فنّ العمارة في تونس، إلى أين؟
لم تكن تونس بمعزل عن التّحوّلات العميقة التي تشقّ الهندسة المعماريّة، ولا بمعزل عن الاتّجاهات التي تذهب بها في كلّ فجّ، وإنْ يجزم كثيرٌ من أهل الاختصاص أنّ تلك الاتّجاهات بدأت تتوحّد أو تتقارب، فقد تلاشت الحدود بين الهويّات المعماريّة، ولم يعد لكلّ بلد معماره المميّز، وولجت الهندسة المعماريّة عالم العولمة، شأنها شأن الاقتصاد والسّياسة والإرهاب.
خصائص العمارة الحديثة
وكانت إرهاصات التّحوّلات العميقة في العمارة الحديثة قد بدأت تحتدم بُعيد الحرب العالميّة الأولى في أوائل القرن العشرين، لأسباب كثيرة، ليس هنا مجال شرحها والإفاضة فيها، إذْ يرى بعض المؤرّخين أنّ تطوّر العمــارة والعمران جاء نتيجة حتميّــة للثّــورات السّياسيّة والاجتماعيّة والتّحوّلات العميقة التي غيّرت المجتمعات؛ ويرى آخرون أنّ تلك الحركة جاءت نتيجة التّطوّر التكنولوجيّ الذي أتاح للمهندسين، بموادّه الجديدة، ابتكارَ تقنيات في البناء أسهمت في التقدّم بالثّورة الصّناعيّة؛ ورغم اختلاف التّصوّرات والرُّؤى بين روّاد تلك المرحلـــة مـــن المعمـاريين، فإنّها جميعَها استندت إلى مكوّنيْن اثنين أساسيَيْن، هما الوظيفيّة والعقلانيّة، واتّسمت في مجملها بالخطوط الهندسيّة الواضحة «النّظيفة» المتعامدة والزّوايا القائمة، وتخلّت عن الدّيكور المسرف المفرط، وجرّدت العمارة ممّا كانت تعتبره شوائبَ أو إضافاتٍ أو زوائدَ لا لزوم لها؛ واعتمدت المادّة الخام دون زخرف أو تلوين، إلاّ الأبيض، في إشارة واضحة إلى الصّفاء والنّقاء.
وباتت حاجة الإنسان هي الأساسَ الذي يُشكل العمارة، أيْ أنّ الحاجة تصنع الشّكل، كذلك الشّأن بالنّسبة إلى التّصميم الدّاخليّ، فلكلّ وظيفة فضاء، ولكلّ فضاء وظيفة. وفتحت التّقنيات والموادّ الجديدة، حينها، مثل الحديد والصّلب والخرسانة والبلّور، أمام المعماريين، آفاقا أرحب، ومكّنتهم من تصميم فضاءات واسعة طلْقة لا تقيّدها جدران حاملة أو ركائز متقاربة، وأطلقت أياديهم في عجينة لم تكن الموادّ التّقليديّة قادرةً على توفيرها، بل كبّلت فيهم أحيانا كثيرة ملكةَ الخلق والابتكار؛ وبات الحديث في فنّ العمارة لا يستقيم دون الخوض في الحضارة الصّنـــاعيّة؛ واحتلّ الجــانب التّقنيّ مكانة مميّزة متميّزة في الخلق الفنّي، لا هذا يستقيم دون ذاك ولا ذاك دون هذا، وهو ما بات يُعْرف ويُعَرّف بعبارة ديزاين (Design). وكانت تلك مرحلةَ القطيعة وخطّا فاصلا بين القديم والجديد.
نظرة جامدة إلى التراث
ورغم أنّ تلك الحداثة لم تبرز في تونس بشكل واضح جليّ متفرّد، إذّْ ظلّت العمارة في هذا البلد مصبوغةً بالنّمط الكولونيالي في توزيعه وزخرفه، فإنّ بعض البنايات شذّت ومازالت شاهدة على أنّ تلك الرّياح مرّت من هنا. وظلّ الفنّ المعماريّ في تونس، في أغلبه، يقتات ويجترّ من بيئته وإرثه وفولكلوره، ويطعّم نتاجه بلمسات محتشمة من الحداثة، واقفاً على باب موارب، فلا هو انكفأ على نفسه، ولا هو دخل الحداثة من أوسع أبوابها، كأنّه يتهيّب أن يلج ذلك العالم الرّحب المفتوح على كلّ جديد. ولعلّ ذلك الانكفاء على الذّات، قبل الاستقلال، كان مرتبطا أكثر بعوامل اجتماعيّة واقتصاديّة. وليس لنا من مَأْخَذ على التّراث، إلاّ أنْ يكبّل في المبدع ملكة الخلق والابتكار والجنون، فالتّراث جَمَع بين النّعمة والنّقمة؛ وقد لا يروق لبعض الماسكين المتمسّكين بتلابيب التّراث حين نزعم أنّ أجمل وأصفى وأنقى ما جاد به فنّ العمـــارة جاء في بلدان ليس لها إرث ضــارب الجذور في التّاريخ يكبّلها، مثــــل أستراليا وكندا والولايات المتّحدة الأمـــريكيّة. ولقد كان لأهل القرار السّياسيّ في تــونس في العقـــود الأخيــرة مسؤوليّة جسيمة في ذلك الجمود والرّكود اللّذين طبعا قسطا كبيرا من عمـارة البلاد، إذْ كانت نظرتهم إلى التّراث نظرة جامدة كأنّهم ينظـرون فيه بعين من بلّور.
جرأة الباعثين الخواصّ
وكان الباعثون الخواصّ أكثر جرأة وإقداما حين وَثِقُوا وأرْخوا للمعماريين العنان دون كثيرِ قيود؛ لذلك نستطيع القَوْلَ غير متهيّبين إنّ البناءات التي تولاّها الخواصّ كانت أكثر إبداعا وأدقَّ فنّا من البناءات المدنيّة الحكوميّة التي صاغها المعماريون بعيون إداريين حكوميين. وفي السّنوات السّبعين من القرن العشرين، وإنْ كان بعضهم يذهب حتّى سنة 1945 وما قبلها، جاء على الحداثة عصرُ ما بعد الحداثة؛ وعمارة ما بعد الحداثة ليست وليدة مدارس تؤسّس لفكر أو تُوثّق وتوثِّق بميثاق، ولكنّها مشرعة مفتوحة على أنماط وتوجّهات وأساليب ومراجع متنوّعة تنوّعَ الثّقافات والمجتمعات؛ ولقد جاءت تلك المرحلة معلنة نهاية عصر الحداثة بمكعّبات الصّلب والبلّور وبفكرها العقائديّ الشّموليّ. ولم تعد «العقلانيّة» مفتاح كلّ تصميم، ولم تعد المادّة حقيقة ثابتة لا يجب أنْ «يلوّث» نقاءَها زخرفٌ أو تلوين، ولم يعد الشّكل خاضعا للوظيفة، بل انعدم التخصّص الوظيفيّ أصلا وصارت الفضاءات العامّة خاصّة، مرنةً، مفتوحةً، متغيّرةً، متعدّدةَ الوظائف؛ بل بات التّلوين والزّخرف مكوّنيْن أساسييْن في العمارة ونداءً صارخا للعواطف والمشاعر والأحاسيس؛ وتركت الخطوطُ المتعامدة والزّوايا القائمةُ مكانَها للخطوط الحرّة المَرِنة، واتّخذت البنايات أشكالا متمرّدة تجمع بين المعمار والنّحت والتّشكيل وتتحدّى أحيانا قانون الجاذبيّة، فقد مكّن التّطوّر التّكنولوجي في العقود الأخيرة من القرن العشرين الفنَّ المعماريَّ من موادَّ جديدة حطّمت الحواجز التي كانت تحبسه، ولم يعــد هناك خطّ أو شكلٌ عَصِيًّا على التّجسيم؛ وكانت البداية بالخرسانة والفولاذ والبلّور وصولا إلى لدائن البلاستيك والألمنيوم والخشب الصّناعيّ، وغيرها كثير.
العمارة هي التي تشكل المجتمع
صحيح أنّ العمارة العصريّة في تونس مازالت تتلمّس السّبل ولم تمكّن لسلطانها بعْدُ، فلا اليد العاملة المختصّة متوفّرة، بل هي منعدمة أو تكاد، فلا يكفي للفكرة أنْ تبزغ، ولكن وجب أن تتهيّأ لها ظروف التّنفيذ؛ ولا شكّ أنّ بعضا من المعماريين وأهل الصّناعة والباعثين يتوقون إلى ولوج آفاق أرحب فتَحَتْها ابتكارات التّكنولوجيا واختراعاتها. ولكن أين هو المعمار في تونس، وإلى أين يذهب؟ والخطوط مازالت متعامدةً والزّوايا قائمةً؛ ووجب أن نسأل قبل أن نجيب: هل العمارة استجابة لحاجة المجتمع، أي هل حاجة المجتمع هي التي تشكّل العمارة؟ أم هل العمارة هي التي تشكّل المجتمع؟ نحن نزعم أنّ العمارة الحقّ هي التي تشكّل المجتمع، شأنها شأن كلّ فنّ، حرّةٌ طليقة متمرّدة؛ ونزعم أيضا، أنّنا، في هذا البلد، لم ندرك بعدُ تلك المرحلة، فمازال المجتمع مُحْجِما، ومازال كثير من المعماريين متردّدين غيرَ مقبلين وربّما مُدْبرين أو مقيّدين أو عاجزين أحيانا، وقد يكون مَرَدَّ ذلك إحجامٌ وتهيّبٌ من المغامرة، وتلك طبيعة ندّعي أنّها بعضٌ من أهل البلد؛ وإن كنّا نزعم أيضا أنّ الهندسة الدّاخليّة والدّيكور ذهبا أشواطا أطول في التّجديد وسَبِقَا إلى قليلٍ من الخلق والابتكار وإلى كثير من التّقليد أيضا.
تعدّد الاختيارات في مجال الهندسة الداخليّة
والهندسة الدّاخليّة تذهب أكثر في التّفاصيل، وهي المعنيّة أصلا بالفراغات الدّاخليّة، أي بحميميّة الفضاءات ووظائفها في الحياة اليوميّة، في أدقّ دقائقها، فتشتغل على الألوان والملمس والإضاءة وحتّى الأثاث، وصولا إلى المصابيح ومقابض الأبواب وأزرار الكهرباء؛ ورغم أنّ الإضاءة ليست مادّة ملموسة بالمفهوم الحسّيّ، فإنّها باتت اليوم عنصرا أساسيّا لا تستقيم الهندسة الدّاخليّة دونه، فحضورها، قويّا أو باهتا خافتا أو رفّافا مترجرجا يصبغ الفضاء ويشكّله؛ وبتعبير أدقّ فإنّ الضّوء هو اليد السّحريّة التي تعيد تشكيل الأشياء.
وقد مكّنت الموادّ المتاحة مهندسي الدّيكور من التّنويع في الأشكال والألوان، ومكّنتهم من تطوير لغة زخرفيّة كانت بكماء أو متلعثمة، ولو أنّ ذلك التّنويع يستدعي كثيرا من البراعة والحسّ المرهف لخلق مزيج متناسق ترتاح إليه العين والنّفس؛ وهناك في تونس جيل من المهندسين الرّوّاد الذين اشتغلوا على الدّاخل وأسّسوا لفنّ لم تكن له تقاليدُ راسخة في البلد، ولم تكن لهم موادُّ متاحة بالتّنوّع والثّراء كما على أيّامنا هذه؛ ونحن نعتقد أنّ طفرة الموادّ ووَفْرَتَها أربكت كثيرا من أهل الجيل الجديد الذين يشتغلون على الهندسة الدّاخليّة، ولا يخفي بعضهم حيرتهم وتردّدهم إزاء تعدّد الاختيارات؛ ورغم أنّ الرّخام مازال حاضرا، بتنوّع ألوانه وملمسه من المصقول إلى المنقور والمحفور، فإنّه بدأ ينحسر ويخلي الفضاءَ لموادّ مصنّعة أقلّ نبلا ولكنّها أقلّ كلفة أيضا وأسهل إنجازا وأسرع، مثل البلاستيك والخشب الصّناعيّ والسّيراميك والزّجاج والحجارة والمعادن المركّبة. وفي تونس، يغزو الخشب المصنّع البيــوتَ والفضاءاتِ العامّة، ويبدو أنّه سيعمّــر طويلا قبل أنْ يخلعه عن عرشه وافد جديد.
الصّحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق