كيف انتهى بن غذاهم أسيرا
إنّ التّاريخ، وهو يمضي في مجراه سريعا مطّردا، يخلّف أحداثا كثيرة تختلف حظوظها من الخلود والبقاء وشيوع الذّكر، فمنها ما يلقى واسع الاحتفاء وينال وافر العناية والاهتمام، ومنها ما تُرخى عليه سدول النّسيان ويُهال عليه تراب الأيّام فيظلّ خفيّا مجهولا وإن كان ذا أثر بالغ في توجيه الأحداث أو ذا وقع حاسم في تقرير المصائر وختم الأقدار.
من بين الأحداث التّي لم يحتفظ بها التّاريخ وكاد يهملها حادثة تبدو عابرة ولكنّها قضت بشكل نهائيّ على ثورة علي بن غذاهم التّي اندلعت في ربيع سنة 1864. وإذا لم تكن هذه الحادثة من المشهور المتداول عند جلّ المؤرّخين فإنّها مثّلت منعرجا هامّا في مسار تلك الثّورة ومنعطفا أساسيّا في تحديد مصير زعيمها، ألا وهي استنجاد علي بن غذاهم بالوليّ محمّد العيد التّماسيني وطلب الاستجارة به والشّفاعة له لدى الباي، فهل أجاره هذا الوليّ؟ وهل نجا بن غذاهم من نقمة الباي عندما قرّر الاحتماء بمحمّد العيد؟
وإذا عدنا إلى ربيع 1864 وجدنا أنّ جملة من العوامل الموضوعيّة مهّدت في الحقيقة لنهاية ثورة علي بن غذاهم. فقد دبّ الخلاف في البداية بين متزعّم الثّورة وقائدها في غرب البلاد علي بن غذاهم (1867-1814) وبين الرّجل الثّاني فيها، فرج بن دحّر الريّاحي، الذّي امتدّت يده بالنّهب وإخافة السّبل ممّا إضطرّ علي بن غذاهم إلى مراسلته وتحذيره ثمّ إلى التّبرّئ منه.
ثمّ إنّ بعض القبائل استغلّ ظروف الثّورة وعموم الفوضى لمهاجمة خصومه في إطار تصفية خلافات قديمة، من ذلك ما جرى بين قبيلتي «جلاص» و«أولاد سعيد»، وهو ما ساهم في تفكيك وحدة الثّائرين ومكّن محلّات الباي وجنده من السّيطرة على تحرّكات عديد القبائل.
كما ساهمت الوساطة التّي قام بها شيخ الطّريقة الرّحمانيّة مصطفى بن عزّوز بين الباي والثّوار في إخماد نار تلك الثّورة، فقد اجتمع هذا الشيخ بعلي بن غذاهم وأبرز أتباعه وأنصاره من أعيان القبائل الثّائرة ومشايخها بعد أن أخذ لهم الأمان من الباي، وأسفرت هذه الوساطة على إسقاط الضّريبة إلى 10 ريالات فحسب بعدما تضاعفت من 36 إلى 72 ريالا، وعلى إسقاط نصف ضريبة العشر.
يضاف إلى ذلك كلّه ظهور أطماع شخصيّة لدى علي بن غذاهم الذّي طلب من الباي - فضلا عن الأمان لإخوته وقومه ولخاصّة نفسه - تمكينه من هنشير الرّوحيّة وتسمية أخيه عبد النّبيّ «قايدا» على ماجر وتسمية عدد من أتباعه وأقاربه «عمّالا» و«شيوخا» في عدّة قبائل. وقد أجابه محمّد الصّادق باي على كلّ ذلك بالقبول والموافقة وكتب له أوامره.
وهكذا لم ينته شهر جويلية من سنة 1864-أي بعد أربعة أشهر على اندلاع الثّورة - حتّى بدأ الأمر يستتبّ للباي وأمراء محلّاته وعمّاله في الجهات.
إلّا أنّ بعض الأحداث كانت تنبئ بتراجع الباي عن الأمان الذّي أعطاه لعليّ بن غذاهم وسائر القبائل الثّائرة ونقضه لما وقع إبرامه على يد الشّيخ مصطفى بن عزّوز، وذلك على سبيل معاقبة أولئك الذّين خرجوا عن طاعته وتمرّدوا عليه وإمعانا في «تأديبهم».
ولعــلّ أهــمّ هــذه الأحــداث مهاجمة المحلّة التّي كان يقودها إسماعيل صاحب الطّابع عرش «ونيفة» بالكاف الذّين كانوا قد اغتالوا عامل الكاف الأمير فرحات في أفريل 1864. وأمّا الحدث الثّاني فهو انضمام بعض أتباع علي بن غذاهم إلى محلّة أمير الأمراء رستم بعد أن استمالهم هذا الأمير وساسهم وأكرمهم وأحسن معاملتهم فرأى علي بن غذاهم في ذلك محاولة لشقّ صفوف العروش التّي وحّدتها الثّورة من أجل إضعاف جانبه والإجهاز عليه، فعاد إلى محاربة هذه المحلّة، ولكنّها سرعان ما تغلّبت عليه ففرّ ناجيا بنفسه إلى الجزائر صحبة إخوته، كما فرّت عروش ونيفة إلى أرض الجزائر لقربها من منازلهم.
ولكــن كيــف تــمّ القبض على علي بن غذاهم وهــو على ذاك النّحــو مـــن التّــوجّس والاحتــراز إزاء الأمــان الذّي أعطــاه الباي للثّوار؟
إنّ الأمــر يتعلّق بحـــادثة جزئيّة ولكنّها حاسمة بالنّسبة إلى مسار الثورة وإلى مصير قائدها، وقلّما توقّف الإخباريّون والمؤرّخون عنــد هذه الحـــادثة على أهمّيتهــا التّـــاريخيّة وعمق دلالاتها. غير أنّنا نجـــد أنّ أحمــد بـــن أبي الضّيــاف يشير إليها ويفــصـّل القـــول في روايــة وقائعــها في «إتحـــافه».
فــفـــي شــهــر ديسمبـــر 1865، دخــل عــلي بن غــذاهــم إلى تــونس متخفّيـــا واستجـــار بأهله في منطقة جبل الرّقبة من بلاد ماجر. ولم يكن هذا الأمر ليخفى على الباي إلّا أنّه تستّر على هذا الخبر خشية أن يلتفّ النّاس مجدّدا حول علي بن غذاهم، ثمّ استمال أعيان جبل الرّقبة ووعدهم بجزيل الأموال سرّا إذا ساعدوه على التمكّن من بن غذاهم.
وبقــي عــلي بـــن غـــذاهم في مكمنــه تحت جناح الاختفاء حتّى بلغه أنّ الوليّ محمّد العيد التّماسيني أحد أتباع «سيدي أحمد التّيجاني» (1815-1737) قادم لتونس من صحراء الجزائر ليركب منها البحر إلى الحجّ، فخرج عندئذ من مكمن اختفائه ولاذ به وطلب منه الشّفاعة عند الباي، فأنزله الشّيخ معه في خيمته ووعده ببذل الجهد والجــاه في الشّفاعة له، فقد قال له: «أنت على كلّ حـــال أتيت تائبا طائعا من قبل أن يقدروا عليك وسأبذل جهدي وجاهي في الشّفاعة».
ولكــنّ الخــبر لم يفتـــأ أن بلــغ إلى الباي الذّي علم سريعا - وقد استمال أعيان جبل الرّقبة كما قدّمنا- بأنّ علي بن غذاهم في حمى الشّيخ محمّد العيد التّماسيني، فأرسل الباش حانبة الصّادق من محمّد البحري بن عبد الستّار في مهمّتين: المهمّة الظّاهرة المعلنة هي التّرحيب بالشّيخ والقيام بواجب الاستقبال والمهمّة الحقيقيّة هي القبض على علي بن غذاهم.
وهكـــذا خرج الصّــادق البحــري في جمـــع من أصحـــابه للإتيـــان بعـلي بـــن غـــذاهـــم فأدركوا موكب الشّيخ محمّد العيد بمنطقة خلاّد من عمل تبرسق فطوّقوا المكان كأنّهم في حالة حرب، ودخل باش حانبة لتبليغ السّلام من الباي إلى الشّيخ وأمر من معه بالقبض على علي بن غذاهم من حيث لا يشعر الشيخ.
وبذلك اقتيــد علي بـــن غـــذاهـــم إلى باردو في 1 مارس 1866 بعد أن سُلب وعُومل معاملة اللّئيم إذا قدر على حدّ عبارة ابن أبي الضّياف.
والجدير بالذّكر أنّ ابن أبي الضّياف أخرج وصول علي بن غذاهم إلى ساحة باردو إخراجا تصويريّا بصريّا يشبه إلى حدّ بعيد الكتابة السّينمائيّة (والحقّ أنّ الفصل الذّي خصّصه صاحب «الإتحاف» لثورة علي بن غذاهم كتب بأكمله كتابة مشهديّة تصويريّة جعلته يصلح لأن يكون في رأينا مادّة سينمائيّة جاهزة لمن أراد تحويل أحداث ثورة 1864 إلى عمل سينمائيّ).
وعلى هذا النّحـــو صــوّر ابـــن أبي الضّيـــاف مشهد اقتياد بن غذاهم إلى بطحاء باردو: و«أُوقف ببطحاء باردو وأحاط به المخازنيّة وغيرهم ممّن لا صناعة لهم من أوباش النّاس، هذا يضرب رأسه، وهذا يشتمه، وهذا يبصق في وجهه، وهذا ينتف لحيته، يفعلون ذلك تزلّفا للباي لأنّه بلغهم أنّه بروْشنه ينظر ذلك من حيث لا يرونه. وخرجت له عجوز من دار الباي مضحكة وقالت له:«أنت الذّي تريد أن تكون سيّدنا؟»، وشتمته، وهو مع ذلك ثابت الجنان، وقال لبعض الأنذال في ذلك الموقف:هلّا أتيتم لي وأنا على فرسي، أمّا إذا أتيتكم بنفسي فلا فخر لكم والحالة هذه».
وآل الأمر إلى سجن علي بن غذاهم في مرحلة أولى ببيت الحوانب حيث يذكر ابن أبي الضّياف أنّ الباي بعث له بكسوة ورتّب له طعاما من داره. وأمّا الشّيخ محمّد العيد الذّي خُدع وأُهين بعد القبض على الرّجل الذّي استجار به فإنّه بقي في خيمته أسيفا باكيا وكان يظنّ أنّ شفاعته تُقبل لأنّ الباي وإخوته من أهل الطّريقة التّيجانيّة.
ثمّ إنّ الباي كان من المكر بحيث غمر هذا الوليّ بالإكرام وحسن الضّيافة حتّى يمحو آثار الإهانة التّي ألحقها به، ذلك أنّه لمّا وصل محمّد العيد إلى تونس أنزله الباي بدار المملكة في بطحاء القصبة وأكرم نزله، وقال له لمّا اجتمع به:«إنّ شفاعتك مقبولة في علي بن غذاهم في الأمن على دمه، إلّا أنّ الحال يقتضي إبقاءه بباردو آمنا على نفسه، لأنّ تسريحه والحالة هذه نتوقّع منها هرجا مازلنا في إطفاء ناره». واعتذر له على ما فعله باش حانبة حين استعجل وأخطأ في القبض عليه، ثمّ قال له على سبيل التّرضيّة والإغراء في الآن نفسه :«قد أمرنا بإحضار الفابور لتسافر فيه معظّما مكرّما».
وأثار موقف الشّيخ محمّد العيد نقمة النّاس واستهجانهم حيث رأوا أنّه آثر إكرام الضّيافة وراحة السّفر في الباخرة التّي خصّصها له الباي على ما يليق بمقامه واحترامه من حماية من استجار به والغضب لما لحقه من خديعة وهوان، وعابوا عليه أنّه قبل بهذه الإهانة ولم يحتجّ عليها ولم يستنكرها، وقد كان بإمكانه أن يطلب مصاحبة علي بن غذاهم له في الباخرة ويبقيه في أحد الحرمين آمنا خيرا له من قبر السّجن الذّي كانت غمّته سببا في موته.
ولم يظلّ علي بن غذاهم بسجن باردو طويلا إذ نقله الباي يوم الأحد 29 أفريل 1866 إلى سجن الكرّاكة بحلق الوادي عندما توجّه بأهله وخاصّته هناك على عادته في المصيف. ومكث بن غذاهــم في غياهــب الكــرّاكة في أسوإ حال إلى أن توفيّ يوم الخميس 10 أكتوبر 1867.
وعلى هذا النّحو تكون استجارة علي بن غذاهم بالوليّ محمّد العيد التّماسيني السّبب المباشر في القضاء عليه وإخماد ما تبقّى من ثورته بشكل نهائيّ.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق
السلام عليكم: قلتم في مقالكم "كيف انتهى علي بن غذاهم" ...بأهله في منطقة جبل الرّقبة من بلاد ماجر....سيدي جبل الرقبة ليس موجود ببلاد ماجر كما زعمتم وإنما بالشمال الغربي من البلاد التونسية وبالضبط بغارالدماء...
السلام عليكم ورحمة الله، ذكرتم أنه "فـــي شــهــر ديسمبـــر 1865، دخــل عــلي بن غــذاهــم إلى تــونس متخفّيـــا واستجـــار بأهله في منطقة جبل الرّقبة من بلاد ماجر". وهذا خطأ، فجبل الرقبة يوجد في غارالدماء وليس هو من بلاد ماجر. وقد نبه إلى ذلك أحد القراء الكرام لكن الخطأ مازال قائما إلى الآن. يرجى تعديل المعلومة. مع الشكر