الصّحبي الوهايبي: قصر العدالة في تونـس... ذاكــرة العيــن
نتصوّر كيف كان لمدينة تونس أن تكون لو لم تستعمر فرنسا هذا البلد. ربّما كنّا، أو حتما، كنّا نعيش اليوم في مدينة مختلفة تماما عن هذه التي نعيش، بنسيج عمرانيّ من قماش مختلف ونسّاجين مختلفين؛ وربّما كانت الحياة أطيب وربّما كانت أسوأ، أين كان النّاس يذهبون ويجيئون لو لم يكن هناك شارع الحبيب بورقيبة وشارع فرنسا وشارع باريس ونهج شارل ديغول أو نهج مرسيليا؟ وأين كان لهذه المطاعم والمقاهي والحانات أن تستقرّ، إنْ كان لها أن تستقرّ؟ ربّما، أو حتما، ألفتْ عيوننا معمارا ببنايات وواجهات غير هذه التي نرى؛ ربّما، أو حتما، كان المسرح البلدي، إنْ كان له أن يكون، غير الذي نرى؛ وكان قصر العدالة غير الذي نرى؛ وكان فندق تونيزيا بلاص غير الذي كان.
تلك رياح مرّت؛ وكلّ ريح تحفر في الأرض وفي النّفْس أثرا؛ وقصر العدالة في مدينة تونس بعض من هذا الأثر، ظلّ على حاله أو يكاد، مُذْ استوطن تلك الرّقعة المفتوحة على نهج باب بنات، في مطلع القرن العشرين، سنة 1902؛ وقد بدأ الاستعمار الفرنسيّ يثبّت أقدامه في تُربةٍ رخوةٍ حينا وصلْدةٍ أحيانا؛ وليس بحثا أكاديميّا ما نطـرحه في هذه الورقة، ولكنّه أقرب إلى ذاكرة العين تلتقط نُتَفًا من هنا، وتغيب عنها نتف من هناك؛ وهو أقرب أيضا إلى ذاكرة الخطو يذهـــب إلى مستقرّ وإلى غير مستقرّ؛ وأنا أحسب نفسي من عشّاق السّينما، وأحسب أنّ قاعات المحاكم سينما الحياة، وقد رأيت ناسا كثيرين لا يفوّتون على أنفسهم الفرجةَ، فقد عرفتُ أيّام كنتُ أعمل في وزارة التّربية أواخر السّبعينيات من القرن الماضي موظّفين محترمين يغادرون مكاتبهم على عجَل أيّام الجلسات، يتخيّرون المقاعد المناسبة، إلى فرجة دون مقابل؛ ربّما تغيّر المتفرّجون والكومبارس والمخرجون والممثّلون، ولكنّ المكان هو ذاته منذ أكثر من قرْن من الزّمن حين سطّر المهندس المعماريّ الفرنسيّ جان أيميل رسبلاندي تلك البناية، بفنّ وحسّ مرهف، دون شكّ، ولكنْ، أيضا، تثبيتا لسلطان الدّولة الحاكمة، والعمارة الرّسميّة كانت دومًا واجهةَ السّلطة أو قناعَها الذي تلبس، وقد بات لزاما على فرنسا أن تؤسّـس لمُلك تحســـبه لا يبلــى ولا يَفْنى؛ وكانت العمارة في تونس على أيّامها تحاول أن تستجيب لنمط عيشِ الجالية الأوروبيّة، فجاءت البنايات السّكنيّة وفيّة لنفس النّمــاذج في فرنسا وإيطالـــيا، في توزيعها وزخرفها؛ وحاول المعماريون الأوروبيون بجهــد أو بغير جهد، وبرغبة أو بغير رغبة، أن يطعّموا المباني الحكوميّة والرّسميّة بأنماط معماريّة من تراث البلد، غير أنّهم لم يستلهموا من ذلك الإرث إلاّ النّزر القليل متمثّلا في القِباب والأقواس والقرميد والمشربيات؛ وقصر العدالة في تونس نموذج حيّ لذلك,
