اصدارات - 2016.06.15

"الرواية المفقودة" أو عندما يخرج فاروق الشرع عن صمته

"الرواية المفقودة" أو عندما يخرج فاروق الشرع عن صمته

"الرواية المفقودة" كتاب من تأليف فاروق الشرع نائب الرئيس السوري منذ سنة 2006، وقبل ذلك وزير الدولة (1980/1984)، ثم وزير الشؤون الخارجية لأكثر من عقدين من الزمن (1984/ 2006).
صدر الكتاب في طبعة أنيقة، في جانفي 2015، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، وقد قرأته بمتعة كبيرة لأنه يجمع في آن واحد بين سلاسة اللغة، وغزارة المعلومات، ودقّة التحليل، مع روح دعابة مبثوثة في ثنايا صفحاتة الـ495 التي خلت، على خلاف ما درجت عليه كتب المذكرات، من أي صورة لأن المؤلّف، كما يقول في المقدّمة، لا يريد للقراء "الغرق في حماقة مصوّرة بالألوان" (ص 14).
والكتاب، مثلما يدلّ عليه عنوانه، ومثلما جاء في كلمة الناشر وفي مقدمة المؤلِّف، يلقي الضّوء على رؤية دمشق وروايتها لجملة من الأحداث الهامة التي عاشتها سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والمشرق والخليج العربيان عموما خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي عايشها فاروق الشرع عن كثب، وساهم، بصفته وزيرا للشؤون الخارجية، في صنعها إلى جانب الرئيس الراحل حافظ  الأسد الذي يصفه بأنه "زعيم نسج علاقات عربية وإقليمية ودولية واسعة خلال ثلاثين عاما" ويقول عنه بعد وفاته: "هناك أناس يموتون دفعة واحدة، سرعان ما يختفون من حياتنا ومن ذاكرتنا، وحافظ الأسد لم يكن من هؤلاء الناس سواء أحبّه البعض أو ناصبوه العداء. كان كشجرة السنديانة تموت وتظل جذورها حية في اعماق الارض" (ص 458).
وقد شرح فاروق الشرع في المقدّمة أسباب تأليف الكتاب فقال: "كنت ألحظ غياب أحداث مهمّة، وضعفا في صدقية أحداث أخرى في بعض مذكّرات مسؤولين آخرين عربا وأجانب. وقد وجدت نفسي مضطرّا لكتابة هذه المذكّرات بعد أن نشر كثير من الأكاديميين والصحافيين والساسة المهتمين بالشرق الأوسط رواياتهم عن هذه الفترة ولم تبق إلا الرواية السورية، الرواية المفقودة" (ص 11).    
وعلى هذا الأساس فإن الكتاب كما يقول الناشر يملأ فراغا كان قائما لا سيّما "حول تجربة التفاوض السورية الاسرائيلية فقد كتب دبلوماسيون وعسكريون اسرائيليون مثل أوري ساغي وإيتمار رابينوفيتش الرواية الاسرائيلية وكتب دنيس روس ومادلين اولبرايت والرئيس السابق بيل كلينتون وغيرهم الرواية الأمريكية، وظلّ الطرف السوري صامتا كاتما روايته يتكلّم الجميع عنه ويلتزم هو الصمت" (ص 7/8).
غير أن الكتاب، وإن كان قسم كبير منه مخصّصا فعلا للمفاوضات السورية الاسرائيلية، فإنّه يتطرّق إلى العديد من الأحداث الأخرى على غرار  تلك التي جدت بين نكبتي 1948 و1967، بما في ذلك قيام الوحدة المجهضة بين سوريا ومصر، كما يتطرق إلى العلاقات المتداخلة حتى "إصابة الرأس بالصداع" مع لبنان، والعلاقات المتنافرة مع "الأخ العدوّ" العراق، وبين جناحي حزب البعث السوري والعراقي، مع التوقّف عند تعاطي سوريا مع الحرب العراقية الإيرانية ثم مع غزو الكويت وتداعياته.
وإلى جانب ذلك فإنه يكشف عن بعض أسرار العلاقات التي ربطت بين الرئيس حافظ الاسد وأخيه رفعت الأسد، والرئيس العراقي صدام حسين والرئيس ياسر عرفات.
أمّا الشّأن الفلسطيني فهو حاضر بكثافة في العديد من فصول الكتاب التي كان بعضها مخصّصا له على غرار الفصل المتعلق بـ"الانتفاضة الكبرى" أي انتفاضة 1987، وبـ"مفاجأة أوسلو"، بينما كان بعضها الآخر يتناول أحداثا هامة على صلة وثيقة به مثل الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982، وما نجم عنه من خروج ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية من بيروت...
أما على الصعيد الدولي فقد تركز اهتمام فاروق الشرع بشكل يكاد يكون كليا على العلاقات بين دمشق وموسكو، وخاصة ما كان لانهيار الاتحاد السوفياتي من تبعات على وضع  سوريا...
وبالفعل فإنّنا نقرأ في الفصل التاسع عشر والأخير من الكتاب الذي يحمل عنوان "قمة جنيف بين الأسد وكلينتون" والذي يكشف عن خبايا هذه القمة، هذه الفقرة التي يستعرض فيها فاروق الشرع جملة العوامل التي أجبرت سوريا على الدخول في عملية السلام في الشرق الأوسط وعلى خوض جولات التفاوض المتتابعة مع الجانب الاسرائيلي تحت رعاية الولايات المتحدة الامريكية، فيقول: "كان جوهر التقييم في مفهوم "الرواية القصيرة" أن "اللعبة الكبرى" التي بدأها الاسرائيليون كـ"دعاة سلام"  والأمريكيون كـ"وسطاء نزيهين" قد انتهت وانكشفت. كان لسورية ما يبرّر لها اتخاذ السلام خيارا استراتيجيا، فالاتحاد السوفياتي انهار منذ مطلع التسعينات ولا ظهيرَ مصريًّا أو عربيّا منذ معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، ولا عمقَ استراتيجيا مع العراق منذ انهيار الميثاق القومي وما أعقبه من حروب عبثية مع إيران والكويت، ولا أثرَ لإعلان دمشق بعد أن ألْغِيَ الشق الأمني منه بطلب ملكي" (ص 450)...  
وتجدر الملاحظة أن فاروق الشرع ينهي هذا الفصل الذي أعلن فيه "وفاة" عملية السلام على المسار السوري الاسرائيلي بالتطرق إلى وفاة الرئيس حافظ الأسد، بعد القمة الفاشلة بأشهر قليلة، وكأنه يريد الإيحاء بترابط ما بين الوفاتين المتزامنتين...
وبقطع النظر عن ذلك، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو لماذا اختار فاروق الشرع التوقّف عند نهاية فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، ولم يواصل الحديث عن بقية الفترة التي قضاها على رأس وزارة الشؤون الخارجية وحتى كنائب رئيس في عهد خلفه الرئيس بشار الأسد؟
ومهما يكن الجواب على هذا السؤال، فان الأمر المؤكد، في رأيي، هو أن كتاب "الرواية المفقودة"، مفيد على أكثر من صعيد:
فهو مفيد لأنه يفسّر ولو جزئيا ما جرى ويجري الآن في سوريا ولسوريا، إذ لم يكن من الممكن للولايات المتحدة الأمريكية ولإسرائيل أن تغضّا النظر أو أن تغفرا لدمشق عدم رضوخها لـ"السلام" الذي أرادتاه، كما أرادتاه لا كما تقتضيه الشرعية الدولية.
وهو مفيد لأنه، كما يقول الناشر، يقدّم شهادة "لمصلحة الأجيال العربية القادمة وخدمة للدبلوماسية العربية المستقبلية والسورية بشكل خاص وخدمة للباحثين والمؤرخين أيضا" (ص 7).
وبالفعل فإنني أرى أن فصوله المتعلّقة بجولات التفاوض السورية الاسرائيلية تحت إشراف واشنطن الحصريّ، تصلح للدراسة والتدريس في المعاهد الدبلوماسية والأكاديميات وكليات الحقوق والعلوم السياسية،  لأنها تكشف عن دقائق المنهجية التفاوضية السورية التي تقوم على مبدإ عدم التفريط في الكرامة والسيادة الوطنية، وعن تعاريج المنهجية التفاوضية الاسرائيلية التي تقوم على الخداع والمماطلة والنكوص المتكرّر عما يتمّ الاتفاق عليه، بينما تفتقر الرعاية أو الوساطة الأمريكية إلى النزاهة وتتسم بالانحياز الكلّي إلى اسرائيل، بل إنّ الوسيط دنيس روس، كما يصوره فاروق الشرع، كان يبدو أحيانا أكثر اسرائيليةً من الإسرائيليين أنفسهم.
ثم إنّ الكتاب مفيد لأنّه في بعض ملاحظاته الوجيهة يسهم في رسم بعض معالم الطريق إلى المستقبل المغاير لا سيّما بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينية حيث يرى فاروق الشرع، وأعتقد أنه على صواب في رأيه، أن  معضلة الفلسطينيين "ليست مع الاسرائيليين والصهيونية العالمية فحسب بل معنا أيضا نحن العرب. لقد تعلّموا من كتبنا وشعاراتنا منذ إنشاء المستوطنة اليهودية الأولى على أرض فلسطينية في مطلع القرن العشرين أنهم قضيتنا المركزية، لا نحن قبلنا أن نتخلى عنهم لأنهم استثمارنا الأفضل والأول في سياساتنا الداخلية والخارجية، ولا هم فكّروا بهجراننا وكشف حدود شعاراتنا لأننا نحن وهم من ذات التربة العطشى ننتظر ما تجود به السماء" (ص 194).
على أنّه لا بدّ من الملاحظة، في مقابل ذلك، أن في الكتاب مناطقَ ظِلٍّ عديدة، ففاروق الشرع أغفل بعض الأحداث الهامة أو لم يسلّط عليها الضوء بشكل كاف، وهذا ما ينطبق مثلا على موقف سوريا في القمة العربية الطارئة التي انعقدت بالقاهرة (9/10 أوت 1990) بُعَيْدَ الغزو العراقي للكويت (02 أوت 1990) والتي فتحت الباب أمام التدخل الأجنبي في المنطقة...
ونفس هذه الملاحظة تنطبق على مشاركة سوريا، بعد ذلك، في التحالف الذي شكّلته الولايات المتحدة لضرب العراق... فقد أهمل فاروق الشرع الحديث عن هذه المشاركة التي يرى البعض أنها كانت أحد أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها دمشق في التعامل مع زلزال احتلال العراق للكويت.     
وختاما، فقد استرعى انتباهي في حديث فاروق الشرع عن الأزمة التي عرفتها العلاقات السورية التركية سنة 1998 بسبب إيواء  سوريا لعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، أنه تجاهل تماما الوساطة التي اضطلعت بها تونس بين دمشق وأنقرة من أجل المساهمة في نزع فتيل هذه الأزمة، فلقد كانت تونس بادرت بإيفاد السيد سعيد بن مصطفى وزير الشؤون الخارجية آنذاك إلى دمشق، حيث تحادث مطوّلا مع الرئيس الراحل حافظ الأسد ومع نظيره السوري فاروق الشرع قبل أن ينتقل إلى أنقرة وينقل اليها حرص سوريا على تجنّب أي تصعيد في العلاقات السورية التركية./.

محمد ابراهيم الحصايري

  

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.