مؤتمر ليلة القدر (23 أوت 1946) أو مؤتمر المطالبة بالاستقلال
يعتبر مؤتمر ليلة القدر محطة تاريخية وجب التذكير بها والوقوف عندها لما تكتسيه من أهمية في تاريخ القضية التونسية والكفاح الوطني، ونظرا لما ترتب عن هذا المؤتمر من نتائج في مستقبل البلاد الوطني وفي مسار الكفاح التحريري .فهو المؤتمر الأول الذي طالب فيه الوطنيون بالاستقلال التام بعد أن خلعت فرنسا المنصف باي ملك تونس المحبوب و نفته خارج أرض الوطن.
ولقد وجد صالح بن يوسف في هجرة بورقيبة الطوعية إلى المشرق العربي للتعريف بالقضية التونسية، أريحية ومجالا أفسح وأكثر حرية من ذي قبل، في التعامل مع مختلف أطياف ومكونات المجتمع المدني التونسي واتجاهاته السياسية والفكرية والنقابية، بعد المساعي التي بذلها الوطنيين في سبيل الوفاق، وتجاوز الشقاق بين شقي الحزب الحر الدستوري، أي اللجنة التنفيذية والديوان السياسي. فأثمرت تلك المحاولات التوفيقية عن انعقاد العديد من اللقاءات والاجتماعات التشاورية سنة 1945 شارك فيها عشرات الشخصيات السياسية.
كما أن المتغيرات على مستوى التوازنات في الساحة العربية والعالمية شجعت صالح بن يوسف وزعماء الحزب على توخي سياسة واستراتيجية أكثر إيجابية وجدوى من أجل توحيد الصفوف الوطنية، ودحر الاستعمار، والحصول على الاستقلال، مستعينين بخيرة أبناء المجتمع التونسي وخبرتهم، وبتجارب النخبة المستنيرة من زيتونيين وصادقيـّين أمثال الفاضل بن عاشور وصالح فرحات وسعاد النيفر - التي حفزت كغيرها من الوطنيات عديد النساء التونسيات للمساهمة في الكفاح الوطني - وغيرهم من إطارات الحزب القديم والجديد و"المنصفيين" وحتى الشيوعيين والبعض من المستقلين عن الأحزاب الذين دعموا هذا الاتجاه بقيامهم بحملات توعية بالعاصمة وبكل أنحاء الإيالة وتوصلوا إلى إمضاء لائحة يطالبون فيها باسم الأمة بالاستقلال الداخلي. وقدمت هذه اللائحة إلى قنصلي أمريكا وبريطانيا، كما أن عديد الصحف تناولتها في افتتاحياتها وبلغت المقيم العام الجنرال "ماسط" الذي سعى إلى استمالة واسترضاء البعض من الديوان السياسي لإحداث التفرقة من جديد في صفوف القادة والزعماء.ومن بين هذه المساعي دعوته لصالح بن يوسف الكاتب العام للديوان السياسي للاجتماع بمنزل الوطني السيد الطاهر بن عمار محاولة منه لإقناعه بالتراجع عن هذه اللائحة ولكنه فشل في ذلك.
لقد أظهر صالح بن يوسف مقدرة تنظيمية خارقة للعادة "في دعم موقعه السياسي وفي إعادة تنظيم حزب الدستور الجديد وتحريك مكونات المجتمع المدني التونسي. وبعث بمعية المنجي سليم ووطنيين آخرين كوكبة من المنظمات المهنية والشبابية والنسائية لتقوية الحزب والإحاطة به كاتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين بزعامة إبراهيم عبد الله .كما متن علاقاته بالاتحاد العام التونسي الشغل الذي قرر أغلبية مناضليه بزعامة فرحات حشاد الانفصال عن الجامعة النقابية العالمية والانضمام إلى الجامعة الدولية للنقابات الحرة الليبرالية وأصبح الاتحاد مركز قوة وثقل وشريكا متميزا في الحركة الوطنية.
فعاليات المؤتمر
دعا صالح بن يوسف وصالح فرحات والدكتور أحمد بن ميلاد إلى عقد مؤتمر سري بدار المناضل محمد بن جراد بنهج الملاحة بترنجة ليلة 27 رمضان الموافق لـ 23 أوت 1946 الذي اشتهر بمؤتمر ليلة القدر لوضع خطة موحدة يتفق عليها الجميع لمقاومة المستعمر. وقد ضم المؤتمر 300 شخصية وطنية من مختلف الطبقات والاتجاهات السياسية والهيئات الوطنية - باستثناء الحزب الشيوعي- لتحرير ميثاق للشعب التونسي يعلن استقلاله.وأسندت رئاسة المؤتمر إلى رئيس سابق للدائرة الجنائية بوزارة العدل وهو القاضي العروسي الحداد الذي افتتح الاجتماع وسط التصفيق الحاد بهذه الكلمات: "طيلة مباشرتي لمهمتي القضائية طالبت بإعدام المجرمين، وها أنا اليوم أصدر حكمي بالإعدام على نظام الحماية". ثم شهّر صالح فرحات باعتداءات الحكومة الفرنسة على السيادة التونسية وبخلعها المنصف باي وبعجز الدولة الحامية عن الدفاع عن الدولة المحمية،الأمر الذي يخول للتونسيين أن يعلنوا "استقلال تونس التام" .ولم يتمكن الأستاذ صالح بن يوسف الكاتب العام للحزب الدستوري الجديد من إنهاء خطابه بعد أن اقتحمت قوات الشرطة المحل. وقبل انتهاء الاجتماع سأل الخطيب الحاضرين: "هل انتم مجمعون على إعلان استقلال تونس؟" فأجابوا بصوت واحد: "الاستقلال... الاستقلال!" "الحرية... الحرية!"، ثم ألقي القبض على خمسين شخصية من بين الحاضرين ولم تتمكن الشرطة من العثور على الوثائق. إذ تمكن الهادي نويرة الذي حرر اللائحة من الفرار على طريق المدخنة ونجا هكذا حاملا معه الوثائق.
وقد روى محمد شنيق للشاذلي خير الله وقائع المؤتمر كما يلي:
"....كانت هناك سيارة مجهزة براديو استخبارات استعملها الأعوان لإبلاغ الجنرال "ماسط" Mast عن هوية الشخصيات التي حضرت الاجتماع وعلى إثر مغادرتهم فرادى مقر الاجتماع جمعوا المتبقين في مجموعتين يمينا وشمالا. على اثر إطلاق سراح البعض صدرت أوامر بإيقاف الآخرين.
كنت مع صالح بن يوسف والفاضل بن عاشور من بين الخمسين الذين صعّدوهم السيارات التي نقلتنا إلى مقر المحكمة العسكرية خلف القصبة. ثم تولى "كوميسار" استنطاقنا للكشف عن هويتنا وأخذونا إلى قاعة كبيرة أين وجدت فتحي زهير، وصالح فرحات، والدكتورين بن سليمان وبن زينة. كنا في شهر رمضان وقد انتصف الليل فقدموا لنا "كسكسي" حلو للسحور (مسفوف).....".
من الغد أطلق سراح عدد من الموقوفين واقتيد البعض الآخر إلى السجن المدني."...ومن المسجونين الشهيرين صالح بن يوسف وفتحي زهير وصالح فرحات ومحمد الفاضل بن عاشور وأخوه عبد الملك والطيب العنابي والصحبي فرحات والمنجي سليم وسليمان بن سليمان وعلي البلهوان والباهي الادغم، وأحمد بن ميلاد وعمار الدخلاوي، الخ... واحتفل الوطنيون في السجن بعيد الفطر.
وفي سبتمبر 1946 أطلق سراحهم فأقام لهم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور حفلا كبيرا بالمرسى احتفاء بهم، تخلـّلته خطب حماسية تكريما وعرفانا لهم بمواقفهم الوطنية. وألقى الشاعر القيرواني محمد يونس قصيدة جاء في مطلعها:
أعيدوا ذكر نصركــم *** إلى الذكرى مشوق مستهام
وغنوتي جهادكم فكل *** له شغف به ولي الهيــــــام
ولا تلغوا تردده دواما *** فيا لتردد ينتشر الهيــــــام
كما ألقى الأمير محمد باي مطلعها:
افرحي يا تونس بعد العنا *** بانجلاء الغم والعيش المشيـن
وافرحي تيها وجري أذيلا *** في حمى الديّان رب العالمين.
وفي احتفال مماثل عقد عشية الجمعة 4 أكتوبر 1946 بالبلفيدير ألقى الشيخ محمد بوشربية قصيدة جاء بآخرها:
أيا عمد البلاد ومن إليهم *** (يساو) القول يرفعه احترام
رسالتكم إلى الوطن المفدى *** هي استقلاله وهو المـــــرام
وإنا من ورائكم صفوفا *** ينادي والوجيب له صــرام
فحرب للآلي يبغون حربا *** وسلم للآلي ملك الســـــلام
لقد اثبت مؤتمر ليلة القدر قدرة التونسيين الفائقة على تجاوز خلافاتهم وعلى صمودهم والتفافهم من أجل عزة تونس واستقلالها والوقوف صفا واحدا في وجه المستعمر.
فهل سنتعظ بهذه الملحمة البطولية ونستوعب دروسها في هذه المرحلة العسيرة ونتجاوز أحقادنا ونخرج من النفق ونتصالح ونتحد خدمة لمصحة البلاد والعباد؟
فاخر الرويسي
- اكتب تعليق
- تعليق