الجمهـورية الثانيـة و نظامها السياسي: إلى أيـن؟
يدعو الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية في 25 جويلية 1957 إلى التأمّل في مسيرة الجمهورية، لا سيّما بعد صدور دستور 27 جانفي 2014 ومدى ترسخ قيمها في واقع تونس المعيش. ولعلّ من بين الأسئلة التي يتعيّن طرحها: كيف هو حال الجمهورية الثانية ونظامها السياسي وإلى أين تسير؟
في ظلّ عدم التوازن الذي كان يطغى على المجلس الوطني التأسيسي والذي كانت تسيطر عليه قوّة سياسيّة واحدة أعلنت منذ البداية وتمسّكت بأنّها تريد أن يكون النظام السياسي التونسي من النوع البرلماني، ومع الموقف (هو في حقيقة الأمر موقف «بدائي» primaire) من النظام الرئاسي الذي تمّ الخلط فيه من قبل العوام بين ما هو رئاسي وما هو «رئاسوي» Présidentialiste مع الاعتقاد الخاطئ بأنّ النظام من النوع الرئاسي هو نظام استبداد بالسلطة، اتجه دستور 27 جانفي 2014 دون تبصّر إلى الأخذ بنظام سياسي يغلب عليه الطابع البرلماني على الرغم من تضمّنه جرعة من النظام الرئاسي تتمثل في انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، المتمثّل، في الواقع، في جمهور الناخبين الذين يشاركون في الانتخابات.
ومع أن مسألة نوعية النظام السياسي الذي كان يُتّجه إلى اعتماده للجمهورية الثانية لم تناقش بالصورة وبالقدر المطلوبين، والحال أنها مسألة مصيرية من الناحية الدستورية، فإنّ المجلس الوطني التأسيسي اعتمد في الواقع نظاما سياسيا تختلط فيه بعض «الأزهار» مع عدد من «الأشواك». و»الخلطة» التي تضمنها بين «شيء» من النظام الرئاسي وجلّ خصائص النظام البرلماني وآلياته، جعله يتمثل كنظام مختلط، قيل إنّه «شبه رئاسي» semi-présidentiel والمقصود به «نظام شبه برلماني» وهو في حقيقته نظام برلماني معدّل بعض الشيء . ولا يتردّد الكثيرون في اعتباره نظاما «هجينا».
مثل ذلك النظام، كنظام برلماني أساسا، لا يصلح في حقيقة الأمر للدولة التونسية التي ستعاني منه كثيرا، كما أنّه لا ينسجم مع ما ينتظره عموم التونسيين والتونسيات من النظام السياسي لدولتهم. لذا تجدهم في جلّ الأحوال مشدوهين أمام ما يجري أمامهم سواء في ما يحصل في مجلس نواب الشعب من «انفلاتات» بصورة تذكّر بما كان يجري في المجلس الوطني التأسيسي أو في ما يطرأ في المشهد السياسي من صعوبات.
إنّ نوعية النظام السياسي المعتمد للجمهورية الثانية لا يمكن إلا أن يكون مرهقا للدولة وللمجتمع.
ومن بين «الإشكالات»، بل لنقل المشاكل التي يثيرها النظام السياسي الذي اعتمده دستور 27 جانفي 2014 لاسيما في التطبيق، نجد مشكلة العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
فإذا وضعنا المسألة في إطار ما رسمه دستور 27 جانفي 2014 في ما يخص العلاقة بين رئيس الجمهورية والحكومة التي على رأسها رئيس الحكومة، على خلفية أن النظام السياسي المعتمد وكما تمت الإشارة إليه يميل إلى كونه نظاما برلمانيا معدّلا أكثر من كونه نظاما مختلطا على أساس التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، فإنّه يمكن أن نلاحظ أن الدستور منح رئيس الجمهورية صلاحيات وإن كانت دون صلاحيات، رئيس الجمهورية في دستور أول جوان 1959، فإنّها تبقى صلاحيات هامة خصّصت لها الفصول 77 و78 و79 و80 و81 و82 و83 و89.
