وسائل الإعلام: الفيضان والفوضى (2)
في مقالي السابق، قلت إنّ حالَتَيْ الفيضان والفوضى اللتين يعاني منهما المشهد الإعلامي في بلادنا اليوم، تعودان أوّلا وبالذات إلى أنّ العديد من وسائل الإعلام إما لا تتوفّر على رؤية واضحة لـ"رسالتها الإعلامية"، أو هي تتوفّر على رؤية منحرفة لها، عن عَمْدٍ، من أجل تحقيق مآرب مُعَيَّنَة...
غير أن هاتين الحالتين هما أيضا نتاج جملة من النقائص "التكوينية" الأخرى التي وُلِدت مع هذه الوسائل منذ نشأتها الأولى في ظل المناخ الضبابي المضطرب الذي أعقب الرابع عشر من جانفي 2011 والذي فتح أبواب الميدان الإعلامي على مصراعيها، فتسرّب منها إليه عدد ممّن "يدّعون في الإعلام فلسفة" لكنّهم في الحقيقة علموا شيئا وغابت عنهم أشياء...
وتتمثّل أهم هذه النقائص في أن هؤلاء الدّاخلين الدُّخَلاَء لا يؤمنون بأنّ للإعلام وظائف جوهرية يُفْتَرَضُ أن يضطلع بها خدمةً للأهداف الوطنية، وتنويرًا للرأي العام، وارتقاءً بذائقة المجتمع، وتوعيةً وتوجيهًا... ثم إنّ مشاريعهم تشكو أصلا من ضَعْفِ رؤوس أموالها، وندرة الكفاءات التي تعمل فيها، وهو ما يجعلها عاجزة عن إنتاج مادّة إعلامية جادّة وجدّية...
وهذه النقائص التي أدّت سريعا إلى "تبخّر" العديد من هذه المشاريع، تدفع بوسائل الإعلام إلى منافسة بعضها البعض منافسة شرسة وأحيانا غير أخلاقية من أجل الفوز بأكبر نصيب ممكن من سوق إشهار مَحَلِّيَّةٍ ضيّقة ومحدودة.
ومن الطّبيعي في ظل هذا الوضع، أن تتهافت على تحقيق أعلى نسب المشاهدة والاستماع والقراءة التي تُعْتَبَرُ مقياسا أساسيا من المقاييس التي يعتمد عليها الراغب في الإشهار في اختيار وسيلة الإعلام التي يعهد لها بالتعريف بمُنْتَجِه...
وهذا هو، في تقديري، السبب الذي دفع بالعديد منها إلى الانخراط في لعبة "التفاهة والتتفيه" التي تعني التركيز على المواضيع التي تستهوي "سواد" الناس لا بعمقها، وإنما بتفاهتها، وهذا ما يفسّر مثلا انتشار ما يصطلح عليه بـ"تلفزيون الواقع"، كما يفسّر التزاحم على تحقيق ما أمكن من "الفرقعات" الإعلامية، حتّى لو كان ذلك على حساب الدّين والقانون ونواميس المجتمع، وعن طريق اللجوء إلى الاختلاق والفبركة والترويج للإشاعات، والاستثارة وإثارة الغرائز بمختلف الوسائل الممكنة.
محمد ابراهيم الحصايري
إقرأ المزيد
وسائل الإعلام: الفيضان والفوضى (1)
- اكتب تعليق
- تعليق