مع بداية المفاوضات حول اتفاق شراكـة جديد أوروبا ليست قدرنا المحتـوم
تتجه تونس نحو التفاوض مع الاتحاد الأوروبي للتوصّل إلى اتفاق شراكة جديد سيكون، إذا تم التوقيع عليه، مصيريا للأجيال المقبلة. وبينما تؤكد الحكومة أن المفاوضات بهذا الشأن لم تبدأ بعدُ، وأن تونس حرة في أن تخوض هذه المفاوضات أو ترفضها، يعتبر الجانب الأوروبي أن المفاوضات انطلقت رسميا يوم 13 أكتوبر الماضي عندما وقع رئيس الحكومة والمفوضة الأوروبية المكلفة بالتجارة وثيقة انطلاق المفاوضات. ونلاحظ في هذا الصدد أن الأوروبيين لا يستخدمون، مثلا، عبارة مباحثات استكشافية أو تمهيدية، بل «مفاوضات»، بينما يُصرُ الجانب التونسي على أننا لم نصل إلى مرحلة التفاوض. ويُطلق على اتفاق الشراكة المُزمع التوصل إليه اسم «اتفاق التبادل الحر الشامل والمُعمق» الذي يُعرف اختصارا بـ ALECA، وهو يشمل قطاع الفلاحة والخدمات والاستثمار، أي المجالات التي لم يشملها اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي في 1995.
لاريب أن اتفاقا يفتح السوق التونسية أمام تدفق الزراعية والخدمات والاستثمارات من أوروبا، المُتفوقة علينا في كل المجالات، سيُزعزع أركان اقتصادنا العليل ويُوجه ضربة قاتلة لمُنتجينا في تلك القطاعات. ولكن الاستمرار في الحماية وغلق السوق ليسا حلا على الأمدين المتوسط والبعيد، في ظل عالم غدا اليوم أصغر من قرية. من هنا لا بد أن يستند البتُ في أي خيار مصيري على رؤية دقيقة لموقع تونس الاستراتيجي والشراكات التي يمكن أن تُقيمها مع الدول والتجمعات التي نرى مصلحتنا في التعامل معها. وهذا يتطلب تقويما شاملا لأداء اتفاق الشراكة الذي مضى على توقيعه أكثر من عشرين سنة، وكذلك قراءة للشراكات المُماثلة التي أتت بعدنا. رُبما تكون تونس قد استفادت من كونها أول بلد متوسطي توصل إلى اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 1995، لكن الأكيد أن البلدان التي أتت بعدنا قد استفادت أكثر من نقاط قوتنا وضعفنا لتقود المفاوضات بما يُتيح لها تحصيل فوائد أكبر.
لذا علينا أن ننطلق من قراءة المشهد الدولي ومنزلة تونس فيه، لاستجلاء الميزات والفرص التي باتت تُتيحُها لنا الثورة الرقمية، فنحن في حقبة تختلف عن تسعينيات القرن الماضي. والشركاء المُحتملون اليوم كُثرٌ، منهم البلدان الافريقية وهي التي يُحقق بعضها حاليا نسبة نمو ذات رقمين، والتي تستهلك كل ما نُصدره إليها (على قلته). كما تشكل البلدان الآسيوية وخاصة منها الاسلامية (أندونيسيا، ماليزيا، باكستان...) فضاء يحمل في أعماقه فرصا كبيرة للاستثمار والتبادل التجاري، على رغم بُعد المسافات. وفي شرق أوروبا والبلقان فرص من نوع آخر كان يجدر بنا أن نستكشف كوامنها وننسج معها علاقات تبادل وتعاون. ثم هناك الغول الصيني الذي غزا أسواقنا من خلال قنوات التجارة الموازية، وقد يكون الأجدى أن نتوصل معه إلى اتفاق شامل يحمي منتجاتنا من المنافسة غير الشريفة.
كل هذه العناوين تؤكد أن أوروبا ليست قدرا محتوما علينا ولا مصيرا مكتوبا على جبيننا. طبعا من السذاجة الاعتقاد بأننا قادرون اليوم على التفصي من العلاقات التي نسجتها قرون من السلم والحرب بيننا وبينها. ولكن ليس مقبولا أن نبقى رهينة للنظرة المركزية الأوروبية ونتغاضى عما يدور في العالم من حولنا، ولا نبحث فيه عن مصلحتنا.
الخطاب الأوروبي يحُثنا حثا على القبول باتفاق شراكة جديد أشمل وأعمق من اتفاق 1995 مع الاتحاد الأوروبي، مُعتبرا المخاوف المُعلنة شبيهة بالأصوات الجزعة التي تعالت قبل كل عملية توسيع للاتحاد الأوروبي على طريق الوصول إلى حجمه الحالي (28 عضوا). لكن هذا الخطاب يتناسى الفوارق بين حجم الدعم الكبير الذي أغدق على البلدان المُرشحة للعضوية، مثل اليونان وبلغاريا وسلوفينيا، والثمرات العجاف التي سنحصدها من «اتفاق شراكة شامل ومُعمق» مع الاتحاد، هذا إن حصدنا شيئا ولم تكن الحصيلة «حصاد الهشيم». وأظهرت الدراسة التي أعدها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات حول اتفاق الشراكة الشامل والمعمق أنه لكي يستطيع قطاعنا الفلاحي امتصاص تداعيات تحرير التبادل مع أوروبا ينبغي أن تُحقق الصادرات الزراعية نموا سنويا بنسبة 8 في المئة، وهو أمر مستحيل. أما في قطاع الخدمات فينبغي أن تنمو الصادرات بنسبة 15 في المئة سنويا من خلال زيادة سنوية في الإنتاجية تُقدر بـ7 في المئة. فهل هذا ممكن؟
ليس من المبالغة القولُ إننا نقف اليوم في مفترق شراكات عديدة تُعطي فرصا مختلفة ومتفاوتة لتونس، رغم إكراهات التاريخ والجغرافيا. لكننا نتعاطى مع هذا الموضوع المصيري في مناخ سياسي مُختلف عن السياق الذي اكتنف التوصل إلى اتفاق 1995، إذ تم تغييب المجتمع المدني والنخب السياسية والاجتماعية عن المفاوضات السابقة، مما أضعف جانب المفاوض التونسي، ولم يترك له مساحة كبيرة للمناورة والضغط. ولا ينبغـــي أن تتحول حصص الاستماع لمُكونات المجتمع المدني إلى نوع من تنفيس الاحتقان في ســـوق عُكاظ اقتصادية، من دون أي تأثير في توجيه المفاوض التونسي. وقـــــد أظهرت المناسبات التي طُرح خلالها هذا الموضــــوع على بســــاط البحث والمناقشة، وآخرها ندوة «المعهد العـــربي لرؤســــاء المؤســـسات» الشهـــر الماضي، أن غالبية المتحدثين تجنحُ إلى الحذر والاحتراز، إن لم يكـــن إلى التوجس والتشكيك. وهذا ما يؤكد مجددا ضرورة التريث في إطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وإعطاء الفرصة للنخب التونسية لكي تناقش، ربما لأول مرة، المنزلة التي تختارُها لبلادها انطلاقا من موقعها الجيوستراتيجي وإرثها الحضاري.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق