سليم بن حسن: مجلّة الأحوال العمومية، الخطوة التاريخية القادمة؟
13 أوت 1956، أُصدرت مجلّة الأحوال الشخصيّة التي مثّلت لحظة فارقة في تاريخ البلاد، باعتبارها مجلّة تنظّم العلاقات بين التونسيات والتونسيين داخل الإطار الخاص والعائلي. وهي دفعة إلى الأمام، لطالما مثّلت مفخرة تونس بين الدّول العربيّة. لهذا، ورغم تباين الآراء حول بعض فصولها ورغم الإصلاحات التي يمكن أن تطرأ عليها نظرا لما عرفه الواقع التونسي من تغيرات اجتماعية عميقة، نحتفل كل عام بصدورها.
منتصف الطريق
رغم أهميتها وتقدّميتها، لم نقطع مع مجلّة الأحوال الشخصية سوى نصف الطريق نحو بناء اجتماعي متكامل. حياة الفرد في المجتمع تتركز بالأساس على هذا التمايز الكلاسيكي بين المجال الخصوصي والمجال العمومي. فإذا كان المجال الخصوصي قد نُظِّم بموجب مجلّة الأحوال الشخصية، فإن المجال العمومي، وهو الإطار الذي يحتوي نشاط التونسيين ومشاركتهم في الحياة المدنيّة والشأن العام، لم يعرف سوى بعض النصوص المشتتة والضعيفة.
اليوم، ونحن نخوض غمار القدر الديمقراطي، نجد أنفسنا مرّة أخرى أمام اللحظة التاريخية. هذا القدر يحتّم علينا الدّفع بالمواطن نحو المشاركة في الشأن العام. في هذا الوقت ، تفرض الضرورة التلاحم والتضامن من أجل مجابهة نزعة الفردانية ومحاربة الفساد والقضاء على الإرهاب.
من الواجب اليوم التفكير، جماعيا، في كيفية إعادة هندسة المجتمع. لقد صار من الحتمي إتمام المسيرة ودعم مجلة الأحوال الشخصية بمجلّة الأحوال العمومية. هذا النص مهمّته دعم الالتزام المدني وإعلاء المصلحة العامة وخلق حالة تضامن واسعة بين المواطنين، وذلك عبر تحفيز الأفراد والمؤسسات الخاصة والعمومية على الانخراط في تحقيق الصالح العام وخلق الثروة المشتركة، كما سيعطي للدّولة ومؤسساتها مكانة جديدة أكثر ديناميكية في إطار مهمتها المتمثلة في توفير خدمات عمومية ناجعة ومحترمة لجميع التونسيين.
مجلّة لتونس القرن الحادي والعشرين
على مجلّة الأحوال العمومية، وبعد أكثر من نصف قرن على إصدار مجلّة الأحوال الشخصية، أن تكون بدورها مبتكرة وأن تتفاعل مع قضايا القرن الحادي والعشرين. فالمقاربة الكلاسيكية التي تحصر النشاط المدني داخل إطار الجمعيات ما عادت تفي بالغرض. لهذا يجب إدماج جميع الفاعلين الاجتماعيين وذلك بتشريك الأفراد والمؤسسات والمنظمات الرسمية بالإضافة إلى التجمعات الغير رسمية. كما عليها أن تأخذ بعين الاعتبار التصور الجديد لدور الدولة والجماعات المحلّية ومؤسسات القطاع الخاص في تحقيق الصالح العام.
وكما أعدنا النظر في الفاعلين وأدوارهم فإنه من الضروري التفطن لأشكال المشاركة الجديدة. ففي عصر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، لابد للإطار القانوني الجديد أن يُثمّن الفعل الميداني بالإضافة إلى المشاركة الافتراضية التي تستحق الإسناد والتعزيز.
من ناحية أخرى، وفي ظل توسع النظام الكوني وإمكانيات الفعل والتأثير على المستوى العالمي، أي خارج حدود الوطن، فإن مجلّة الأحوال العمومية ستمثل فرصة لإعادة هندسة علاقتنا "بالآخر الكوني" فنخرج عن دور المشاهد والمتابع للشأن العام الدولي ونتحول إلى موقع الفاعل ذو الوزن المؤثر.
إن أولوياتنا المتمثلة في دعم المشاركة والمساهمة في الحياة المدنية مرهونة بمدى قدرتنا على الابتكار وتطوير أساليب تنظيم الاجتماع الإنساني وذلك من خلال الاستفادة من مختلف الأفكار وأشكال التضامن الناشئة في تجارب مجتمعية أخرى. "احتياطي المواطنة"، "اليقظة الأخلاقية"، دعم الشركات للعمل المواطني، الهبات والعطاء، الشراكة النشيطة بين القطاع العمومي والقطاع الخاص والمجتمع المدني، المشاريع التشاريكة والتضامنية، المؤسسات الناشئة ذات الصبغة المواطنية، "التمويلات التشاركية"، كل هذه العناصر يمكنها أن تؤثث مجلة الأحوال العمومية.
لابد من وجود مرجع قانوني يمكننا من إدماج هذه الأفكار الجديدة وحفظ التوازن بين الحرّية والمسؤولية في خضم النسق المتسارع للتغير الاجتماعي. بهذا نتمكن من حماية الفاعلين بقدر ما نتمكن من حماية المستفيدين. كما ستفتح هذه المبادرة مسارات بديلة لخلق مواطن الشغل وجلب الاستثمار والرفع في مستوى النمو.
مشروع مجتمعي
تندرج مجلّة الأحوال العمومية ضمن استمرارية المسار الإصلاحي الذّي اتخذته الدولة التونسية منذ نشأتها. وهي تتمة للمسار الذي قطعته مجلّة الأحوال الشخصية. لكن هذه الاستمرارية لا تعني اتباع نفس المنهجية. فإن كان هذا الإصلاح يستهدف التونسيين، لا يمكن تصوره دون مشاركتهم. مشاركة المواطنين في هذا المشروع ضرورية، التونسيّون بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم، المواطنون والناشطون المدنيّون والإداريّون والناشطون في القطاع الخاص والنقابيون والسياسيون. على الجميع المشاركة حتى تكون هذه المجلة مستدامة وذات قبولية اجتماعية.
هذه القبولية تفرض الاستناد إلى جذور الثقافة التونسية المتجسّدة في ممارسات التونسيين وأسلوب حياتهم. باختصار، على هذه المجلّة أن تعكس الشخصية التونسية وأن تُنحَت من طينها بعيدا عن كل استنساخ لأنماط مستوردة.
سليم بن حسن
- اكتب تعليق
- تعليق