشيّة، مشوّهة ! عليها قناع العلم المزعوم، فيتعلّلون بالحداثة!!! وبالمصطلح المترجم عن اللّغات الأجنبيّة!!! والحال أنّ اللّغة العربيّة تؤدّي أدقّ المعاني مع حسن التّعبير وجماله.
قال كاتب في هذه الأيّام الأخيرة:
... والله لا أعرف أيّة وجهة أسلك !... وهذه المجموعة القصصيّة هي آخر أعمالي ... ليست هي الأولى بل السّابعة !!! كيف أنشرها؟ ومتى؟ وهي ثقيلة على قلبي منذ أربع سنوات ! أعند ذاك النّاشر الحقير؟ ! فكلّما قدّمت له عملاً جديدًا – يا سيّدي- أبرقتْ عيناه اندهاشًا بل استغرابًا، وصاح بسؤاله الخبيث، بإلقائه في كلّ مناسبة: أو مازالتَ تكتب؟؟؟ جميع الكُتّاب من شِنْـﭭايْ إلى شِنْـﭭِيطْ قد سلّموا، تركوا، انصرفوا، انقطعوا عن الكتابة والأدب، عن الصّحافة والفكر !!! إلاّ أنت؟ أنت الوحيد في هذا العالم الكلب !!!! سبحان الله وبحمده يا أستاذ! تلك هي مقدّمته المتناقضة بين الواقع وأفكاره الهزيلة قصد الدّخول في خصومة أخوية (!!!) معي، يلعب فيها أمامي دوره الأوّل المعهود، دور الضّحية المسكين، مع التبّكّي والتّشكّي - على التّوالي - من الدّولة والحكومة والوزارة والمثقّفين و«المجلس أمّي سِيسِي» والمجلس الأعلى لمؤسّسة لا أدري ماهي والنّاس المنافقين المستفزّين اللّحّاسين، وأولئك الحُسَّاد الغَدَّارين المستكلبين، لعنة الله عليهم، آمين يا ربّ العالمين! ثمّ هو يضطلع بدوره الثّاني المبتذل، دور الممثّل الكوميك الرّديء، لأنّه هو من أكمك خلق الله جميعًا. فيدّعي مثلاً أنّه على باب الإفلاس تمامًا، فلا يجد دينارًا واحدًا لينفقه على عشائه! طالما أرهقته البنوك وشركات الإيجار المالي والبنك المركزي الّذي منعه من العملة الأجنبيّة وإدارة الضّرائب والإدارات لجرّه إلى المحاكم بواسطة وكلائها من العدول المنفّذين والمحامين وأعوانهم والمستشارين الحقوقيّين والقضاة والشّرطة العدلية وعسس قصر العدالة وحرّاسه بالنّهار وباللّيل وحتّى أعوان السّجون!!! ولذلك والحال على ما هي عليه فإنّي لا أقدر على نشر أيّ شيء للأسف الشّديد يا أخي! هذا هو هذيانه المَرَضِي المحموم الّذي قد يشفيه مستشفى الرّازي! فضحكت، وزدت على الضّحك السّاخر قهقهات! فتعجّب: ما يضحكك؟ أجبت: أضحك على الدّنيا وممّن فيها من أمثالك! كان يسعى بكلّ جهوده الفاشلة في سبيل إقناعي بأنّه إذا ما نشر مجموعتي القصصيّة فهو إنّما يؤدّي لي معروفًا، أنا في حاجة إليه، إن لم يكن هذا المعروف ينقلب إلى مزيّة في عينيه، يسديها إليّ على مرأى من التّلفزات وعلى مسمع من الإذاعات، بأنّه صاحب الفضل عليّ، وعلى أعمالي القديمة والحديثة والآتية وإلى قيام السّاعة! ولولاه لما تَمَّ لي شيء ! فهو القيمة بينما أنا اللاّ قيمة!!! مصرّحًا بأنّه باع مصوغ زوجته، ورهن فيلاّته الفخمة وسانيته الكبرى وهنشير البزّازيّة على ملكه، وبه أغنامه وأبقاره، خيوله وبغاله وحميره، معزه ودجاجه، من أجل نشر كتابي الجديد، طبعًا ثمّ طبعًا!!! وفي اعتقاده الرّاسخ أنّي بفضل خطابه الثّرثار البكائي سأشفق عليه، المسكين! ويحلف بأنّه هو المؤمن الوحيد في هذا الوطن العزيز بالنّشر وبالكِتَاب، بلا منازع! إذ لعلّ وعسى أن أسلّم له مجموعتي القصصيّة تسليمًا دون قيد ولا شرط، قابلاً شروطه المجحفة بلا مناقشات ولا نغنغات، خاضعًا، متذلّلاً! وسأحلف له أمام الشّهود الشّامتين بي، وبجميع من هبّ ودبّ من الكُتّاب والمخربشين، وأمام أعداء الأدب والفنّ والثّقافة، بأنّي لَنْ (الزّمخشريّة طبعًا !) لَنْ أطالبه بحقوقي المادية والمعنويّة والأدبيّة والقانونيّة والدّستورية والسّياسيّة والحضـاريّة كمــا أنّي لم أطـالبه في ماضي مؤلّفاتي المنشورة عنده، ولو بملّيم واحد! وطبعًا انتفع بها ماضيا وحاضرًا ومستقبلا، فكأنّي أجيره، وخادمه استغلّني، وعبده استعبدني!!! وهو يصرخ: والله ثمّ والله! لم أبع ولو نسخة واحدة من كتبك!...خسارة أتكبّدها وحدي؟ !!! هذا هو الكذب بعينه! من الغد، عدتُ إليه وصرخت في وجهه: لعنة الله على حرفة البؤس والقَمَل وعلى مَنْ يساوم فيها!!!
عز الدّين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق