الأكراد: القضية ربـاعيّـــة الدفع
«إن سوريا ليست مهيّأة لنظام حكم فيدرالي... فهي من النّاحية الجغرافيّة صغيرة جدّا لكي تكون فيها فيدراليّة، أما من الناحية الاجتماعيّة فإنّ النظام الفيدرالي يصلح لمكوّنات لا تستطيع العيش مع بعضها البعض، وهو ما لا ينطبق على التاريخ السوري»، ذلك ما أكّده الرئيس السوري بشّار الأسد في مقابل أجراها يوم الأربعاء 30 مارس 2016 مع وكالة الأنباء الرّوسية «سبوتنيك».
وقد جاء هذا التأكيد على إثر إعلان عدّة أحزاب كردية سوريّة، يوم الخميس 17 مارس 2016، عن قيام كيان كردي ذي «نظام فيدرالي» بين ثلاث مناطق في شمال سوريا، وهي كوباني وعفرين والجزيرة.
وقد أثار هذا الإعلان ضجّة كبيرة خاصة في سوريا وفي دول الجوار المعنيّة بالقضية الكردية، وتوزّعت ردود أفعال الدول والقوى السياسية المختلفة بين الترحيب به وبين رَفْضِه.
وفي حين اكتفى الرئيس بشّار الأسد في تعليقه على الإعلان بالقول إن «معظم الأكراد يريدون أن يعيشوا في سوريا موحّدة ذات نظام مركزي بالمعنى السياسي وليس فيدرالي، ولذلك ينبغي ألا يقع الخلط بين بعض الأكراد الذين يريدون النظام الفيدرالي وبين كل الأكراد»، بادرت مجموعة مكوّنة من سبعين فصيلا سوريا مسلّحا مناهضا للنظام إلى إصدار بيان مشترك أعربت فيه عن رفضها للإعلان جملة وتفصيلا، وهدّدت بأن تشنّ الحرب على مُصْدِرِيه...
وبقدرما كان طبيعيّا أن يبتهج أكراد العراق وتركيا وإيران بقيام الكيان الكردي في شمال سوريا لأنّه يشكّل، في نظرهم، خطوة أخرى (بعد قيام الكيان الكردي في العراق) على طريق تجسيم حلمهم القديم الجديد بقيام وطن كردي ما فتئوا يتطلّعون إليه منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، بقدرما كان طبيعيّا، في المقابل، أن تستاء دول المنطقة من الخطوة الكردية السورية لأنها تنذر بتداعيات خطيرة من شأنها أن تكرّس التقسيم في العراق وأن تفتح أبوابه على مصراعيها في سوريا اليوم، وغدًا في تركيا وربّما في إيران.
وانطلاقا من أن تركيا تضمّ، حسب بعض التقديرات، ما بين 13,4 و18,6 مليون كردي من جملة ما بين 30 و38 مليون كردي في العالم، (أي ما يعادل ما بين 18 و25 بالمائة من سكّانها)، وبالنظر إلى أن المكوّن الكردي التركي هو الأنشط والأصعب مراسا بالمقارنة مع المكوّنات الكردية في البلدان الأخرى، فقد كان من المنطقي أن يكون رد فعل تركيا «أشرس» ردود الفعل الغاضبة الرافضة لإعلان قيام الكيان الكردي في شمال سوريا لا سيّما وأنه جاء في مرحلة بالغة الدقة بالنسبة إليها حيث أنها قامت، في الصائفة الماضية، بقطعَ المسار التفاوضي الذي تواصل، وإن بشيء من التقطّع منذ سنة 2006، مع حزب العمال الكردستاني.
وقد تجلّت «شراسة» رد الفعل التركي، على الصعيد السياسي، في «الفيتو» الذي رفعته في وجه مشاركة أكراد سوريا في المفاوضات الجارية حاليا في جنيف.
وأما على الصعيد الميداني فقد تجلّت في استئناف بل تكثيف العمليات الحربية في المناطق الكردية التركية، وفي بعض الأحيان في استهداف أكراد سوريا تحت غطاء ضرب التنظيمات الإرهابية...
ودون تفصيل الحديث عن أسباب فشل المسار التفاوضي التركي الكردي، فإن بعض المصادر ترى أن أنقرة لم تكن جادّة في المفاوضات وأنها كانت، طيلة السنوات الماضية، تعمل على تمطيطها حتى تتمكّن من ترسيخ تواجدها العسكري في المناطق الكردية، ثم إنها، كما تؤكد المصادر نفسها، أساءت التقدير عندما عمدت إلى تضييق الخناق على أكراد سوريا، وسعت إلى إضعافهم إما بضربهم مباشرة، أو بتشجيع التنظيمات الاسلامية المتطرفة بما في ذلك تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» على ضربهم.
وهنا لا بدّ من التذكير بموقف تركيا خلال المعارك الطاحنة التي دارت طيلة أكثر من ثلاثة أشهر حول مدينة عين العرب أو «كوباني»، فقد كان من المفارقات الغريبة أن أنقرة كانت تمنع وصول أي دعم أو سند إلى أكراد سوريا بينما كان التحالف الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية يوفّر لهم الغطاء الجوي اللازم حتى يتمكنوا من مواجهة مقاتلي «الدولة الاسلامية».
وربما كان ذلك أمرا منطقيا في نظر أنقرة، فهي كانت تنظر بقلق كبير إلى تدخل قوات البشمركة ووحدات الحماية الكردية المدعومة من حزب العمال الكردستاني في المعارك، وكانت تتصوّر أن دعمها لمقاتلي «الدولة الاسلامية» سيضعف اكراد سوريا وحلفاءهم من أكرادها وأكراد العراق...
غير أن أنقرة التي لم تكن تتوقّع أن يخرج أكراد سوريا من هذه المعارك منتصرين، وأن يثبتوا وجودهم، وأن يعزّزوا طموحهم إلى الاستقلال، غفلت، على ما يبدو، عن إدراك مغزى الحرص الأمريكي وحتى الروسي على عدم سقوط مدينة «كوباني» في أيدي مقاتلي «الدولة الاسلامية»، بينما أفسح لهم المجال للاستيلاء على مدن أخرى قد تكون أهم من الناحية الاستراتيجية كالرقّة وتدمر في سوريا والموصل في العراق...
والحقيقة التي اتّضحت بعد انجلاء المعارك هي أن حرص واشنطن وموسكو على دعم أكراد سوريا كان يهدف الى تمكينهم من بلورة معالم كيانهم المستقبلي، وهكذا وجدت تركيا نفسها في ورطة حيث أنها باتت اليوم مطالبة لا بمواجهة أكرادها فحسب، وإنما بمواجهة امتدادهم في شمال سوريا فضلا عن شمال العراق...
ومعنى ذلك أن «تكتيكات» تركيا أدّت، على عكس ما كانت تريده، إلى تقلّص الدور الذي كانت تطمح إلى أن تلعبه في سوريا، وإلى تفاقم خطر انفصال مناطقها الكردية وهو الخطر الذي كانت تخشاه باستمرار، على امتداد المائة سنة الماضية... ويرى الملاحظون أنه مثلما كانت «تكتيكات» تركيا في شمال سوريا متضاربة مع مصالحها الحقيقية والدائمة في المنطقة، كانت «تكتيكاتها» في شمال العراق متناقضة مع حرصها على مواجهة النزعة الانفصالية عند أكرادها، وقد ظهر ذلك بكل وضوح في انتقالها، لأسباب اقتصادية بيّنة، من معارضة أيّ شكل من أشكال الاستقلالِ للمناطق الكُرديَّة العراقية، إلى تدعيم التعاون وتبادل المنافع مع هذه المناطق التي تتخذ منها منفذا إلى الخارج، بينما تجد هي فيها سوقا واعدة لمنتجاتها ومقاولاتها واستثماراتها وفي الوقت ذاته مَصْدرا لجزء من وارداتها النفطية (أصبح ضخ البترول منذ صيفِ 2014، وبعدَ سيطرةِ البشمركة على كركوك، يتمّ باتِّجاه الشمال، بدلاً من المرورِ عبر بغداد).
وفي انتظار ما ستسفر عنه تفاعلات الأحداث المتلاحقة في المنطقة مستقبلا، فإن ما يمكن أن نسجّله الآن هو أن قضيّة الأكراد التي سمّيتها «القضية رباعية الدفع» ليس فحسب لأنها تهمّ أربعة بلدان، وإنما أيضا لأنها، سواء أحببنا أو كرهنا، أثبتت أنها قادرة على شقّ طريقها رغم وعورة الأرض التي تتحرّك عليها، وعادت لتطفو على السطح ولتشكّل، من جديد، مشغلا أساسيا من مشاغل المرحلة الراهنة من الصراع في المنطقة. وربما كان السؤال الذي يجب أن يُسأل في هذه المرحلة هو هل سيكون الإعلان عن قيام الفيدرالية في شمال سوريا بداية التطبيق العملي لتفاهمات يبدو أنها تمّت بين واشنطن وموسكو من أجل إعادة رسم خريطة المنطقة بطريقة تضع حدا لحرمان الأكراد، طيلة القرن الماضي، من إقامة دولتهم؟
إنه من الصعب الإجابة على هذا السؤال إجابة قاطعة، إذ ليس من السهل استشراف مآلات المخاض العسير الذي تشهده المنطقة الآن، غير أن المآل الأرجح لن يخرج عن أن يكون حصيلة لثلاثة متغيّرات محلية وجهوية ودولية كبرى هي التالية:
أما المتغيّر الأول فهو يتمثّل في أن عودة القضية الكردية إلى قلبِ الأحداث في الشرق الأوسط والتي إنما جاءت نتيجة لتفكُّكُ العراق من ناحية، وللصراع في سوريا من ناحية أخرى، فهذان العاملان غذّيا تطلُّعاتِ الأكراد الوطنية، وأحييا حلمهم بالاستِقلال وهو حلم، شئنا أم أبينا، له مرتكزاته الديمغرافية والجغرافية والتاريخية والثقافية التي تجعله في نظر الكثيرين، قابلا للتحقيق على الأقل نظريا...
وأما المتغيّر الثاني فإنه يتمثل في ما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا واليمن، كدفعة أولى، وهو يؤشّر إلى أن واشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة، وموسكو والصين من جهة أخرى، متفقة على إعادة صياغة خريطة المنطقة وتشكيل بلدانها في شكل فيدراليات عرقية وطائفية «تُقَطَّعُ» على مقاس كل مكوّن من مكوّناتها.
وأما المتغير الثالث فهو يتمثل في التصريحات المتوافقة بين الأمريكيين والروس على أن المنطقة دخلت في حقبة جديدة، وهذا ما يمكن أن نستشفّه، مثلا، مما قاله جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، أمام الكونجرس حيث أكد «أنه بات متأخرا الحفاط على سوريا موحدة»، وهو ما يلتقي مع ما قاله سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، الذي أكد «أن الفيدرالية هي أحد أبرز الحلول المقترحة لسوريا المستقبل» قبل أن يضيف قائلا إننا «نأمل أن يتوصّل المشاركون في المفاوضات السّورية إلى فكرة إنشاء جمهورية سورية فيدرالية».
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن أمام هذا الموقف الروسي الصريح والواضح هو كيف يمكن أن نوفّق بينه وبين موقف الرئيس السوري بشّار الأسد الذي افتتحنا به هذا المقال؟
والجواب الممكن على ذلك هو أن الأطراف المتصارعة قد تكون تبحث عن التوصل إلى «منطقة وسطى» هي التي تحدث عنها الرئيس بشّار الاسد للنائب الفرنسي نيكولا ديوك، عضو وفد البرلمانيين الفرنسيين الذين زاروا سوريا يوم الجمعة 25 مارس 2016، حيث اعتبر «أن بعض المناطق السورية يمكن أن تحصل على حرّية وصلاحيات أكبر لكن مع الحفاظ على دور دمشق المركزي».
ويبدو من خلال خطاب أكراد العراق وأكراد سوريا أنهم لا يمانعون من قبول هذه «المنطقة الوسطى» أو هذه «المنزلة بين منزلتين» إذ لا هي منزلة الاندماج في العراق أو سوريا ولا هي منزلة الاستقلال عنهما.
وقد يكون إلقاء طهران بكل ثقلها في مؤازرة حليفها السوري من ناحية، وتصميم تركيا على منع قيام كيان كردي في شمال سوريا بعد قيام دولة أو شبه دولة كردية في شمال العراق من ناحية ثانية، عاملين حاسمين سيساعدان النظام السوري على الوصول إلى هذه «المنطقة الوسطى»...
وإذا صحّ أن زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو مؤخرا إلى طهران هدفت، في جملة ما هدفت إليه، إلى الاتفاق على استراتيجية مشتركة لمنع تقسيم سوريا، فإنّ ذلك من شأنه أن يساعد على تجنب الأسوإ بالنسبة إلى دمشق وإلى المنطقة.
محمد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق