أخبار - 2016.05.22

النفط : مـن فائض في الإنتاج إلى عـبء على الميـزانية

النفط : مـن فائض في الإنتاج إلى عـبء على الميـزانية

في تمام الرابعة إلا الربع ظهرا  بتوقيت غرينيتش من يوم الجمعة 29 أفريل 2016، بلغ سعر برميل البترول الخام لبحر الشمال حوالي (159 لترا 47.63) دولارا ، مسجلا بذلك أعلى سعر منذ نوفمبر 2015.

وكانت أسعار البترول قد تدحرجت إلى أدنى مستوياتها منذ زمن طويل وانحدرت إلى ما تحت 35 دولارا في الأسابيع الأولى من سنة 2016 .

 الصدمات البترولية 1973 و1981/1983

وبعد الصدمة البترولية الأولى عام 1973 التي رافقت حرب رمضان 1973 بين مصر وإسرائيل ، والتي رفعت البرميل إلى 10 أو 11 دولارا ، وأدخلت الهلع في الغرب ، جاءت الصدمة الثانية بين 1981 و1983 عندما ارتفع سعر البرميل إلى ما فوق 30 دولارا وبلغ أوجه عند 40 دولارا ، واعتبر ارتفاع سعر البرميل إلى 65 دولارا كارثة في العام 1991، ومع الأزمة المالية / الاقتصادية  الحادة  في سنة 1998 شارف سعر البرميل المائة والأربعين دولارا ، فيما استقر في حدود 120 دولارا في 2012/2013، لتبدأ رحلة الانهيار بعد ذلك ويأخذ في التراجع حتى الوصول إلى أقل من 35 دولارا في بدايات العام الحالي.

 

وبالمقارنة فإن هذه القيمة لسعر برميل البترول ، تعتبر ليس بالمعلن اسميا، بل باعتبار انزلاق القيمة للعملة ، ونسبة التضخم ، أقل من ذلك بكثير، بمرور الزمن، ولذلك اصطلح على استعمال كلمة الدولار الثابت أي الذي تبقى قيمته الشرائية للسلع والخدمات بمستوى معين لا يتغير، باعتبار انخفاض قيمة العملة.

 

وبالمقارنة فإن الدينار التونسي كان يساوي سنة 1966، 0.4 دولار، وكان يساوي في بداية التسعينيات  دولارا واحدا وهو إذ يساوي اليوم نصف دولار فإن ذلك يعني أن قيمة الدينار التونسي تساوي اليوم أقل من ربع الدولار  كما كان في سنة 1966 ونصف قيمته سنة 1990، غير أن الدولار نفسه انخفضت قيمته بالقياس إلى  قدرته الشرائية ، ويقول الخبراء إن سعر برميل البترول اليوم لا يختلف كثيرا عما كانت عليه قيمته قبل الصدمة البترولية الأولى سنة 1970، رغم أنه ارتفع إلى 47 دولارا في الأيام الأخيرة، غير أن ذلك السعر لا يكاد يصل إلى ثلث قيمة البرميل سنة 2009/2008 في عز أزمة 

« السور برايم »، وأن تلك القيمة اليوم لا تشكل إلا الثلث بالكاد لما كانت عليه قيمة البرميل سنة 2013. ولكن السؤال المطروح وبإلحاح، هو ما هي أسباب هذا الانهيار في أسعار البترول ، وما هي تداعيتها سواء على الدول المنتجة أو المستهلكة؟

السؤال المحيّر ؟

وعلى الرغم من أن توريد البترول  في الدول المستهلكة، كان يستنزف جزءا كبيرا من مواردها ، وكان يرفع كلفة سلعها سواء المخصصة لسوقها الداخلية أو للتصدير، فإن تلك الدول، ورغم تدني فاتورة توريد البترول، لم تستفد من هذا الوضع الجديد ، ولم تحقق نسب نمو عالية كما كان منتظرا ، بل بقي البعض منها في حالة ركود وانكماش ،لا يجد له الباحثون الاقتصاديون تفسيرا، واكتفى البنك الدولي و صندوق النقد الدولي والمنظمة الأوروبية للتنمية OCDE بملاحظة ذلك وتسجيله.
 
وعلى العكس من ذلك فإن الدول المنتجة والمصدرة للبترول، على الرغم من تكتلها وتشكيلها لكارتل قوي فيما بينها ، فإنها تضررت بشكل متفاوت من انخفاض سعر برميل البترول، ولعل البلدان الأكثر تضررا هي الجزائر وليبيا ونيجيريا وفنزويلا  وأنغولا ، وخاصة روسيا التي ذابت مواردها من بيع البترول، كما الثلج في يوم ساخن ، وإذ حافظت دول الخليج  على موقع قدم ثابت، فذلك ليس بسبب مواردها الحالية من بيع بترولها، بل نتيجة لجلوسها على مدخرات وفيرة، احتفظت بها من أيام الوفرة ، في الوقت الذي اضطرت فيه دول مثل السعودية التي تعتمد في ميزانيتها على البترول بالأساس، إلى تسجيل عجز في ميزانيتها وذلك للمرة الثانية والوضع مماثل في قطر، بينما بدت الكويت والإمارات في وضع أفضل، لاهتمامهما على مدى عقود بادخار جانب من الموارد ليوم تحتاج « إلى الفلس الأبيض في اليوم الأسود »...

تونس في هذا الخضم

وتبقى تونس في كل هذا  في مواجهة عجز طاقي كبير، يستنزف إمكانياتها  ويقف متحديا كل برامجها، ويمكن القول إنه عندما جاءت الصدمة البترولية الأولى سنة 1973 كانت البلاد محققة لاكتفائها الذاتي بل وبفائض مهم، مما دفعها إلى الدخول في منظمة البلدان العربية المصدرة للنفط، ومكّنها من مواجهة عتو أسعار تضاعفت ثلاث أو أربع مرات، بفضل إنتاج غزير نسبيا  عبر حقل البرمة في الجنوب التونسي في ما يعتبر اليوم ولاية تطاوين على مشارف الحدود الجزائرية، ثم عبر الحقل البحري عشتروت في عرض مياه صفاقس وعدة حقول صغيرة أخرى في أماكن متفرقة من البلاد.
 
غير أن البلاد بنظر قصير ، واعتقاد رسمي بأن الحنفية البترولية دائمة، أقدمت على هدر كبير، تمثل في اعتماد أسعار بيع داخلية متدنية إرضاء للشعب ، ما استنفد قبل الأوان مخزونا ضعيفا في حد ذاته وغير متجدد، وجاءت الصدمة البترولية الثانية في سنة 1983 فارتفعت الأسعار للبرميل في السوق العالمية بشكل غير متوقع ولا مسبوق، فقد واصلت حكومات تلك الفترة سياساتها المتهورة ما جعل تونس تصل سريعا إلى مستوى من الإنتاج لا يغطي بداية  ومنذ 1986 سوى نصف احتياجاتها المتزايدة، سواء بحكم تطور طلبات الصناعة والفلاحة أو تطور طلبات أسطول سيارات ونقل عمومي في قمة تزايده، وأخذ الإنتاج النفطي الوطني في التناقص بحكم تقلص الحقول المتاحة ، وعدم اكتشاف حقول جديدة مؤثرة مثل « البرمة » و « عشتروت »، كما أخذ الطلب في التصاعد ، مما أثر سلبا في الميزان الطاقي، خصوصا بعد اتخاذ خطوتين سلبيتين في السبعينيات:

الأخطاء القاتلة 

  • أولها تنازل  تونس عن حقها من الصحراء لفائدة الجزائر، وخسارة جزء من أرضها التاريخية بحثا عن السلم مع الجزائر بأي ثمن، ويتحمل مسؤولية ذلك الرئيس الجزائري الأسبق بومدين والرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة الذي كان آنذاك وزيرا للخارجية ، ومن الجانب التونسي وفي غياب بورقيبة الذي كان يعالج في باريس، كان هناك كلّ من رئيس الحكومة الباهي الأدغم ووزير الخارجية الحبيب بورقيبة الابن ، ومجلس نيابي مرر اتفاقا أعرج لم يقف ضده سوى نائب واحد هو علي المرزوقي.
  • وثانيها إصرار تونسي  كان وراءه رئيس الحكومة الهادي نويرة، على عدم اقتسام  إنتاج الجرف القاري في مياه الجنوب التونسي من البترول مع ليبيا، بإشارة من خبراء تونسيين كان من رأيهم أن ذلك الجرف هو ملك تونسي، وإصرار على الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وقد « أفتت »  تلك المحكمة بأن ذلك الجرف تعود ملكيته إلى ليبيا وحدها و « طار العصفور ».
 
وفي كلاّ الحالتين فقد فوّتت تونس على نفسها ، فرصة الحصول على حنفية بترولية لا تنضب، فقد ظهر لاحقا أن الجزء الذي تنازلت عنه تونس للجزائر من صحرائها كان عبارة عن إسفنجة مبللة بالكثير من البترول، وكان معروفا من قبل أنه يعج وما زال بكميات بترولية ضخمة، كان يمكن اقتسامها لولا تعنت الحكومات التونسية، وإصرارها على « الكل أو بلاش ».
 
ولذلك فإن المخططين التونسيين تنبهوا أمام هذا الوضع منذ كتابة المذكرة التوجيهية للمخطط إلى أنّ من بين ثلاثة تحديات كبرى تواجهها تونس، هناك التحدي 
الطاقي، وأنه ينبغي اتخاذ القرارات المناسبة حتى لا تفاجئ  البلاد بوضع يأكل فيه البترول بأسعاره المتصاعدة الأخضر واليابس، ونبهت المذكرة  إلى أنه أمام تقلص الجانب الإنتاجي الداخلي من النفط، لا بد من اتباع سياسة حازمة بالنسبة إلى الأسعار في سوق الاستهلاك الداخلي، حتى يخف ضغط الهدر أمام أسعار منخفضة حقيقة  في إطار سياسة شعبوية، وحتى لا يثقل كاهل ميزانية الدولة عن طريق تعويض ودعم غير مبّررين.

أكبر الأعباء على الميزانية هو دعم  المواد النفطية

و أمام  مواصلة « دفن الرأس في التراب »  كما النعامة، بات التعويض للبترول أثقل باب في الموازنة خاصة بعد الصدمة في الأسعار سنتي 2008/ 2009  وإلى الصدمة الثانية في 2013، عندما وصلت الأسعار للبرميل ما بين 120 و140 دولارا، وإذ خف الضغط بانخفاض أسعار البرميل الواحد إلى 2016/2015 حتى الوصول إلى 30 دولارا أو أكثر بقليل، فإن تقلص قيمة الدينار المستمرة جعلت سعر البرميل داخليا يبقى مرتفعا، وتعتبر تونس اليوم البلد الذي تنخفض فيه أسعار البنزين والمازوط إلى أقصى حد بين دول العالم بحوالي  0.84  دولار  للتر  الواحد، وهو  السعر الأكثر انخفاضا  في العالم باستثناء الدول المنتجة في الخليج وليبيا والجزائر وفنزويلا ونيجيريا.
وإذ تم التخفيض بعشرين مليما في بداية هذا العام في سعر البنزين و50 مليما في سعر المازوط، فإن استمرار تراجع الدينار قياسا بالعملات الأجنبية، لم يمكّن الحكومة فعلا من تحقيق أي اقتصاد في نفقات الدعم للمواد النفطية، إلا إذا اعتبرنا العودة إلى حقيقة الأسعار بالنسبة إلى البترول المستهلك في الصناعة، والنقل الثقيل، وهما البابان اللذان كانا يمثلان الجزء الأكبر من نفقات الدعم للنفط، الذي يمثل بدوره الجزء الأكبر من نفقات الدعم والتعويض والتي كانت تمثل 17 في المائة من حجم الميزانية العامة للدولة.
 عبد اللطيف الفراتي 
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.