أخبار - 2016.07.16

عبد الحفيظ الهرقام: لا شي غيرالحقيقة

لا شي غيرالحقيقة

 كلّما قلّبت النظر في وضع تونس الحالي تذكّرت سيناريو شريط «العصفور» للمخرج السينمائي الشهير يوسف شاهين. 

في مشهد مؤثّر، تخرج «بهية» (محسنة توفيق) بطلة الشريط، في مسيرة مع أبناء حيّها للتعبير عن مشاعر الغضب والحزن لمّا أدركت وأدرك الشعب المصري بأسره هول هزيمة 1967 .. كشف المستورٓ إعلانُ جمال عبد الناصر التّنحّي عن الحكم  وانجلت الحقيقة الصادمة أمام «بهية» التي تصرخ بأعلى صوتها : «يا انهار أبيض احنا انهزمنا!»، بعد أنّ ظلت إذاعة «صوت العرب» وغيرها من أبواق التّضليل الإعلامي لأيّام تزفّ للعرب بشرى النّصر المبين على العدوّ الصهيوني ووصول الجيوش العربيّة إلى مشارف تل أبيب !
 
لست أدري لماذا استبدّ بذهني هذا المشهد السينمائي، على الرغم من اختلاف السياق التاريخي وملابساته، ولعلّ سبب ذلك ما تعيشه  قطاعات واسعة من الشعب التونسي من حالة غيبوبة تبعث على الحيرة ، وكأنّها لم تع بعد الأوضاع المتأزّمة التي تردّت فيها البلاد منذ سنة 2011. فإلى جانب تنامي ظاهرة الإرهاب وانعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي، تتصاعد يوما بعد يوم مخاطر الأزمة الاقتصادية المستفحلة التي تتجلّى بالخصوص في التّراجع المفزع لمعظم المؤشرات في قطاعات عدّة والتدهور المستمرّ للمالية العمومية وهبوط قيمة الدينار بشكل لافت في الأسابيع الأخيرة، والتونسي، في سلوكه اليومي، يبدو غير مبال بالظرفية الحالية، بل إنّه يزيد، في غالب الأحيان، عن وعي أو غير وعي، الطين بلّة من خلال إضرابات تُشنّ لأتفه الأسباب، أو من باب «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما»، زد على ذلك المطلبية المجحفة، وتعطيل الإنتاج في ميادين حيويّة كالفسفاط والنفط والتغيّب عن العمل والتقاعس في المردود المهني والتخلّف عن آداء الواجب في المرافق العمومية... وكلّها أفعال تنمّ عن ضمور حسّ المواطنة  لديه.
 
ولا شكّ أنّ السلطة السياسية تتحمّل  قسطا وافرا من المسؤولية في استمرار هذا الوضع، بتأخّرها عن مصارحة التونسيين بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الراهنة وخاصّة بما تعرفه ميزانية الدولة والتوازنات الماليّة العامة للبلاد من ضغوطات جعلت العديد من الأخصائيين يتوجّسون خيفة من وقوع تونس في أزمة خانقة، شبيهة بتلك التي عاشتها الأرجنتين ثمّ اليونان.
وقد ازدادت المخاوف بعد التراجع الحاد في قيمة الدينار وباستحضار الوضع الصعب الذي ستواجهه البلاد سنة 2017 حيث ستكون مطالبة بتسديد ديون متراكمة بقيمة 8 مليار دينار، إضافة إلى توفير اعتمادات تبلغ 2,2 مليار دينار لصرف الزيادات في الأجور في القطاع العمومي والتي تمّ التوقيع عليها بعنوان السنة نفسها. 
 
غير أنّ وزير التجارة محسن حسن دعا في تصريح لإحدى الإذاعات الخاصّة الخبراء الاقتصاديين ورجال الاقتصاد إلى «الكفّ عن تأزيم الوضع الاقتصادي في البلاد» معتبرا أنّ « الوضع  صعب وليس كارثيا» وأنّ « ثوابت الاقتصاد  لاتزال قائمة» ولأنّ «اقتصادنا متنوّع» فهو «قادر على تجاوز الأزمات بسرعة». فمن نصدّق؟  وفي خضمّ هذا الجدل حول الوضع الاقتصادي، دقّ محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ناقوس الخطر في  مقدّمة التقرير السنوي للبنك لسنة 2015، ملفتا النظر إلى أنّ «تدهور التوازنات الأساسيّة ...يعكس نزعة المجتمع التونسي إلى مستوى عيش يتجاوز طاقته، وهو نمط عيش غير قابل للاستمرار ويتنافى مع أيّ منطق اقتصادي»، داعيا إلى «إرساء مجموعة من الإصلاحات الهيكلية والمبادرات المتناسقة للارتقاء بفعاليّة الاقتصاد».
ولعلّ ما يسترعي الانتباه في  هذه المقدّمة الإشارة  إلى موطن خلل ظلّ يلازم آداء حكومة الحبيب الصيد وهو القصور  في التواصل مع الرأي العام، إذ أكّد الشاذلي العياري ضرورة « اعتماد سياسة اتصال متناسقة وناجعة لإنجاح عمل السلطات بالنظر إلى احتمال عدم تفهّم من قبل جانب من الرأي العام والشركاء الاجتماعيين بشأن إكراهات سياسة الانضباط على مستوى الميزانية والإصلاحات الضرورية».
 
وإنّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ من أوكد أولويات عمل الحكومة الجديدة المبادرة-  في الأسابيع الأولى من تشكيلها-  بتقديم تقرير مفصّل وموضوعي عن أوضاع الماليّة العمومية وعن الإصلاحات الهيكلية والإجراءات العاجلة التي يتعيّن إقرارها، وإن كانت مؤلمة، لإخراج الاقتصاد من عنق الزجاجة، بعيدا عن كلّ الاعتبارات الساسيويّة، إنارةً للرأي العام، وضمانا لانخراط كلّ التونسيين  في مجهود الإنقاذ الوطني، فالإصداع بالحقيقة، كلّ الحقيقة  ولاشيء غير الحقيقة واجبها حتّى نجنّب التونسيين صدمة لا قدّر الله، كتلك التي أصابت «بهيّة» في شريط «العصفور». « أليست معرفة الحقيقة أفضل من العيش الزائف؟» كما قال العالم البريطاني ريتشارد دوكنز. 
عبد الحفيظ الهرقام
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.