تشتّت قوى العالم الإسلامي: العلاقــات العربية التركية نموذجـا
من المفروض أن يكون الرابط الثقافي بين غالبية بلدان العالم الاسلامي، متمثلا في القيم الدينية والاجتماعية والعادات والتقاليد وغيرها والقوة الطبيعية التي تجمع المسلمين وتؤلف بين الشعوب من مختلف الأجناس. إلاّ أن الحقائق التاريخية وطموحات السياسيين تفيد العكس. وكمثال لذلك، تبدو العلاقات العربية التركية عبر التاريخ وإلى يومنا كنموذج لتشتّت القوى، في حين أن العديد من العوامل يمكن أن تجمعها.
كان العهد العثماني ولا يزال أكثر الفترات جدلا بين المؤرخين والمفكرين. والدولة (أو الخلافة) العثمانية كما يحلو للبعض تسميتها، عمرت لفترة قاربت الستة قرون وغطت مساحتها جغرافيا واسعة، كانت من ضمنها العديد من الدول العربية مثّل مواطنوها مجرّد رعايا. وفي هذا الخصوص يطرح السؤال «إن كان العثمانيون غزاة أم حماة للإسلام وللبلدان الاسلامية» التي رزحت تحت سيطرتهم لمدة قرون، بالرغم من التصدي العثماني للأخطار البرتغالية والإسبانية في المحيط الهندي و في جنوب المتوسط. وعقب انهيار الدولة العثمانية تعمّقت هوة الخلاف القديمة بين الطرفين وازدادت حدة الاتهامات المتبادلة وصدرت أحكام متسرعة، من بينها عدم إشارة مناهج التعليم التركية إلى أي معلومة عن العالم العربي وتصوير الفترة العثمانية في جل المناهج العربية كفترة استعمار قاتمة. كما لم نشهد أحدا في تركيا يتطرق إلى نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار وكفاح شعوبها من أجل الاستقلال.
مع تأسيس الدولة التركية «الكمالية» الحديثة، انتهجت تركيا سياسة ما سمي «بصفر مشاكل» انطلاقاً من الأسس التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك. إلاّ أنها اعتمدت القطيعة مع العالم العربي، على أن الخيار الاستراتيجي والنهائي لتركيا هو أوروبا والغرب عموما. وبعد الحرب العالمية الثانية، عملت التحالفات الغربية ضمن خططها على وضع تركيا وإيران والدول العربية في سلة واحدة في ما سمي «بالشرق الأوسط» الذي عرضته بريطانيا على مصر سنة 1951 والذي لم ير النور، مرورا بحلف بغداد سنة 1955 والتي كانت تركيا طرفا فيه مع دولة عربية واحدة وهي العراق، وصولا إلى مشروع ايزنهاور الذي طرحته الولايات المتحدة الامريكية على المنطقة بعد حرب السويس سنة 1956، وكانت كذلك تركيا طرفا فيه. ولا يفوتنا أن المسألة الفلسطينية احتلت جانبا من اهتمامات تركيا في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، حين عارضت قرار التقسيم (1948) واصطفت إلى جانب الدول العربية.
في جوهر العلاقات العربية التركية، لا يمكن غض النظر عن العامل الجغرافي الذي يمتد على مسافة قرابة 1200 كيلومتر مع سوريا والعراق، وهو ما يجعل للأمن المشترك قيمته الهامة. كما يمثل وجود أنهار كبرى (دجلة والفرات) عاملا حيويا تشترك فيها الدول الثلاث، وسط خلافات بين هذه الدول بشأن مياه النهرين، خاصة في ظل استخدام أنقرة لها كورقة ضغط على دمشق وبغداد في العديد من المحطات التاريخية. ومثل كذلك التعاون العسكري التركي الإسرائيلي نسبيّا عقبة أمام التقارب بين الطرفين. ومنذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم مع نهاية سنة 2002، حاول وضع نهاية لهذه السياسة وإتباع سياسة جديدة تحقق لتركيا دور الدولة القائدة المؤثرة في العالم العربي. وقد بادر في وقت قياسي بترميم العلاقات الخارجية مع دول الجوار وخاصة سوريا واليونان مما أثار خشية صعود تحالفات جديد يمكن أن تؤثر في مصالح ونوايا بعض القوى. كما كرس جهودا كبيرة لمزيد اكتساح أسواق الدول العربية لتصريف المنتوجات التركية.
