أخبار - 2016.06.27

التلفزة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬في‭ ‬الذّكرى‭ ‬الخمسين‭ ‬لتأسيسها: الحصيــلة‭ ‬والـدّور‭ ‬المُــرتقب

التلفزة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬في‭ ‬الذّكرى‭ ‬الخمسين‭ ‬لتأسيسها: الحصيــلة‭ ‬والـدّور‭ ‬المُــرتقب

تحتفل التلفزة الوطنيّة التّونسيّة هذه السّنة بالذكرى الخمسين لميلادها، ومع ما يحمله الاحتفال من معاني الوفاء لجهود الرّوّاد الذين وضعوا لبناتها الأولى واجتهدوا، رغم الصّعاب، لإكساب تونس صوتا وحضورا في عالم الثّقافة السّمعيّة البصريّة، قد يحسن اغتنام هذه المناسبة للتّساؤل عن موقع القنوات العموميّة في المشهد السّمعيّ البصريّ الرّاهن وأيّ دور لها مستقبلا في خضم التّحوّلات المتسارعة التي تشهدها البلاد وإذا ما كانت مهامّها وبرامجها تستجيب فعلا لصفتها كمرفق عموميّ. وقد يكون من المفيد التّأمّل في حصيلة عقود من العمل التلفزيّ والإلماع، بقدر ما يسمح به المجال، إلى النّجاحات والإخفاقات التي عرفتها المؤسّسة، وإلى العوائق التي اعترضت عملها وحالت دون تحقيق بعض الأهداف المرسومة لها، سواء كان ذلك بضغوط خارجية من السّلطة السّياسيّة التي تتّخذ المؤسّسة منبرا دعائيّا أو داخليّة تتعلّق ببطء التّأهيل وروتينيّة التسيير.

من المـفـــروض، أن تكـــــون القنـــوات العـمـوميّة أداة لسيـــــــاسات تـــرمي، من حيث المبدأ، إلى خدمة المصلحة العامّة وسدّ حاجة المواطنين إلى مادّة متوازنة بين العناصر الإعلاميّة والتّربـــويّة والثّقافيّة والتّرفيهيّة. والواضح أنّ المـــادّة التلفزيّة عندنا لم تحقّق قطّ مثـــل ذلك التّوازن، بل لعلّها لم تطمـــح إليه أصلا، مثلما يبـــدو من برمجة أميـــل إلى التّرفيــــه والخدمات الإعــلاميّة، مع خضوع واضح للإمــــلاءات الســّيـــاسيّة التي تعيق أيّ محــــاولة للتّطويــــر - إن وجدت - من داخل المؤسّسّة.

ويمكن الإشارة، في هذا السّياق، إلى قضيّة هامّة تتمثّل في ضعف التّفاعل شبه المزمن مع الشّأن الثّقافي على مدى العقود الخمسة الماضية باعتبار ضيق الحيّز المخصّص للفكر والآداب والفنـــون، ولنضـــرب لذلك مثــــلا بتواضع المادّة التّاريخيّة في برامج تلفـــزتنا العموميّة وخاصّة تاريخ تونس منذ الأزمنة القديمة، وذلك خلافا لما توليه القنوات الأجنبيّة في البلاد المتقدّمة من أهمّيّة الثّقافة التّاريخية في معناها الشّامل وفي شتّى صيغها الفكريّة والتوثيقيّة والقصصيّة، وغير خـــافٍ ما لمعـــرفة التّاريخ من أهميّة جوهريّة وما لها من دور في بناء الوعي بالانتماء إلى مجتمع واحد معنيّ بمدّ الجسور بين ماضيه وحاضره.

مسيرة طويلة بين نجاح وإخفاق

انطلقت التّلفزة التّونسيّة بعد مضي عقد على الاستقلال في سياق بناء الدّولة الحديثة ولعل ما أوكل إليها من مهامّ يتوافق، نظريّا، مع الأهداف المعلنة للدّولة في بناء الهياكل والمؤسّسات وإرساء منظومة تربويّة حديثة والنّهوض بالثّقافة انتاجا وإعلاما،وتحقيق تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة متوازنة. غير أنّ التّلفزة العموميّة لم يتح لها، على مدى تاريخها، أن تكون مرآة صافيّة تعكس بجلاء صورة شاملة لواقع المجتمع وأحوال البلاد، بل لقد كانت الصّورة منقوصة ومشوبة بالضبابيّة أو التّحدّب لمرورها من خلال موشور الرّؤية السّياسيّة المهيمنةكانت القناة العموميّة إذن «رسميّة» بكلّ ما تحمله الكلمة من معاني التّوجيه والرّقابة ومراعاة أولويات السّلطة. ورغم ذلك فقد حقّقت في فترات ما - وفي حدود ما أتيح لها من إمكانات - منجزات رائدة تُذكَرُ لها، واستسلمت في فترات أخرى إلى الرّوتين المستحكم عادة في الإدارة والرّافض للتّجديد والتّنويع وتوسيع الرّؤية والانفتاح على ما يجد من تحوّلات في المشهد السّمعيّ البصريّ في الدّاخل والخارج.

نقاط مضيئة وانجازات رائدة

ولنبدأ بذكر المنجز الذي حقّقته التلفزة العموميّة في مجال بلورة الإحساس بالانتماء إلى المجموعة الوطنيّة من خلال انتاج رؤى وأنماط سلوك وعادات استماع ومشاهدة كانت الإذاعة المسموعة قدّ أسّستها وأتت التلفزة لتأكيدها وترسيخها في النّسيج المجتمعي، وقد كانت تلك مساهمة لا يستهان بها في إثراء ثقافة مشتركة، وأمكن للقناة العموميّة انتاج برامج توعية اجتماعيّة وتربويّة والتّعريف بعناصر من التّراث المادّي واللاّماديّ وكان ذلك في الغالب بمبادرة من بعض الأشخاص الذين يدفعهم حماسهم إلى العمل دون مقابل مجز في أغلب الأحيان. كما يُذكر للقناة الوطنيّة بناء تقاليد انتاج درامي تونسيّ، بلغ النّضج بفضل إرادة حازمة من مسيّري المؤسّسة في مرحلة ما، وكان من نتائجه الحدّ من هيمنة النّتاجات المستوردة.

محاذير القصور عن استيعاب تنوّع الواقع

غير أنّ تلك البرامج النّاجحة كانت في منافسة غير متكافئة مع كمّ كبير من الموادّ التي لا تستجيب لمقاييس البحث المعمّق والمراجعة النّقديّة وربّما رافقتها تعليقات لا تبعد كثيرا عن اللّغة الخشبيّة ولا علاقة لها أحيانا بالواقع كما يعيشه المواطنون.كانت ثقافة معلّبة تُبَثُّ من المركز ولاتسندها نظرة شموليّة تستقرئ مجمل الحاجات الاجتماعيّة والثّقافيّة والرّوحيّة التّي تعتمل في الأطراف؛ وإن هي أشارت إليها عرضا، ففي صيغ مبتسرة لا تكاد تفي بالموضوع. لقد مرّ دهر لم يكن يعرف المشاهدون فيه من واقع الجهات الاجتماعيّ والثّقافيّ إلاّ ما يسمح به المنظور السّياسي ولم يكتشفوا من تراثها الثّريّ الماديّ واللاّماديّ إلاّ ما يعرض في اطار التّظاهرات السّياحيّة أو في بعض الحصص أو الأشرطة الوثائقيّة التي كان يجهد منتجوها في البحث عن كنوز ثقافة شعبيّة منسيّة، ولا يخفى ما في ذلك من نتائج سلبيّة على السلّم الاجتماعيّة وما يحدثه من صدوع في جسد المجتمع. ولنا كذلك في المادّة الموسيقيّة مثال عن غياب التّنوّع، حيث كادت تقتصر طوال عقود على الأغنية الخفيفة دون تطوير أشكال أخرى مثل التّأليف الموسيقيّ الصّرف والعزف المنفرد والمسرح الغنائي الذي كان له قبل الاستقلال حضور واسع وحمل سمات تجديد حقيقي ثم غاب عن اهتمامات الثّقافة الرّسميّة ولا نكاد نجد له أثرا إلاّ في تجارب قلّة من الفنّانين حاولوا بعثه من رماده فيما بعد. وكذلك الشّأن بالنّسبة للمسرح الذي لم يحظ بما يكفي من الاهتمام في الشّاشة الصّغيرة رغم كونه من الفنون الأكثر حيويّة عندنا، باستثناء عدد محدود من الأعمال المسرحيّة حرص على تصويرها مسؤولون عن المؤسّسة في اطار محاولة استعادة بعض من دورها في الحيّز الثّقافي.

انخرام التّوازن بين الماديّ والفكريّ في عصر الإشهار

أمّا عن استبعاد الشّأن الفكري الجادّ ممثّلا في الحوارات الأدبيّة وإنتاج ملفّات معمّقة عن الفنون المختلفة والعناية بالكتاب نقدا وتعريفا فحدّث ولا حرج والوضع لا يزال قائما إلى اليوم رغم ما يقال عمّا نتمتّع به اليوم من حريّة فكريّة. إنّنا لا نزال نلاحظ وفرة حظّ المواد الغذائيّة والنّتاجات التّرفيهيّة على اختلاف أنواعها من الإشهار مقارنة بتواضع حظّ الكتاب منه، ومردّ ذلك إلى عجز أغلب النّاشرين عن دفع مقابل الإعلان الإشهاري لمنتجاتهم، والحال أنّ السّياسة الثّقافيّة الرّسميّة تطنب في الحديث عن أهمّيّة المطالعة ودعم دورها الأساسيّ في بناء الشّخصيّة وتنميّة القدرات الذّهنيّة، ولكنّ أصحاب القرار لم تخامرهم فكرة رصد ما يكفي من الاعتمادات لرسم سياسة تنهض بذلك الدّور وتخصيص ما يكفي من الدّعم للتّعريف بالكتاب، منهاالإعلان عن صدوره على الشّاشة.وقد بات واضحا أنّ التّقصير في تقديم المادّة الثّقافيّة بطريقة تجتنب التّعقيد وتلائم التّقنيات الاتّصالية الحديثة شكلا ومحتوى، له سلبيّات على الذّهنيّة العامّة وعلى مستوى آداب الحوار، ممّا يقوم دليلا على اختلال التّوازن بين المادّي والفكري في المنظومة الثّقافيّة.

في ضرورة النّهوض بدور التلفزة العموميّة

وخلاصة القول إنّ تعدّد القنوات الخاصّة باختلاف مشاربها واتجاهاتها وتباين مصالحها الماديّة يفرض على السّلطات العموميّة إعادة هيكلة التلفزة الوطنيّة ومراجعة وسائل عملها وتجديد مضامين نتاجاتها ودعمها بالكوادر من ذوي الاختصاص والتّميّز لدعم قدرتها على المنافسة ضمن المشهد السّمعيّ البصريّ الحالي. وانطلاقا من أنّ القنوات الخاصّة، مهما بلغت من الحرفيّة وثراء المضمون، لا يمكنها أن تعوّض التّلفزة العموميّة لتباين الأهداف والمصالح. وحيث أنّ الأخيرة ملك للجميع فالواجب أن يُرَاعَى في عملها، أوّلا وأخيرا، ثراء المضمون وحِرَفيّة الأداء دون الخوض في الحديث المستهلك عن المردوديّة وحسابات الرّبح والخسارة التي تُتَّخَذ ذريعة من قبل خصومها لتحجيم دورها مع العلم أنّ طبيعتها كمؤسّسة تخاطب كلّ شرائح المجتمع ولها مهامّ ذات نفع عام، يؤهّلها لأن تحظى بدعم ماديّ ومعنويّ مستمرّ من الدّولةعلى أمل أن تكون مخبرا ينتج الرّؤى المشتركة ويولّد الأفكار المؤسّسة للمستقبل.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.