هل كان قنصل بريطانيا وراء إلغاء العبودية في تونس؟

هل كان قنصل بريطانيا وراء إلغاء العبودية في تونس؟

في كنيسة سان جورج الكائنة حذو باب قرطاجنّة بتونس العاصمة يرقُد جُثمان السّير «توماس ريد»، قضّى هذا الرجل جزءا من حياته في جزيرة «سانت هيلينا» حارسا على نابوليون بونابارت عندما كان منفيّا فيها بين العام 1816 وتاريخ وفاته في العام 1821، ثم أكمل الجزء الباقي قنصلا للتّاج البريطاني في تونس وصديقا مُقرّبا من المشير أحمد باشا باي، وقد جعلت تلك الصداقة جنازته حدثا هامّا في الإيالة التونسية حين وافته المنيّة بعد صراع طويل مع مرض السّرطان في التاسع من شهر رمضان العام 1265 للهجرة الموافق للتّاسع والعشرين من جويلية العام 1849 عن سنّ تناهز سبعة وستين عاما.

حمل حرسُ الباي الشرفي الجثمانَ إلى مثواه الأخير أمام جموع غفيرة من المواطنين، لكنّ موكب الدّفن رغم كلّ هذه الأبّهة خلا من أيّ كلمات تمجيدية تليق بمكانة الفقيد الكبيرة في بلاده وفي تونس، وقد علّقت صحيفة فرنسية نقلت وقائع الجنازة على ذلك بقولها: الفرنسيّون لا يشعرون بالأسف، فهُم لن ينسوا أنّ «توماس ريد» هو أحد سجّاني بونابارت!، أما أرملته فقد غادرت تونس تاركة جثمان زوجها لتواصل بقيّة حياتها في بلدة صغيرة حذو مانشستر حرصت على أن تضع في كنيستها معلما يخلّد ذكرى زوجها، وتشاء الأقدار أن يعود أصغر أبنائها جورج في العام 1879 إلى تونس ليكون آخر قنصل عام للتّاج البريطاني حيث وقعت تونس تحت الحماية الفرنسيّة في العام 1881.

توماس ريد وإلغاء العبودية

لنفهم أكثر شخصية السّير توماس ريد وعلاقته الوثيقة بالمشير أحمد باشا باي، ينبغي أن نقرأ جيّدا ما كُتِب في المَعلَم الذي يخلّد ذكراه بكنيسة كونجلتون. سطور قليلة فقط تتحدّث عن كونه كان نائب الحارس العام لمعتقل «سانت هيلينا» أثناء وجود نابوليون بونابارت منفيّا فيها، والجزء الأكبر من النصّ يقول إنّ  السّير «توماس ريد» كان وراء اتّخاذ باي تونس قرارَه التّاريخي بإلغاء الرقّ في 1846. هذا الدّور المفترض للقنصل البريطاني في إقدام الباي على إنجاز حقوقي غير مسبوق تستغلّه عائلة «ريد» للرّفع من شأن توماس وتغليب الجانب التّونسي في حياته على المرحلة التي كان فيها سجّانا، ففي كلّ النصوص التي تناولت سيرة هذا الرجل نقرأ تأكيدا على أهميّة ما قام به في تونس في مجال الحفريّات الأثرية وفكّ شفرة النّصوص القديمة التي عثر عليها فضلا عن ارتباط اسمه بمسألة إلغاء الرقّ. لكن المصادر التاريخية المحلّية تقتصر في تناول تلك المرحلة على استعراض العوامل الشخصية في تكوين المشير أحمد باشا باي (1837 - 1855) وتطلّعاته الإصلاحيّة، باعتبارها أهمّ العوامل التي أسهمت في اتّخاذ هذا القرار، فإنجازاته تتجاوز إلغاء الرق لتشمل إصلاحات عديدة متنوّعة في المجال التربويّ والصّناعي والعسكريّ، بل إن هذه الفترة تحديدا من حكم العائلة الحسينية تُعتبر فترة مفصلية في تركيز أسس الحداثة والتّنوير في تونس وإليها تعود كل منطلقات النهضة الحديثة، لا سيّما بإنشاء المدرسة الحربيّة بباردو في العام 1840.

في الثّالث من جوان 1824 عُيّن توماس ريد قنصلا لبريطانيا في تونس، وسيظلّ في هذا المنصب خمسة وعشرين عاما لن يزور خلالها موطنه الاّ مرّة واحدة في العام 1838، بعد أشهر قليلة من استلامه هذه الوظيفة تزوّج وبدأ حياته الجديدة عائليا وسياسيا على أنقاض تجربة جزيرة «سانت هيلينا» التي كان لها أثر عظيم في تشكيل ملامح شخصيته، كان في الرابعة والثلاثين من العمر سنة 1816 عندما ارتبط هناك بفتاة مملوكة لأحد الأسياد النّبلاء أنجبت له طفلا، لكنّه وخلافا لما يعمد إليه أقرانه في مثل هذه الحالات أبى الاّ أن يعترف بأبوّته لهذا الطفل فارضا على سلطة الجزيرة واقعا جديدا، إذ يفترض ألاّ يكون ابن المملوكة حرّا، لكنّ ما أقدم عليه «توماس ريد» بشجاعة نادرة لم يكن أمرا شائعا في طبقة النّبلاء التي ينتمي إليها، وهو ما مهّد الطّريق في العام 1820 لإلغاء الرقّ بالجزيرة، وأصرّ توماس على إجراء مراسم دفن ابنه الذي توفّي صغيرا وفق العادات الكنسية المسيحية المعروفة.

حرب القناصل حول العرش الحُسيْـني

في تحقيقها الذي جاء تحت عنوان «سرقة الآثار: الذاكرة المنهوبة» أكّدت ليدرز العربية في عددها الرابع عشر لشهر فيفري 2017 أنّ التّراث الأثري التّونسي شهد في القرن التّاسع عشر عمليـة نهـــب كبيـرة، استنادا إلى وصـف هنري دونان في كتاــبه Notice sur la régence de Tunis حفريات المبشّر الانقليزي: «ناثان دافيس» في قرطاج ومواقع أثرية مختلفة وقوله «إن الهدف من مهمّة «دافيس» هي إثراء أوروبا بممتلكات قرطاج»، لم يجانب دونان الصواب فكثير من النصوص التي تناولت تلك الفترة تشير إلى أن البعثات العلمية والأثرية سبقت الحماية ومهّدت لها باكتشاف الخصائص الطبيعية والثروات المحتملة والتغلغل في النسيج الاجتماعي المحلّي وقد لعب قناصل الدول العظمى في هذا المجال دورا رئيسـا. فأوّل خـريطة مُفصّلة لمدينة تونس أنجزها  القنصـل الدنماركي Christian Tuxen Falbe، ثم إن ما قام به «ناتان» من إرسال صناديق معبّأة بالآثار المستخرجة من قرطاج ومواقع أثرية أخرى إلى المتحف البريطاني في الفترة ما بين 1857 و1860 كان امتدادا وتتويجا لما قام به قبله «توماس ريد» 

 

الذي كان يرسل بانتظام معطيات مناخية محلّية إلى جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعة (Royal Society) في الفتـرة ما بين 1829 و1932، قبل أن يتّجه اهتمامه للحفريّات والبحوث التّاريخيّة في عدد من المواقع الأثرية، وهو الذي عثر في دقة على نقيشة ثنائية اللّغة أرسلها إلى المتحف البريطاني لأهميتها القصوى في فكّ شفرة اللّغة البونيقية، بما يجعلها تضاهي حجر الرشيد الذي مكّن العلماء من فهم أسس اللغة الهيروغليفية وقراءة رموزها. وقد كان العمل الذي قام به توماس ريد في هذا المجال بمباركة البايات وإشرافهم المباشر.

سياسيا احتفظ توماس ريد بعلاقات وثيقة مع حسين باي جعلته القنصل الأجنبي الوحيد الذي وقف أمامه وهو على فراش الموت يوم 19 ماي 1935 وتواصلت علاقاته الجيّدة مع المشير أحمد باشا باي الذي عرف عنه حرصه على رعاية جوّ من التسامح الديني، حيث شرع في عهده في إنشاء كاتدرائية قرطاج، وتمّ توسيع الكنيسة الكائنة حذو باب البحر تأكيدا على اهتمام الباي بالجاليات الأجنبية المكوّنة غالبا من التّجّار والحرفيين والرعايا المسيحيين، إلى جانب اهتمامه بتنظيم التعليم الزيتوني والارتقاء به تدريجيا ليتّخذ شكل مؤسّسة تعليمية. لكن في العام 1843 وقعت حادثة أدخلت بعض التوتّر على مناخ التعايش هذا، فقد قُتل تونسي مسلم يعمل لدى مصالح القنصلية البريطانية على يد شخص مالطي مسيحي الدّيانة، فأصرّ السير «توماس ريد» على أن يُحال القاتل على أنظار القضاء المحلي في مخالفة لما كان معمولا به بعدم إحالة المسيحيين على أنظار المحاكم الإسلامية، وهو ما جعله يواجه القنصل الفرنسي «شارل دي لاغو» الذي نجح في كتابة عريضة ضدّ هذا الإجراء وقّع عليها القناصل الأجانب باستثناء القنصل الأمريكي «جون هوارد باين» الذي كان شاعرا وممثّلا، وقد وصف القنصل البريطاني بقوله: «ريد انقليزي من المدرسة القديمة التي لا تؤمن بشيء آخر سوى الكنيسة والملكة وتعتبر كل الأجانب حمقى»، لكن «توماس ريد» استعمل كلّ نفوذه المعنوي للتأثير في موقف الباي وجعله ينحاز إلى قراره، فحوكم القاتل المالطي وأعدم في العام 1844، وقد كشفت هذه الحادثة التنافس الكبير بين قنصلي فرنسا وبريطانيا والتسابق بينهما للفوز بحظوة الباي وتوجيه دفّة القرار السياسي، وهو تنافس لم يكبح جماحه إلا بعد أن بات واضحا أن التّاج البريطاني لا يرى مانعا في الأطماع الفرنسيّة الممتدّة إلى تونس بعد احتلال الجزائر، وأنّ القوى العظمى قد اتفقت فيما بينها بما يجعل معارك القناصل حول العرش الحسيني بلا معنى.

قصّة السّير «توماس ريد» كما نقلها مؤلّف كتاب L’autre Sainte-Hélèneالصادر سنة 2010 الفرنسي «ألبير بنحمو» مرتبطة بشكل وثيق بقصة نفي نابوليون بونابارت إلى هذه الجزيرة الواقعة في المحيط الأطلسي حيث قضى أيامه الأخيرة وهي سبب كراهية الفرنسيين له، لكنّها أيضا قصة حبّ لتونس حيث يرقد جثمانه شاهدا على مرحلة من التاريخ المعاصر لعب فيها القناصل الأجانب دورا هاما في تحريك دفّة الحياة السياسية والاجتماعية من وراء السّتار.

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
منصف الوهايبي - 16-08-2018 20:34

مقال ممتاز شكرا لعامر

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.