كان الانفتاح التركي الواسع تجاه العالم العربي، مدفوعاً بعوامل التاريخ والجغرافية والثقافة والسياسة. وقد أبدت الدول العربية اندفاعا كبيرا تجاه ذلك، متطلعة إلى دور تركي مختلف ومناصر لقضاياها. وقد اختلفت نظرتها إزاء الانفتاح التركي، تراوحت بين دول الخليج التي رأت في المسعى التركي عاملا إقليميا يمكن أن يؤثر على الدور الإيراني في المنطقة ويحّد منه، وبين دول أخرى رأت أنّه يعمّق الدعم الإقليمي للقضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية. وفي ذات الوقت تمكن حزب اردغان وخلال فترة قصيرة من إجراء مجموعة من تعديلات قانونية ودستورية قدمتها حكومة العدالة والتنمية في إطار تلبيتها لمطالب الاتحاد الأوروبي لتمكن تركيا من الانضمام إليه. وتقضي التعديلات الجديدة خاصة بتقليص دور ونفوذ الجيش الذي عرف منذ ذلك التاريخ ارهاصات وصلت إلى حد محاكمات بالجملة للعديد من الضباط السامين. إلا أن الساسة الاتراك يعلمون جيدا أن الاتحاد الاوروبي «ناد مسيحي مغلق» وأن التعديلات كانت تهدف إلى تقليص دور الجيش الحارس لتركيا «الكمالية» وثوابتها العلمانية.
ولم يكن في الحسبان أن فوز حزب العدالة والتنمية مؤشرا لانبعاث «أشواق الخلافة التركية» التي قوّض أركانها اتاتورك منذ سنة 1924. إلا أن العديد من المؤشرات تفيد العكس، حيث بينت تطورات الأحداث أن النظام التركي الجديد الذي تباهى بالإسلام «الحداثوي» وبالعودة إلى سياسة «صفر مشاكل»، كان هدفه تحقيق مشروع إقليمي. فبعد أن بذلت تركيا، التي كانت تعتبر عدوانية إزاء المنطقة، جهداً هائلا لإصلاح علاقاتها مع جيرانها، جاء ما سمّي بالربيع العربي الذي دعمته بكل جهودها ونسقت له مسبقا مع حلفائها الغربيين. ويتوجّب التذكير بأن الخطاب السياسي التركي الذي وضّف نجاحات تركيا الاقتصادية لصالح حزب العدالة والتنمية، في حين أن تلك النجاحات كانت بفعل ذكاء وتحركات رجال الاعمال والصناعيين الأتراك الذين نجحوا في إقامة شبكات تبادل وشراكة خاصة مع الفاعلين الاقتصاديين في أوروبا وغيرها وهو الخط الليبيرالي الذي رسم معالمه طورغوت أوزال منذ عقود حين قرر الانفتاح والليبيرالية للاقتصاد التركي، دفع بالعديد من قوى حركات الإسلام السياسي وخاصة تنظيم الإخوان المسلمين (ومن بينهم رئيس حركة النهضة)، إلى المطالبة بتطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم.
إلا أنه تبين لهذه الحركات حجم الاختلاف بين الواقعين العربي والتركي والفرق الشاسع لتجربة الإسلام السياسي بينها، فضلا عن تعثر هذه التجربة وإخفاقها، في ظل تفاقم المشاكل الداخلية في تركيا وصراع اردغان المرير مع المعارضة العلمانية وكذلك حزب العمال الكردستاني وغيرها. وقد أدى ذلك إلى اختفاء مطالبة هذه القوى بتطبيق النموذج التركي، الذي سعى اردوغان وداوود أغلو في كل مناسبة إلى التسويق له بعد أن أثار حفيظة العديد من الدول العربية بوصفه يحمل مشروعاً ايديولوجيا إقليميا بمختلف أبعاده.
كما تبــين أن تـــركيا تدعـــم جماعـــات الإســــلام السيــــاسي وتحــــديدا حركات الإخــــوان المسلمين وتسعى إلى إيصالها إلى السلطة وتحاول ربط الحكومات الجديدة في هذه الدول بالسياسة الإقليمية التركية على اعتبار أن تركيا قائدة للعالم الإسلامي. وهــو ما تسبــــــب في صـــــدام مـــع الأنظمــــة التي عملت أنقرة في الســـابق على تحسين علاقاتها معـــها.
برز كذلك تورط أنقرة الواضح في الأزمة السورية وتسخير الأراضي التركية ممرا ومقرا للمجموعات المسلحة التي تتحول إلى سوريا والعراق لتقاتل باسم الجهاد، في حين أنها ترتكب المجازر ضد الجميع، وهو ما أفقد حكومة اردوغان مصداقيتها وبرزت كقوة داعمة للإرهاب، وبشهادة حلفائها.
اتبع اردغان سياسات مختلفة ومتعدّدة تجاه الدول العربية. ولعل السبب الأساسي لهذا الاختلاف يكمن في خصوصية المصالح من دولة إلى أخرى، فضلاً عن حجم العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول ربطا بالأهداف السياسية إزاء كل منها. وقد سجل التبادل التجاري التركي مع العالم العربي تراجعا ملحوظا، ويمكن أن يتعرض الاقتصاد التركي لمزيد التراجع خاصة في ظل مؤشرات الانكماش والتضخم وتراجع الاستثمار الخارجي والداخلي وفقدان الليرة التركية لقيمتها أمام العملات الأجنبية. ومن المرجّح أن يتفاقم هذا الوضع إذا ما وجدت المصالحة بين الدوحة والقاهرة طريقها إلى النور في ظل المساعي السعودية والكويتية التي تبذل في الخصوص. وهو ما يعني أن تركيا قد تخسر آخر حليف أيديولوجي لها في العالم العربي، وربما لن تبقى لها سوى حركة حماس التي تتخبط في العديد من المشاكل ومن بينها الحصار والتمويل والخلافات مع حركة فتح.
ويخشى أردوغان من انتقال ما حصل في مصر إلى تركيا ومن حركة اجتماعية مدعومة من المؤسسة العسكرية تتحرك في الشارع ضده على وقع قضايا الفساد والاعتقالات. وهو ما دفعه إلى انتهاج أساليب إقصائية ضد كل حركة أو احتجاج ضده. كل ذلك يجعل اردغان يعيش على هاجس احتمال حصول انقلاب عسكري ضده بالرغم من نجاحه الكبير في الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية التي تعد أعرق وأهم مؤسسة في تاريخ الجمهورية التركية.
ولا يفوت الدول العربية أن خطر داعش بات يهدد أمنها وحتى وجودها وهو ما يؤشر للعديد من التحولات في المواقف والتحالفات التقليدية ويزيد من عزلة اردغان إن لم يراجع سياساته الخارجية ويعمل على حشد التوافقات مع دول المنطقة. إلاّ أن العالم العربي غير واع بمسألة «الاّ فكاك» مع القوّتين المتاخمتين له وهما تركيا وإيران. و«الاّ فكاك» الذي أفرزته الجغرافيا خلق عضوية لا مفر منها، واصل التنكر لها منقادا بشعور كراهية تاريخية، بعيدا عن مبدأ طي صفحات الماضي والعمل على المضي إلى الوفاق مع محيطه. ولا يبقى للدول العربية في الوضع الراهن سوى توحيد مواقفها قصد دحر مخـــاطر المستقبل التي تنذر بما يمكن أن يعصف بما تبقى من مقوماتها.
إن شعب تركيا المتميز يؤمن بالعمل والرقي ويتأقلم بشكل لافت مع الحداثة والتطور. ومن غير المستبعد أن تفرض المستجدات على الساحة الإقليمية تحولات ستدفع تركيا إلى مراجعة سياستها الخارجية و إلى التأقلم مع الواقع الجديد وتنقية الأجواء القاتمة خاصة مع محيطها العربي والإيراني والروسي، على أمل أن يكون للساسة الأتراك قدر كاف من الحكمة لتحقيق ذلك. إلا أن التطورات الأخيرة في تركيا والمتمثلة في إزاحة داود أغلو، رئيس الوزراء ونيّة أردغان إقامة نظام رئاسي قد تعزز المخاوف من انتقال البلاد إلى مرحلة سياسات وقرارات فردية. ويبدو أن حلم اردغان بالسلطة المطلقة قد يتحقق بعد اختياره لبن علي يلدرم كوزير أول والمعروف بولائه المطلق واللامحدود له. وقد تجسم ذلك بنيل حكومة يلدرم الجديدة بثقة البرلمان بتاريخ 29 ماي المنقضي، وهو ما قد يفتح المجال لإجراء التعديلات الدستورية الضرورية للمرور إلى نظام رئاسي، وسط مخاوف المعارضة من الانزلاق نحو شخصنة السلطة، إضافة إلى رفع الحصانة البرلمانية عن عشرة نواب محسوبين على الشق الكردي، فضلا عن رفض الشارع التركي عموما منح اردغان صلاحيات رئاسية موسعة.
توفيق جابر
- اكتب تعليق
- تعليق