وأما الحكومة، وهي ليست حكومة رئيس الجمهورية بطبيعة الحال لكون النظام ليس رئاسيا بل أن رئيسها هو رئيس الحكومة وهو في الوقت ذاته رئيس مجلس الوزراء (الفصل 93 من الدستور). علما وأنّ عملية تعيين الحكومة تتمّ وفق الطريقة المعتمدة في النظام البرلماني التقليدي، إضافة إلى كونها تحتاج عند تشكيلها لثقة البرلمان (مجلس نواب الشعب)، كما يترتب على الفصل 89 من الدستور. ثم إنّ الحكومة أيضا، وكما في النظام البرلماني التقليدي، مسؤولة أمام مجلس نواب الشعب (الفصل 95 من الدستور) ويمكن التوجه إليها بالأسئلة الكتابية والشفاهية (الفصل 96 من الدستور) وصولا إلى إمكانية التصويت على لائحة لوم ضدّها وسحب الثقة منها (الفصل 97 من الدستور)، كل ذلك مع إمكانية حلّ مجلس نواب الشعب من قبل رئيس الجمهورية (الفصل 77 من الدستور).
يتبقى أن دستور 27 جانفي 2014 الذي نستند إليه هنا لا يخلو من بعض «الأشواك» كما سبق ذكره في تنظيم العلاقة بين جناحي السلطة التنفيذية. وهذه «الأشواك» لن يكون لها مفعول سلبّي طالما أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ينتميان إلى نفس الحزب أو طالما أن أحدهما غير منتم إلى أي حزب، (كما في حالة السيد الحبيب الصيد) ولكنه يكون منسجما مع رئيس الجمهورية الذي اختاره مفضّلا إياه على آخرين ولو من الحزب الذي ينتمي إليه هذا الأخير (أي رئيس الجمهورية). أما إذا تعلق الأمر برئيس جمهورية من حزب غير حزب رئيس الحكومة، فإن صعوبات التعايش من الممكن جدا أن تطفو على السطح. ويمكن أن يحصل ذلك حتى بالنسبة إلى رئاسة مجلس الوزراء. ذلك أن الفصل 93 من الدستور ينصّ على أن رئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء. كما أن مجلس الوزراء ينعقد بدعوة من رئيس الحكومة الذي يضبط جدول أعماله إلا أن الفصل 93 يتراجع نوعا ما ويستطرد ناصا على أن رئيس الجمهورية يرأس مجلس الوزراء وجوبا في مجالات الدفاع، والعلاقات الخارجية، والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، وله أن يحضر ما عداها من مجالس وزراء. وختاما لهذا الترتيب، فإنّ رئيس الجمهورية، إذا ما ارتأى حضور أي مجلس للوزراء فإن رئاسة المجلس تكون له وليس لرئيس الحكومة.
ومثل هذه الصيغة في تنظيم رئاسة مجلس الوزراء وترتيبها، من الصعب أن نجدها في دساتير الدول ذات النظام البرلماني في مفهومه السائد، مما يفيد أن دستور 27 جانفي 2014 يخلق – دون وعي على ما يبدو – «تشويشا» ملحوظا في هذا المستوى.
وعلى صعيد آخر، وكمثال ثان ورد بالفصل 92 من الدستور فإن رئيس الحكومة يبرم الاتفاقيات الدولية ذات الصبغة الفنية، والحال أن رئيس الجمهورية وكما ورد بالفصل 77 من الدستور يتولّى تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجال العلاقات الخارجية، إضافة إلى كونه يختص «بإبرام السلم» كما ورد بذات الفصل. مثل هذه الأحكام تخّول لرئيس الجمهورية إبرام المعاهدات وقد تكون من بينها معاهدات تكتسي ولو جزئيا طابعا فنيا. ومع ذلك ليس هناك ما يمنع دستوريا إبرامها من قبل رئيس الجمهورية لأن الدستور لم يمنعه صراحة من ذلك ثم إن الدستور يمنحه صلاحية عامة من خلال عبارة أنه «يختص بضبط السياسات العامة في مجال العلاقات الخارجية (نقتصر هنا على هذا الجانب دون سواه مما ورد في الفصل 77 من الدستور).
وما يمكن ملاحظته هو أن صائغي دستور 27 جانفي 2014 كانوا مدركين لوجود بعض التناقضات (قلنا في ما سبق بعض «الأشواك»)، أو لنقل بعض التناقضات في نص الدستور، الأمر الذي جعلهم يخصّصون فصلا لحسم «تنازع الاختصاص» بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حيث ينص الفصل 101 من الدستور على أنه «ترفع النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية التي تبت في النزاع في أجل أسبوع بناء على طلب يرفع إليها من أحرص الطرفين».
يتبقى أنه في جميع الحالات لم يوفق دستور الجمهورية الثانية في تنظيم العلاقة بين رئيس الجمهورية من جهة والحكومة ورئيسها من جهة أخرى، من حيث توزيع الصلاحيات بينهما كجهازين للسلطة التنفيذية، بخلاف ما حققه الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة مثلا والتي يرسي نظاما «شبه رئاسي» الغلبة فيه للطابع البرلماني.
تلك هي عيّنات من «الإشكالات» التي يثيرها دستور الجمهورية الثانية والتي تبيّن فيما تبيّنه أن النظام السياسي الذي اعتمدته قد لا يمكنها من التعمير طويلا. لقد أخذ دستور الجمهورية الثانية بنظام برلماني، وإن كان معدلا، فإنّه ليس من شأنه أن يضمن الاستقرار السياسي المطلوب لبلاد منهكة اقتصاديا وتواجه تحدّيات غير مسبوقة.
وحتى على المدى الطويل فأن النظام الرئاسي هو الأكثر ضمانا لتفادي الأزمات السياسية خصوصا في مستوى الحكومة. من الأفضل لضمان الاستقرار أن تكون الحكومة بيد رئيس الجمهورية وليس بيد البرلمان، كما في النظام الحالي. ولو كان النظام الرئاسي معيبا كما يقدمه البعض لما تمسكت به الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها وإلى اليوم انطلاقا من دستورها الثابت ولما فضله الدستور الروسي الحالي كدستور جديد على غيره من الأنظمة السياسية. ويمكن أن نشير إلى أمثلة أخرى، غير هذين المثالين البارزين، على الرغم من صعوبة المقارنة لاختلاف الأطر التي يتنزل فيها كل نظام من الأنظمة السياسية.
وبعكس ما يتشبّث به عدد من السياسيين فإنّ تونس بحاجة إلى نظام رئاسي معدّل (مقارنة بالنظام الرئاسي لدستور 1 جوان 1959) على نحو يجعله يتفادى التحوّل، عند الممارسة، إلى «الرئاسوية» Le présidentialisme وليس إلى نظام برلماني وإن كان معدّلا كما هو الحال الآن والذي من شأنه أن يتسبّب في عدم استقرار حكومي يفضي باستمرار إلى عدم استقرار سياسي ويدخل الدولة في متاهات هي في غنى عنها.
والنظام الرئاسي المعدّل يتحقّق بالدستور من خلال الأخذ بالخصائص وبالمبادئ الأساسية الأصيلة لهذا النوع من الأنظمة السياسية وبصورة خاصة وحتميّة من خلال تحديد مدّة ولاية رئيس الجمهورية الذي يكون منتخبا مباشرة من الشعب بحيث تكون تلك المدة بأربع أو بخمس سنوات قابلة للتجديد (عن طريق الانتخابات) مرة واحدة وهذا بصورة قطعية ومع التنصيص في الدستور على أن تلك المدّة غير قابلة بأن تكون محل تعديل أو تنقيح.
بهذه الطريقة تزول المخاطر المرتبطة بالنظام الرئاسي أو المنسوبة إليه وتكسب البلاد نظاما سياسيا يضمن لها الاستقرار ويبعدها عن المهاترات البرلمانية والمغامرات الحزبية ويعزّز الجمهورية.
أمّا إذا بقي النظام السياسي للجمهورية بالصورة التي عليها الآن فقد تتوه الجمهورية.
توفيـق بوعشبة
- اكتب تعليق
- تعليق