عز الدّين المدني: شـــوارع المـــدينة مـن البيــاض إلـــى السّـــــواد
عندما فتحت عَيْنَيّ على الدّنيا قبل منتصف الأربعينات (من القرن العشرين) بقليل كنت أشاهد نساء حيّ تُرْبة الباي بالمدينة العربيّة، وعلى أجسادهنّ لِحْفتهنّ البيضاء. والتّونسيون من ذلك العصر البعيد عنّا اليوم يستعملون كلمة لِحْفة الّتي تلتحف بها المرأة خارج بيتها، وغالبًا ما يرادفونها بكلمة سِفْسَاري. وقد كانت نساء الحي، ولا سيّما فتيات الجيران، وهنّ في يناعة الأزهار، يتقنّ لباس اللِّحفة بإغراءات لافتة. فتعودنا بخيالهنّ الملتحف بالبياض الأنيق الّذي يجلّل الأنهج والبطاح والشّوارع في حيّنا. وسُكَّانه متسامحون بعد الحرب العالمية الثّانية مع خروج النّساء إلى الأسواق لقضاء شؤونهنّ، ولكن تحت وصاية العجائز وعيونهنّ المتشكّكة في الكبير وفي الصّغير.
ومنهم مــن دفـع بنــاته إلى التّعليم، وتلك جـــرأة منه في حديث الجيران، وإلى تعلّم إحدى الصّناعــات اليــــدويّة كالشَّبْكَة والتَّطريز على الـڤُرْڤَاف العـــالي وخيـــاطة فُوطة وبلُوزَهْ، وأحيانًا بَنْوَار في مـدرسة خاصّة بالبنــات تقــع في حي كَاتْريَامْ زوَاڥ (أي حي أبو القاسم الشابي اليوم) قبالة دريبة ابن عيّاد حيث كان يسكن بعض السّراة من خُدّام الباي. وهؤلاء البنات من حيّنا أغلبهنّ يافعات غير عاريات، وإنّما هنّ من عائلات محترمة، ولذا هنّ متمسّكات باللِّحْفَة البيضاء الّتي تمنحهنّ خيالاً جذابًا كلّه إغراء رغم الحشمة والخجـــل. ولم يكن حيّنــا يستأثر بمفرده بهذا البياض النسائي اليانع الرشيق بل كانت أحياء أخرى لامعة، يسكنها المترفّهون ومستورو الحال أيضًا كدار الباشا ونهج الحفصيّة وحوانت عاشور، وكذلك أرباض المدينة كالحلفاوين وسيدي منصور ودُور الحارة والحجّــــامين والزّاويه البُكْريّة ونهج المَرْ والقلاّلين وبطحاء بڤيرَهْ وسواها.
وكان الرّجال بشواربهم المفتولة الّتي يركس عليها الطّير، وهم في عزّ الرّجولة والذّكورة، يتحلّون – هم أيضًا – باللّون الأبيض النّاصع في أيّام فصل الصّيف الّذي يزحف برياحه الحارّة على أواخر فصل الرّبيع من جهة، ومن جهة أخرى، يفيض بشمسه المحرقة على زهاء شهرين من فصل قوائل الرّمّان والسّفرجل. فتمتدّ الحرارة عالية الدّرجات فتشمل نحو خمسة شهور أو ستّة، وأحيانا سبعة متتاليات، ولا غرابة من مناخ تونس وطقسها. وعندما تأتي العشيّة بنسيمها المنعش العليل تزدهي المدينة، وتتزيّن ببياض الياسمين والفًلّ، وبنصاعة جبّة القَمْرَاية، وهي من الكِتَّان، فتشعّ بإشعاع بدر التّمام، أو بلمعان جبّة السَّكْرُوذة، وهي من الحرير، ولونها تِبْنِيّ بارد أو فاتح، وكأنّه شقيق لون البياض، وتحتفل رؤوس مشائخ الجامع الأعظم بالكَشْطَة البيضاء كالثّلج، وهم يقضّون المصيــف في الضّواحي الشّمالية، بجبل المنار سيّدي أبي سعيد أو بمرسى الجَرَّاح، والشّعب يتغنّى في الضّواحي الجنوبيّة، بحمّام الأنف ورادس بأغنيّة زجليّة الشّعر نظمها الشّاعر الكبير عبد الرزّاق كَرَبَاكَهْ، برّد اللّه ثراه: «بَابُورِينُو، بَابُورِينُو» عن يَخــــْت سيــدي المنصف باشا باي، الملك المجاهد الشّهيد.
وكانت إحدى جاراتنا تحتفي خلال بعض مناسباتها العائلية ــ الّتي تختتم بتهنئة وبالدّعاء، وشرب الشّربات وأكل البقلاوةــ، بقريباتها القيروانيات. فما أبيضهنّ العين حوراء، الحاجب الفاحم المقوّس كالهلال. ما أبدعهنّ مع الظّرافة والحياء والعفّة هل هنّ من سلالة الجازية؟ لا أظنّ، والجازية تغطّيها شعورها الطّويلة الفاحمة، فلا تظهر منها إلاّ عينيها الحوراء. أتذكّر أنّ لون السّواد كان قليلاً جدًا. فقد كانت المرأة تتزيّن بــه في وجهها لتزيد حسنا على حسن، فتضع نقطة خال على خدّها أو على طرف شفتها. ولعلّها تصْبَغُ شعرها بالمَرْدُومة السّوداء، وأسود من السّواد نفسه، إذا أصابتها شُعيرات بيضاء من الشّيب. ولا شكّ أنّها تكحّل جفنيها بالكحــــل في أيّام الهناء والسّعـــــادة والحبــــور. وعنــــدما تخرج من بيتها فهي تضع خَامةً حـــريرية سوداء على صفحة وجهها. أمّا العجائز فكنّ يضعن العَصَابة السّوداء على وجوههنّ، وكأنّها لِثَــــام، ولعـــلّ قد وَرِثْنَه عن جدّاتهنّ من الزّمــــان القــــديم.
ونحن الصّغار لم نكن نحبّ السّواد. ولعلّنا كُنّا نطابق اللّون الأسود على الفَحم الّذي كنّا نشتريه من دكّان عم ابراهيم الفحّام. ولعلّنا كنّا أيضًا لا نطمئن إزاء الألوان الدّاكنة والغــــــامقة كالحِبْر البنفســـجي الغـــامق الّذي كتبنا به دروســـنا على كــرّاساتنا في أقسام الصّادقيّة الصّغيرة بحرص مـــن معلّمينا وبمراقبة شديدة منهـــم أحيانًا. والحقّ أنّ هذه الألوان كنّا نتجنّبها لأنّ ثياب المساكين والبائسين- وما أكثرهم في ذلك العهد البعيد عنّا اليوم- كانت مهترئة، رثّة، ممــزقة أسمـــالاً، سوداء بسبب الأوساخ والقاذورات المتراكمة عليها منذ سيّدنا نوح عليــــه السّلام، وكــأنّها لم تعــــرف الغسيل أبدًا منــــــذ أن صُنِعَتْ.
وكنّا نستغرب من البرنيطة السّوداء ومن الثّياب السّوداء ومن المحفظة السّوداء الّتي كان يحملها معه المدير الفرنسي للصّادقية الصّغيرة، ولا يفارقها أبدًا. وعلام هذا السّواد ممّا يعطيه هيئة جدّ في جدّ، مع التّقطيب والعبوس والصّياح بالأمر والنّهي، ورشاش لُعابه يتناثر على وجه المعلّم أو على وجوه التّلاميذ.
ولا يغيّر مدير مدرستنا برنيطته السّوداء ببرنيطة بيضاء مائلة إلى الاصفرار، مستديرة تامّة الاستدارة، اللّهم إلاّ في أوائل شهر جوان الّذي يعلن عن طلائع الصّيف برياح حارّة، هبّت فجأة على برنيطة المدير البيضاء، فحملتها معها تدور في الهواء، فكشفت عن صَلْعَة وشعيرات رمادية اللّون فضحك التلاميذ وقهقهوا، وسخروا، وفرّوا وإذا به يتوعّدهم بالعقاب...
وكنّا نستنكف من لون السّواد الّذي كان يحتلّ حي بــاب البحــر وشارع إيطاليـــا (شارع شارل ديڤول اليوم)، وشارع فرنسا، وشارع جول فيري( شارع الحبيب بورقيبة اليوم) وهو سواد ثياب المستعمرين ( وكنّا نقول المُعَمِّرين) الفرنسيّين والإيطاليّين والمالطيّين وسواد برنيطاتهم رجالاً ونساء وأطفالاً. والفرق شاسع وكبير بيننا وبين الأجانب الدّخلاء. كنّا لا نعرف كيف نعبّر عنه، ونحن مازلنا صغارًا... ولشدّ ما كنّا نترقّب حلول فصل الصّيف الّذي سيفتح لنا باب العطلة الكبرى، وهي تشمل ثلاثة شهور، لنشاهد في أواخر شهر ماي وأوائل شهر جوان المعلّمين الفرنسيّين يرتدون البدلات القطنيّة أو الكِتَّانيّة البيضاء بياض السُّكَّر المصفرّ، وكأنّهم بذلك حاكوا لباس معلّمينا التّونسيّين الأبيض: من جبّة كجبّة سي بوجميل -رحمه الله- ومن بدلة أوروبية كبدلة سي الشّرفي الأنيقة التّامة لِشروط الأناقة...
وقد أثّر في نفسي البريئة يومئذ مشهد بشع مازلت إلى هذا اليوم أتذكّر أغلب تفاصيله وجزئيّاته لا كلّها ولا أتمّها. فلقد كنت أرافق أحد إخوتي، ولا أدري من هو، على كلّ إنّه أكبر منّي، لأنّه قرّر أن نتجوّل في حيّ باب البحر يوم عطلة مدرسيّة. كُنّا نمشي على الرّصيف لنتفرّج على الأوروبيين في المقاهي والبارات والمغازات، بين من يحتسي كأس خمر وبين سيّدة بقبّعتها السّوداء، وعليها حبّات من حَبّ الملوك، أنيقة، تتكلّم بشيء من التّكبّر مع عاملة فرنسية بصدد إقناعها قصد شراء قصّة قماش. وفجأة فتحت قاعة السّينما البرْنَاصْ أبوابها فخرج المتفرّجون أفواجًا متغاصرة ومتدافعة. وانتحى شاب ناحيّة من الرّصيف وأقبل على فتاة من سنّه يقبّلها على فمها، ونحن نتفرّج عليهما في أثناء هذا التّقبيل الطّويل، فتعجّبنا من هذه الوقاحة المفضوحة في الشّارع، ومن عدم الحياء والحشمة... ونحن لا نرتكب مثل هذا في المدينة العربيّة ولا في أرباضها.
ولمَّا وصلنا على مقربة من الكاتدرائية أوقفنا الشّرطي الفرنسي، فوقفنا ورأينا الأجانب ببدلاتهم السّوداء من الرّأس إلى القدم، جماعة منهم يدخلون وجماعة منهم أخرى يخرجون، وأمامهم تشكيلة من الأطفال يقودهـم قَسّ بزيــّه المسيحيّ الأرجوانيّ يحمل صليبًا كبير الحجم. وما كاد يصل إلى حافة الرّصيف حتّى وقفت مركبة سوداء يجرّها حصانان أسودان ولربّما أربعة أحصنة سوداء، لا أتذكّر هل كانا اثنين أو كانت أربعة بشكل دقيق. وفي المركبة السّوداء تابوت أسود وعلى جانبي المركبة السّوداء قطعة من القماش الأسود على الشّمال واليمين من المركبة السّوداء. قال لي أخي في أذني: تلك المركبة السّوداء هي نَعْش أسود. وعلى رؤوس الأحصنة شيء أسود كالمنفضة السّوداء. وسائق النّعش الأسود على رأسه قبّعة طويلة سوداء وعلى جسمه بدلة سوداء وفي يديه أعنّة سوداء وسوط أسود. والتحق المشيّعون وكلّهم سواد في سواد، من بينهم امرأة على وجهها حجاب من التَلّي شفّاف يبدو أسود من بعيد. وثياب هذه المرأة الحزينة سوداء قاتمة. كلّ هذا المشهـــد الأسـود جعل قلبي أسود مظلما من شدّة تأثيره السّيّء في نفسي أيّام صباي، ولكنّي رفضت اللون الأسود طوال حياتي.
وتدور السّنون دورتها، وتغرق العهود في العهود، وظلّ اللّون الأبيض ظاهرًا طوال سنوات، في شوارع المدينة وبطاحها وأزقّتها. ثمّ شرع يتقلّص شيئًا فشيئًا في الشوارع والبطاح والأحياء ويختفي في حركة بطيئة جدًّا لا يلاحظها أحد، ليعوّضه اللّون الأسود في غفلة من الجميع عند كلّ ركن، وفي كلّ نهج، لدى كلّ منعطف، فاسْودَّت المدينة وادّلهمت خلال السّنوات الأخيرة من القرن العشرين، وما تزال متواصلة على لون السّواد الحزين المأساوي إلى يوم النّاس هذا. ولا حــول ولا قـــوّة إلا بالله العــليّ العظيم. وللّه الأمـر مـــن قبل ومـــن بعد. وعلام لا نعود إلى براءة البياض بهيئات وأشكال أخرى؟.
عز الدّين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق