في حديث شامل مع ناجي جلّول: الجديد في القطاع التربوي (فيديو - الجزء الأوّل)
خصّ وزير التربية ناجي جلّول ليدرز العربية بحديث شامل تناول العديد من المسائل التربوية التي تشغل الرأي العام حاليا.
وفي الجزء الأوّل من هذا الحديث، يقدّم الوزير الملامح الكبرى لمشروع الإصلاح التربوي وغايته والمنهجية المعتمدة في إعداده والإجراءات التي اتخذت من أجل إدراج التعليم المهني ضمن المناهج التربويّة، بداية من الموسم الدراسي القادم.
من المعلوم أن لجانا تعكف الآن على تحديد ملامح الإصلاح التربوي الذي تقرر إجراؤه بسبب ما أصاب المنظومة التربوية من ضعف ووهن منذ سنوات عديدة. إلى أين وصلت أعمال هذه اللجان وما هي الخيارات والمحاور الأساسية التي تم الاتفاق عليها إلى حد الآن؟
لا يعني الحديث عن الإصلاح التربوي أنّ المنظومة التربوية أصابها الوهن..ذلك أنّ كل الشعوب تقوم بإصلاح منظوماتها التربوية؛ وأنا أمثل تلك المنظومة بمادة " الفيزياء "؛ بما يعني أن فيزياء " نيوتن " صلحت لزمان وفيزياء " آيشتاين " صلحت لزمان آخر .
نحن نتعامل مع منظومة تربوية تعود إلى سنة 1956 وكان هدفها الأساسي محو الأمية وتوفير إطارات للدولة الفتية. اليوم يجب أن يكون للمنظومة التربوية دور آخر.
طبعا هناك تراجع ولكنه في بعض المجالات. مثلا لم يعد الإطار البشري للمنظومة جيد جدا ولكنه مازال على مستوى عال، رغم الصعوبات؛ والحاجة إلى إصلاح تربوي ظهرت منذ عقود. هناك إصلاح سنة 1990 وكان كبيرا وشاملا ويمكن أن نعود إلى نتائجه بعد حين . ثم ظهرت محاولة للإصلاح التربوي سنة 1997 ؛ تبعها مشروع آخر سنة 2002، والذي يعتبر مشروعا جيدا جدا، غير أنه لم ير النور لأسباب عديدة. لقد فشلت كل تلك المشاريع لأنها كانت ذات طابع استشاري، أي أنها أعدت في مكاتب مغلقة ثم وقع تصديرها إلى الإطار التربوي. أما الإصلاح الذي نحن بصدده – إصلاح ما بعد الثورة - فقد انطلق من تشخيص واضح يعرفه القاصي والداني، وقامت به عدة أطراف، كهياكل الوزارة والجمعيات ومنظمات التعاون الدولي؛ بل حتى رجل الشارع كان يدرك أنه كان هناك تراجع للمنظومة التربوية وعدم تناسبها مع الواقع، خاصة على مستوى الموارد البشرية.
بدأنا بتنظيم حوار وطني وشامل حول واقع المنظومة التربوية ومناهج الإصلاح الممكنة؛ أولا لتمكين الإصلاح التربوي من حاضنة شعبية، وأيضا لكي يصبح محل توافق؛ ودام هذا الحوار قرابة سبعة أشهر، تخلله تنظيم حوالي 8 آلاف منبر ... حاورنا الأولياء والأساتذة والقيمين وكل الإطار التربوي؛ كما حاولنا في هذه الفترة أن نجمع كل ما دونته الصحف حول الموضوع؛ لأنه لم يكن من الممكن الاطلاع على كل ما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي. كانت هنالك طبعا نقاط قوة ونقاط ضعف...
في ماذا تكمن نقاط الضعف؟
مثلا ضعف مساهمة الأولياء في كلّ منابر الحوار. أما نقاط القوة فكانت مساهمة إطار التدريس والتلامذة فيها..جمعنا كل ما تحصلنا عليه تقريبا من مخرجات الحوار ونشرناه في وثيقة ؛ وتشتغل على هذه المخرجات منذ شهرين مجموعة كبرى من الورشات، وهي التي ستحدد الإجراءات التي سنقوم بها في هذا المجال ... وبعد حوالي شهر من الآن سننشر كتابا توجيهيا، وهو عبارة عن كتاب أبيض يتضمن تقييم المنظومة التربوية ومشروع إصلاحها.
هناك حوالي 2000 إجراء يهم الإصلاح على مدى خمس سنوات، منها بعض الإجراءات التقنية التي شرعنا بعد في تطبيقها؛ وآخر شيء سنقوم به هو تحديد البرامج والمحتويات.
بدأنا بإصلاح منظومة التكوين، وأذكر أنه تم منذ حوالي 20 سنة إلغاء مدارس ترشيح المعلمين وكان إجراء كارثيا بكل المقاييس. في السنة القادمة ستعود مدارس ترشيح المعلمين؛ وقد اخترنا بعد مواقع التدريس؛ وسيتم انتداب ثلاثة آلاف شاب وشابة متحصلين على شهادة الباكالوريا ليقع تكوينهم لمدة ثلاث سنوات. وسيكون نصف التكوين نظري والنصف الثاني ميداني أي بيداغوجي، فهو إذن تكوين يماثل نظام ترشيح المعلمين أي أن هؤلاء المنتدبين سيصبحون عند تخرجهم موظفين في الدولة. كما سيتم انتداب 3000 آخرين متحصلين على شهادة "الماجيستير المهني " لانتدابهم كأساتذة للتعليم الثانوي؛ وقد ضبطنا بعد مواقع التكوين، ونحن بصدد تحديد ملامح المتخرج. أما نقطة الضعف الثانية والإشكال الكبير في المنظومة التربوية حاليا فيخصان إطار تسيير المؤسسات، وأعني المديرين. وأنتم تعلمون ما حدث في سنة 2011 وعملية الطرد الكبرى لكفاءات عديدة من مديري المعاهد، وأصبح تعيين هؤلاء يخضع لحسابات عديدة؛ وحتى النقابات لم تعد مقتنعة بها. لذلك سيتم اختيار المديرين مستقبلا بواسطة مناظرة وطنية، تفضي بدورها إلى فترة تكوين بسنة واحدة يتم بعدها الانتداب.
وأشير أيضا إلى بعض الإصلاحات الأخرى التي بدأنا العمل بها في التعليم الابتدائي، مع الحرص على توخي التدرج في إنجاز الإصلاح . على سبيل المثال، لدينا الآن أربعون مدرسة ابتدائية تعمل بنظام الحصة الواحدة ؛ وسيقع تعميم هذا الإجراء شيئا فشيئا حسب الحاجيات وحسب واقع البنية التحتية للمدارس. كما سنشرع أيضا بداية من السنة الدراسية المقبلة، وبصفة تدريجية، في تمكين التلامذة من تناول وجبة الغداء. ونهدف من كل هذا إلى أن نتيح للتلميذ فترة صباحية للدراسة، تليها فترة غداء ثم تخصص فترة الظهيرة للأنشطة الرياضية والثقافية. وسنسعى إلى تعميم هذا الإجراء على مدى خمس سنوات بالنسبة إلى كل تلامذة المدارس الابتدائية في كامل تراب الجمهورية، اعتمادا على إجراء جديد يتأقلم مع واقع ربما لا يعرفه البعض، وهو أن هناك بعض الأقسام أو المدارس لا يؤمها إلا تلميذ أو اثنان أو ثلاثة؛ بحيث نجد مديرا ومعلما وحارسا... لتلميذ واحد أو أكثر بقليل؛ وهذا غير مقبول. لذلك سنعمل على دمج مثل تلك المدارس؛ ونحن بصدد العمل مع وزارة النقل على تأمين النقل المدرسي للمؤسسات المعنية. وكذلك الشأن بالنسبة إلى توفير الطعام. والهدف البعيد هو أن يبقى كل تلامذة المرحلة الابتدائية يوما كاملا في المدرسة.
ما هو التمشي الذي سيعتمد حتى يكون الإصلاح التربوي بمختلف مراحله محل أوسع وفاق ممكن بما يوفر الشروط الفضلى لتجسيمه؟
ليس هناك دائما وفاق تام. مثلا هناك من لا يزال إلى اليوم يعارض مبدأ القيام بالإصلاح التربوي. لقد قمنا من طرفنا بتشخيص الوضع؛ إذ الكل يشاهد اليوم نتائج منظومتنا التعليمية عامة، وهي وجود عشرات الآلاف من ذوي الشهائد الجامعية في حالة بطالة. تمّت في بلدنا التضحية بالتعليم المهني بينما في كل بلدان العالم نجد 50 بالمائة من المتخرجين قادمين من التعليم المهني والنصف الثاني من مراحل التعليم العادية. لذلك سيتم بداية من هذه السنة إحداث باكالوريا مهني. كما سيقع التنسيق مع وزارة التشغيل والتكوين المهني لكي نصل بعد خمس سنوات إلى نسبة خمسين بالمائة من خريجي التعليم المهني بين المجموع العام.
وبالعودة إلى تساؤلكم حول الوفاق أفيدكم أننا فتحنا باب الحوار أمام الجميع، على مستوى البرلمانيين وأيضا على مستوى تركيبة لجنة قيادة مشروع الإصلاح. إنّ ملف الإصلاح التربوي ليس ملفنا؛ بل هو قضية حضارية وهو أيضا ملف سياسي. لما توليت مهامي وجدت شبكة "عهد" التي تضم كل الجمعيات الحقوقية، مثل المعهد العربي لحقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وأيضا الاتحاد العام التونسي للشغل، فقمنا بتكوين لجنة لقيادة مشروع الإصلاح التربوي من هذه الشبكات الثلاث (الجمعيات الحقوقية واتحاد الشغل والوزارة) . وهذه اللجنة لها دور فني وتقني في تنظيم الحوار؛ ويبقى الباب مفتوحا في بقية اللجان لكل راغب في المساهمة. كما حرصنا على أن تكون في هيئة الإصلاح كل الحساسيات السياسية؛ حيث لنا إلى جانب ممثلي الوزارة، اليسار واليمين والإسلاميين. ولا يعني هذا أن الإصلاح له طابع سياسي ولكن أردنا ألّا يكون من لون سياسي وحيد؛ ونحن نعلم جميعا النتيجة لمّا يقوم بالإصلاح طرف سياسي واحد. وبالنسبة إلى الضمانات فهي تكمن أولا في مشاركة الجميع، وثانيا في أننا سنقوم في خصوص كل إصلاح باستشارة واسعة.
كيف ستتم هذه الاستشارة؟
سنتولى أولا إنجاز وطبع كتاب يخص مشروع الإصلاح التربوي في أعداد ضخمة جدا؛ واعتبارا لمساهمة الأطراف الأخرى خلال المرحلة الأولى، ستشمل الاستشارة فقط الإطار التربوي والأولياء والتلاميذ، وذلك في إطار مجالس المؤسسات التربوية التي أحدثناها؛ وهي تضم ممثلين عن الأساتذة والأولياء والقيمين والعملة وكل الأطراف المتدخلة في الحياة التربوية. وستبدأ الانتخابات بالنسبة إلى كافة مجالس المعاهد والمدارس في الجمهورية على أقصى تقدير قبل نهاية الشهر الحالي. ذلك أنه إذا أردنا أن نحصل على أكبر قدر من التوافق على الإصلاحات، يجب عرض كل مشروع إصلاح على مجالس المؤسسات التربوية.
لن ترضي الإصلاحات طبعا كل الأطراف. ولكن ليس لنا حلّ آخر؛ هناك إصلاحات أصبحت حتمية. لا يرغب بعض التلامذة ،وبكل تأكيد، في إصلاح منظومة الزمن الدراسي ؛ ونحن في تونس أقل بكثير من المعدلات العالمية التي هي في مستوى 240 يوما دراسيا في العام؛ بينما نحن الآن في مستوى 160 يوما؛ ومع الأسبوع المغلق ننزل إلى 120 يوما؛ ثم ننحدر إلى 100 يوم دراسة فعلية في السنة إذا احتسبنا الإضرابات والاحتجاجات وغيرها... أي أقل حتى من نصف المعدل العالمي. وبالنسبة إلى عدد ساعات العمل السنوية يبلغ المعدل العالمي 750 ساعة عمل في السنة، بينما لا يتعدى في تونس 400 ساعة عمل تعليمي. والخلاصة أننا، بكل المقاييس، بعيدون عن المعدلات العالمية. لا بد لنا إذن أن نرتقي إليها بسرعة، سواء في مستوى عدد ساعات العمل الدراسي أو عدد أيّامه سنويا؛ وسنصل إليها.
نحن قادرون كذلك على رفع مردودية منظومة تكوين الموارد البشرية وتخريج أدفاق كفأة في المجال التعليمي. في تونس اليوم هناك الآلاف من المجازين في اللغة العربية وفي اللغة الفرنسيّة وفي التاريخ والفرنسية ومن حاملي الشهائد في الطب؛ ولكن بلادنا في حاجة إلى 70 ألف خراط ، ويحتاج أيضا إلى مجموعات كبيرة من التقنيين ومن التقنيين الساميين، مثلا في النجارة والحدادة وفي القطاع الفلاحي وغيرها من المجالات. لم يعد بالإمكان، بصراحة وأمانة، قبول هذا الوضع.
كيف ستتولى وزارة التربية عمليا ضبط مناهج التعليم في الاختصاصات المهنية؟
العملية معقدة لأنه سيكون لنا أدفاق متحصلة على الباكالوريا المهنية بالتوازي مع أدفاق متخرجة من منظومة التكوين المهني. يجب علينا في هذا المجال تشريك كل من وزارة التشغيل والتكوين المهني وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لأن منظومة الإصلاح التعليمي تهم مباشرة الأطراف الثلاثة. المقياس الذي ننوي اعتماده في التكوين المهني هو سن 16 عام؛ ونحن بصدد تكوين محاضن للتكوين المهني، بالنسبة للتلامذة الذين هم دون هذه السن، وهذه المحاضن ستعوض الإعداديات التقنية التي بينت التجربة أنها منظومة قد فشلت فشلا ذريعا؛ حيث نجد في بعض الأقسام 4 تلامذة لأستاذ واحد، وفي فصل الربيع قد يفرغ القسم تماما من تلامذه.
يرجع القائمون على التعليم العالي سبب تدني مستوى الطلبة إلى ضعف مستوى التديس في التعليم الابتدائي والأساسي الثانوي، اعتبارا إلى أنّ المنظومة التربويّة مترابطة الحلقات. هل هناك تنسيق قائم مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مختلف مراحل الإعداد للإصلاح التربوي؟
أنا أستاذ تعليم عالي وأحمّل الجامعة جزءا من المسؤولية. في بعض الأوقات، وأعتذر هنا لزملائي الأساتذة الجامعيين، سقطنا في ثقافة الشعبوية وثقافة الثمانينات وغياب النخبوية، ومن شعار " النجاح استحقاق" أصبح لنا "الحق في النجاح". الجامعة مسؤولة، كما المدرسة الابتدائية والثانوية والإطار التدريسي والنظام السياسي والولي أيضا، كلنا مسؤولون عن تدني المستوى التعليمي في بلادنا وكلنا أخطانا. يكفينا من التهرب من المسؤولية. والمسؤولية مشتركة بين الجامعة والتعليم التربوي. لذلك نقوم بعملية إصلاح التعليم بمشاركة وزارة التعليم العالي؛ يعني أن مدارس ترشيح المعلمين والمعاهد العليا لتكوين الأساتذة هي هياكل تحت إشراف مزدوج. ينعقد كل أسبوع اجتماع للجان المشتركة التي تنظر في تحديد ملامح الإجازة وفي برامج تكوين المكونين ... كما سيشمل التكوين سلك القيمين لأنّ مكانة القيّم البيداغوجية تراجعت بصفة كارثية. وقد تم بحث كل الفرضيات، بل تم تحديد المواقع التي ستقام فيها مدارس التكوين وراوحنا بين الأقاليم الساحلية والأقاليم الداخلية، حيث ستكون لنا مدارس تكوين في كل من قابس وفي جندوبة وأيضا في المدن الكبرى. ومن حسن الحظ أن المدارس المعنية متسعة من ناحية البنية وليس فيها اكتظاظ أو كثافة، لذا سيقع استغلالها في هذا المجال.
- اكتب تعليق
- تعليق