حــول الزّراعــة في قـــرطاج
تشكو الحضارة القرطاجية زهد المؤرخين فيها واكتفاء الدارسين والمدرسين بمجموعة من معطيات نظرية وآراء جاهزة تجاوزتها البحوث العلمية الصحيحة وهذا يعود لسببين كبيرين أولهما يتمثل في قلة عدد المختصّين في الدراسات البونية ومع قلتهم تراهم ينشرون نتائج دراساتهم وبحوثهم بلغات أجنبية قلّ أن يستفيد منها القارئ التونسي والقارئ العربي عموما والسبب الثاني هو أن الدراسات التأليفية حول قرطاج وتاريخها وحضارتها تكاد لا تتجاوز مستوى التبسيط والعموميات ماعدا بعض الكتب التي نشرت باللغة الفرنسية حتى أنك تجد موطّآت لا تستند إلى دراسات قطاعية دقيقة.
ومعلوم أن التبسيط لا يكون ذا جدوى الا إذا كان منبثقا من دراسات قطاعية دقيقة، فالتبسيط يعني ضمنيا وجود دراسات تستند الى بحوث معمّقة دسمة يتولاّها مختصون من أهل الذكر مع العلم أنّ الوضع في خصوص الدراسات البونية القرطاجية وضع غريب لا يستسيغه المنطق السليم ذلك أن الدراسات المبسطة لا تستند إلى بحوث علمية من صلب الوطن دون تقوقع والعائق الأكبر يتمثّل في عدم وجود سياسة وطنية تخصّ البحث العلمي و النشر والترويج عبر الجامعات والمعاهد والمدارس على اختلاف أصنافها فضلا عن وسائل الاعلام السمعية والبصرية التي تسخّر الحرف والصورة لنشر المعرفة و اثرائها فالمؤلم ان الذين يعملون في حقول التاريخ والتراث عامة مازالوا فتاتا مهمّشين كقطرات ماء لمّا تستطع تكوين جدول مرشّح ليكون نهرا ماؤه فرات يشفي الغليل ويجزي الخصوبة.
فهناك نظريات ساذجة تحمل في طياتها الخطأ وقد ظهرت منذ قرون وانتشرت خلال القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين فهي من تلك التي شاخت وتجاوزها الزمّن ولكنّها لاتزال حية ترزق في بعض الكتب التي يتناولها التلميذ والمعلم والأستاذ والقارئ العادي ممن يريدون اقتناء ثقافة ثريّة تغذّيهم فيخصبون ومن بين هذه النظريات نظرية مضمونها أنّ القرطاجيين كانوا منصرفين إلى التجارة دون اهتمام كبير بالقطاعات الاقتصادية الأخرى وكانوا ممن لا يتردّدون في تجاوز القيم والمبادئ إذا كـــانت القضـــية تتعلق بالمال والثروة والربــــح اليسير.
الزراعة في دنيا قرطاج
كانت الآراء والنظريات تأتينا جاهزة ومازال الوضع على حاله في بعض الأحيان فتجد في تونس وفي البلاد العربية من يكتفي بلوك أقوال وآراء توفرت لهم عندما كانوا يستهلكون طحين الجامعات الغربية ناسين أنّ أغلب الأساتذة كانوا يدعونهم الى الاعتماد على البحوث العلمية وإعادة النظر في كلّ شيء حتّي تتهيأ لديهم آراء ومواقف ذاتية. لا أحد يشك في اشعاع التجارة القرطاجية التي وفّرت لمن يتعاطاها ثروات طائلة فقد كانت الأساطيل القرطاجية تمخر البحار والمحيطات لكن ذلك لم يثن قرطاج عن الاهتمام بالزراعة معتبرة ايّاها نقطة ارتكاز لسياستها الاقتصادية بل كانت الزراعة محلّ عناية كبرى. ومما ساعد على بلوغ ذلك المستوى الرفيع دراسات و أبحاث كان يقوم بها ثلَة من الخبراء أشارت إليهم النصوص القديمة إشارات عابرة ولم تحتفظ إلا باسمين وهما عبد ملقرت و ماجون.
أما عن عبد ملقرت فلا نعرف عنه إلا اسمه وقد اندثرت مؤلفاته وانقرضت فلا نستطيع أن نقول عنه شيئا وأما عن ماجون فالحظ شاء أن يكون أقل قساوة حيث بلغتنا بعض أخباره كما بلغتنا بعض الفقرات من مؤلفاته التي كان القدماء حريصين على نقلها وعلى الاستفادة منها. ومن اللافت أن قرطاج لم تشك الجوع قطّ بل كانت مخازنها وأهراؤها لا تخلو من القموح والزيوت والثمار المجففة كالتين والزبيب والتمر وغيرها ممّا تنجبه الأرض كلّما انكبّ عليها الانسان وسقاها بعرق الجبين لا سيما والزراعة كانت في قرطاج تحظى بفضول علماء كرّسوا حياتهم يتحاورون مع الأرض لإغرائها لتكون ولودا معطاء.
ماجون وموسوعته الزراعية
ومن الذين تألق نجمهم في ميادين الزراعة لابدّ من ذكر ماجون الذي صنّف موسوعة تناول فيها مختلف القطاعات الزراعية ويرجّح أنّه عاش فيما بين القرن الرابع والقرن الثالث قبل ميلاد المسيح وشاء الحظ ان يكون حليما تجاه الرجّل وبحوثه العلمية في حقل الزراعة وقد نمت الى شعوب المتوسّط أخبار ماجون القرطاجي والموسوعة العلمية التي صنّفها حول مختلف علوم الزراعة وشؤونها فكيف وصلتنا أخباره وأصداء موسوعته الزراعية؟
المصـادر
كانت تلك الموسوعة المجيدة من كنوز دار الكتب في قرطاج ولعل نسخا منها كانت من مقتنيات بعض الخواص المهتمين بالشأن الزراعي والذين يريدون الاستفادة من البحوث العلمية في ميدان يعتبرونه جوهريا لحماية المجموعة القرطاجية وسلامتها حتي تكون في منأى عن المجاعات و مما تتسبّب فيه المجاعات من جوائح وأمراض ومن سرّ الينعة التي تميّزت بها مدينة عليسة طوال تاريخها أنّها ما انفكت تعير مختلف ميادين الفلاحة عناية فائقة ولم تقتصر على ما قد توفّره التجارة من أرباح طائلة ذلك أن الدولة أيّا كانت وفي كل العصور ومختلف الأصقاع لا تستقيم شؤونها ولا تنعم بالسلم ما لم تكن المجموعة الوطنية مطمئنّة بعيدة عن هواجس الخصاصة ولا تنعدم هذه الهواجس إلا إذا كان الإنسان في مأمن من الجوع والعطش وهو ما لا يتوفر الاّ اذا توفّرت عناية هيكلية بشؤون الفلاحة ترعاها الدولة ويؤمن المواطنون بجدواها.
لم تكن موسوعة ماجون من صنف الكتب التي يحتفظ بها على رفوف مكتبات تتحلّى بها قاعت الاستقبال عند العائلات الميسورة المثقّفة بل كانت وسيلة عمل يعتمدها الفلاحون عند الحاجة ولعل بعض فصولها كانت تلصق في غرف المشرفين على الأعمال اليومية وبالرغم من هذه العناية ومن هذا الاهتمام المتواصل الحلقات لم يبق لنا من موسوعة ماجون إلا ستّ وستّون فقرة وردت مبعثرة في كتب بعض علماء الفلاحة نخص بالذكر منهم ورون Varro وقولوملاّ Collumelle وجـــــرجليو سمرسيــــاليس الإفريقي Gargilius Martialis وهو مصنّف افريقي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد وبالإضافة إلى التراجم لا بدَ من إشارة إلى الذين نوّهوا بماجون وموسوعته دون أن يكونوا من المختصّين في شؤون الزراعة ومنهم الكاتب الشهير والمحامي البارع قيقيرو Cicéron الذي أثبت أن الفلاح الروماني كان لا يستغني عن قراءة موسوعة ماجون كلما أراد توجيه تعليمات إلى الذين يشرفون على ضيعته ففيها يجد الفلاّح المباشر حلولا مناسبة ونصائح ناجعة فالموسوعة كانت شائعة في الأوساط الرومانية وكان لا بد للذين يريدون التأليف في علوم الزراعة أن يعودو إليها لما فيها من فوائد وكان لا بد للفلاح مهما كان اختصاصه أن يستوعبها بل أن تكون دائما معه حتى يستنجد بها عند الحاجة. وجاء في بعض الفصول من كتاب ورون أن المشرف على تربية البقر كان يحمل معه مقتطفات من الموسوعة تتناول كيفية علاج الثيران... وأورد بعض القدماء أن الشاعر الروماني ورجليوسلما أراد كتابة أشعاره حول الحياة الريفية Géorgiques فاستعان بالموسوعة الماجونية.
أما الفقرات التي بقيت من موسوعة ماجون وعددها كما قلنا 66 فهي تتعلق بزراعة القموح وغراسة الأشجار المثمرة كالكروم والزيتون واللوز والرمّان والتين ومن بين ما تبقّى منها أيضا وصفات طريفة منها وصفة أكلة تتباهى بها المائدة القرطاجية في الأعياد والمناسبات الاحتفالية ثم لابد من ذكر وصفة أخرى تخص نبيذا كان مفضّلا عند القرطاجيين وفي الموسوعة إشارات الى نباتات بريّة تستعمل في الصيدلة ثمّ أن هناك قسما يتناول تربية الماشية وتربية النحل لإنتاج العسل وأخيرا نجد قسما خاصّا للتصرّف في الضيعة ويحتوي على مجموعة من النصائح تتعلق بإدارة الضيعة منها نصيحة جاءت في صيغة قول مأثور ومضمونها: إذا اشتريت ضيعة فعليك أن تبيع البيت التي تملكها في المدينة وفي ذلك إشارة إلى ضرورة الإقامة في الضيعة إذا أراد صاحبها الإنتاج والإنتاجية.
وهكذا نتبيّن أنها عمل مفيد يجده القارئ لا في دور الكتب فحسب بل كانت موسوعة ماجون من أمهات الكتب العلمية التي لا تخلو منها الضيعة فليس من المجازفة إذا اعتبرنا ماجون من أشهر الذين كان الرومان يردَدون أسماءهم في المدينة والريف ويعتقد الكثير من المؤرخين المعاصرين أنّ موسوعة ماجون ساهمت مساهمة فعاّلة في إنعاش الاقتصاد الروماني. هكذا نتبيّن أن القرطاجيين كانوا يوجهون عناية فائقة إلى الفلاحة وكانوا حريصين على ضمان ازدهار فلاحتهم فسخّروا لها العقول ووضعوا لها أسسا علمية فلم لا يساهم معهد البحوث الزراعية في تونس في جمع ما تبقّى من موسوعة ماجون القرطاجي وتصنيفه مع دراسة معمّقة ينجزها فريق من المختصين التونسيين برعاية وزارة الفلاحة ومباركة الدولة التونسية حتى يكون العمل مفخرة تباهي بها بلادنا لدى المهتّمين بشؤون الفلاحة في العالم؟
محمّد حسين فنطر
- اكتب تعليق
- تعليق