فقد جاء على النّمط المورسكيّ الجديد، وبدايات العشرين، مزيجًا من الموريسكيّ والأوروبّي، فأمّا الموريسكيّ، سليلُ بلاد المغرب وشبه الجزيرة الإيبيريّة خلال الفترة الإسلاميّة، فحاضرٌ بزخرفه بأشكاله المرنة السّلسة وأقواسِهِ ومنحوتاته الجصّيّة وأبوابه الضّخمة، ولو أنّ قبابه انحسرتْ حتّى كادت تختفي، لولا تلك الثّلاث التي تتوسّط البهو الرّئيسيّ تتدلّى منها ثريّات ضخمة ضخامة البهو الفسيح، وهي ثريّاتٌ لا نجد لها أثرا في الصّور القديمة التي وصلتنا؛ وأمّا الأوروبّي فحاضر أساسا في توزيع الفضاءات التي تتفرّع على جانبيْ الممرّات الحزاميّة المتعامدة، انطلاقا من الباحة الكبرى قَلْبِ القصر كلّه؛ وبعض تلك الفضاءات يفتح نوافذَه على الواجهات الجانبيّة، وبعضها يفتح شبابيكه على ساحات أربع داخل البناية، متناظرةٍ ومتقايسةٍ تقريبا، كما الحال في قاعات الجلسات؛ وهي نوافذُ تضيق عرضا ولكنّها تستطيل حتّى تكاد تلامس السّقف، وتلك سمةٌ في النّمط الفرنسيّ أيّامها؛ ولولا بعض الانحراف في الجهة الخلفيّة، لجاءَ البـناء أقــربَ إلى مربّع ضلعه خمسة وستّون مترا؛ وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ تلك الممرّات متاهة ملتبسة، ولكنّها في الواقع كتاب مفتوح يكاد المرء يدرك فيه غايتَه مغمض العينين، وقد فَصَلَ المصمّم بين المسالك المختلفة للقضاة والإداريين والمحامين والمتقاضين، فلا هذا يطغى على ذاك ولا ذاك يطغى على هذا؛ واللّون الأبيض لَوْنُ البناية، لا ينازعه إلاّ حجر الكذّال وهو العنصر الأساسيّ والوحيد في الزّخارف الدّقيقة التي تحتلّ الواجهات بأعمدتها ودرابيزها وأقواسها المفتوحة والعمياء؛ والكذّال حجر لا تخلو منه بناية رسميّة في ساحة القصبة؛ ولا شكّ أنّ ذلك الاختيار يعود أساسا إلى كونه حجرا صارما جامدَ الملامح! ونحن نزعم أنّ زخارف قصر العدالة في تونس لا تَمُتّ بصلة كبيرة أو صغيرة إلى الزّخارف التي مازالت شاهدة في بعض قصور البلد، رغم أنّ البعض حاول أن يقرن هذا بذاك؛ والبناية مصنّفة في خانة التّراث، ولكنّ بعضهم لا يجد حرجا في تركيز مصعد كهربائيّ عصريّ لا يذهب أبعد من طابقين اثنين؛ ولا يجد حرجا في تثبيت مكيّفات الهواء على الواجهات الجانبيّة ولا في ستائر البلاستيك على النّوافذ؛ وقد يكون معمار قصر العدالة هجينا، ولكنّه هجين رشيق وجميل؛ ومتى كان قدر الهجين ألاّ يكون جميلا؟ ولسوء حظّ النّمط الموريسكيّ الجديد أنْ لم يجد لنفسه حظـوة كبـيرة في أوربّا، عزاؤه في ذلك أنّ حظوتَه كانت أكبر في شمال إفريقيا ما بين تونس والجزائر والمغرب؛ وعزاؤنا نحن أن تتدارك وزارة العدل ما شاب القصر من عيب وخلل، وهي تستعدّ لإعادة تهيئته لفترة نتمنّى ألاّ تطول في حيّ الخضراء حيث تستقرّ المحكمة الابتدائيّة إلى حين.
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق