أخبار - 2015.12.21

فاروق القدومي "أبو اللطف" : المشاكس الذي لا يمكن الاستغناء عنه- فيديو

  أبو‭ ‬اللطف‭ ...‬المشاكس الذي لا يمكن الاستغناء عنه

في الأيام الأولى من سنة 1965، وكان من بين المهام الموكولة لي ، في جريدة الصباح، فتح الرسائل الواردة وترتيبها وتوزيعها، لاحظت من بين تلك الرسائل، رسالة غير عادية ، مكتوبة بحبر بنفسجي ومسحوبة على مطبعة حجرية ، بعد فتحها وجدت على صدرها شعارا باللون ذاته تتوسطه ذراعان وبندقيتان وعلم فلسطين، وقد كتب عليها حركة فتح ، وتحتها كلمة «العاصفة».

كان الوقت صباحا فيما أن قسم الخارجيات لا يبدأ عمله إلا مساء، أخذت الرسالة إلى الأستاذ عبد الجليل دمق الذي كان أيامها بمثابة رئيس التحرير المساعد ، وكان المكتب الذي يجلس إليه مقابلا لمكتبي ، مقدرا أنه سيهتم بتلك الرسالة

كانت تلك الرسالة بمثابة الشعاع المضيء، قررنا نشرها ، وتوليت شخصيا تصديرها  أي كتابة مقدمة لها ، واخترنا لها عنوانا وخصصــنا لها مكـانا بـارزا في الصفحة الأولى وكـنّا أول صحيفـة تـونسية تنشــرهــا، وتخبر عن انطلاق العمل الفلسطيني المسلح.

لم تكن الرسالة إعلان موقف أو التبشير بقيام  تنظيم جديد للفلسطينيين ، بل كانت تنبئ عن أول عملية فدائية تقوم بها «العاصفة»،  وسنعلم لاحقا أنها هي الذراع العسكرية لحركة «فتح»، وهي عملية تمت في الليلة الفاصلة بين 31 ديسمبر 1964 و1 جانفي 1965  ، تمثلت في تفجير نفق «عيلبون» الذي كانت إسرائيل  تسرق  بواسطته مياه نهر الأردن.

كانت تلك أول مرة يجري فيها الحديث عن «العاصفة» و«فتح». تم تفجير النفق بنجاح، وأصيب اثنان من الجنود الإسرائيليين، وسقط شهيد  من بين المهاجمين ،سيذكر التاريخ لاحقا أنه أحمد موسى سلامة أول شهيد فلسطيني في خلال العمليات التي قامت بها حركة فتح ، التي دشنت الكفاح المسلح ، تماما كما العملية التي أقدم عليها جيش التحرير الجزائري ليلة 1 نوفمبر 1954.

ماهي فتح وما هي العاصفة ؟

لكن  كما ينبغي للصحفي المحترف، كان لابد  من المتابعة والشروع في  البحث عن هذه الحـركة الفلسطينيـة الجـديدة، في وقت كان فيه أحمد الشقيري يمــلأ الفضاء جعجعة ، وهو يرأس من القاهرة منظمة التحرير التي لا تفعل شيئا غير الخطب الرنانة. لم يكن الأمر سهلا، فالثوار الذين فجروا نفق عيلبون ، كانوا متخفين، لا يريدون الظهـور للعلن، كـانت كل الجهات سياسية وصحفية تبحث عــن وسيلة لكشف المستور، ولمعرفة من يقف وراء العمليات الفدائية المتكررة، التي فـاجأت إسرائيل إن لم تكن أذهلتهاوكان همهم إنجاح ثورتهم ، وإقلاق راحة الذين احتلوا بلادهم وجعلهم مستقبلا غير آمنين ، بعيدا عن الدعاية لأنفسهم في تلك المرحلة.

كشف المستور

شيئا فشيئا أخذت تتكشف هوية الذين يقفون وراء ما يجري ، من يتجرؤون على إسرائيل ، من يقضّون مضجعها.من هم الفتية الذين استطاعوا أن ينفذوا إلى العمق الإسرائيلي،  يضربون وينجحوا في العودة سالمين.وظهر بالتقطير ، أن حركة «فتح» وذراعها العسكرية  «العاصفة»، قد انطلق بناؤها منذ سنة 1959 ، وإن كانت أجلت الإعلان عن هذا التأسيس حتى تحقيق الجهوزية  للقيام بأول عملية فدائية. ويعود البعض حتى إلى سنة 1956 بعيد العدوان الثلاثي على مصر من طرف إسرائيل وبريطانيا وفرنسا في أكتوبر من تلك السنة.

ويتفق المؤرخون جميعهم على أن النواة الأولى لحركة فتح انطلقت من الكويت في ربيع 1959، وقد ضمت ياسر عرفات (أبو عمار) وصلاح خلف ( أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وربما آخرون يختلف بشأنهم كتاب سيرة الحركة ، ومنهم من يضع  في مقدمتهم فاروق القدومي (أبو اللطف)، وكان هو الآخر مقيما بالكويت ، التي كانت تستقطب في فترة ما قبل استقلالها، وفي مرحلة طفرتها البترولية  الأولى ، الكثير من الإطارات العربية مصرية وفلسطينية وسورية ولبنانية، خصوصا، وقد كانت وقتها مناصرة للقوميين العرب، وقريبة من التوجهات الناصرية.وإذ كان كبار القادة الفلسطينيين لاحقا مستقرين في الكويت، فقد كان محمود عباس ( أبو مازنمستقرا  من جهته في قطـر، واعتبر من المؤسسين لحركة فتح، إذا لم يكن  من الصف الأول فلعله من الصف الثاني.

من هو فاروق القدومي ؟

ولد أبو اللطف في إحدى القرى التابعة لمحافظة قلقيلية في سنة 1931 ، وهو سليل الأمير أسعد باشا الأحمد القدومي، كبير إقطاع جينصافوط ، وبعد الدراسة في يافا، وحصول النكبة انكفأ إلى الضفة الغربية  وبالذات نابلس مدينة الأرستقراطية الفلسطينية حيث تزوج فتاة من كبريات البيوتات كما يقال هناك ، اتخذت كنية لها «أم اللطف» (وتعرفت عليها في مكاتب الجامعة العربية منذ  انتقلت إلى تونس، وكانت عالية الأخلاق وقيل لي أيضا إنها عالية الكفاءة ، وقد جالستها في مكاتب إدارة الإعلام في الجامعة قبل أن أتعرف على زوجها بعد ذلك بعامين) وقد انضم فاروق القدومي  كمتطوع للجيش الأردني في تلك الفترة، ثم إنه عمل في السعودية، قبل الالتحاق بالقاهرة سنة 1954، لينتسب إلى الجامعة الأمريكية، وينال منها شهادة في الاقتصاد و أخرى في العلوم السياسية سنة 1958.

عاش فاروق القدومي في مصر في خضم فترة ثرية بالأحداث، فقد شهد صعود عبد الناصر، وتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، وعاصر الوحدة المصرية السورية بكل الزخم الذي أحدثته في الشباب العربي.

انضم فاروق القدومي إلى حزب البعث، وبخلفية ما كان يعتمل داخل النفس العربية وخاصة الفلسطينية، بدأ وقتها يتحرك في سبيل إقامة تنظيم فلسطيني يقود كفاحا مسلحا من داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، بقصد التحرير وإقامة الدولة على كل أرض فلسطين.

بدء تحركات قيام تنظيمات فلسطينية لاسترداد الأرض

في نفس الوقت كانت جهات فلسطينية عدة في مصر ودول عربية أخرى تسعى لتنظيم نفسها في أجهزة تسعى للتحرير، غير أن الدول العربية لم تكن لتترك لها حريتها، بل كانت كل دولة تسعى للسيطرة على أي تنظيم يقوم في بلادها، سواء في سوريا أو مصر أو العراق أو الأردن، ومن استحــالة قــيام تنظيــم مستقــل القرار، اتجهت قوى فلسطينية من كبار القوم إلى الكويت ، وقليل منها إلى قطر ، من حيث انطلقت حركة «فتح»، وذراعها العسكرية «العاصفة».

لم تكن الحدود المصرية تسمح بأي تحرك مسلح، باعتبار قوات الفصل ، التي فرضتها الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وغزة، على إثر حرب العدوان الثلاثي في 1956، ولا كانت سوريا تسمح لأنها  كانت تدعي أن أي حرب مع العدو، هي التي تختار موقع انطلاقها وموعده، ولا كان في وارد الأردن ذلك وقد تم استصفاء الشعب الفلسطيني واعتبر أردنيا، أما العراق فليس له حدود مشتركة مع إسرائيل، ولذلك فقد كان لا بد أن تولد حركة «فتح» بعيدا عن الحدود  الإسرائيلية في دولة مثل الكويت، لا تضع يدها على تنظيم بقي فلسطينيا وبعيدا عن تأثير دولة الإقامة، كما كان حاله عندما انتقل إلى تونس بعد 1982، فقد بات بعيدا عن الأرض التي يستهدف تحريرها، وغير خاضع لإرادة غير إرادته.

هكذا كان حال فاروق القدومي ( أبو اللطف) عندما كان بين مؤسسي «فتح» وذراعها العسكرية «العاصفة» ، باكورة التنظيمات التي دشنت في تلك الفترة كفاحا مسلحا ضد إسرائيل، ذات ليلة من شتاء 1965/1964 أي ليلة رأس السنة، غربي الجليل الشرقي غير بعيد عن الحدود اللبنانية، الوحيدة التي كانت مفتوحة ـ رغم الأنف ـ أمام الزحف الفلسطيني الوليد.

رجل مثقف، اقتصادي التكوين، سياسي الإضافة، قومي التوجه، بعثي المنحى قبل أن ينقسم البعث إلى عراقي وسوري، وقبل أن ينسحب من براثنه، ولكن في الأصل فلسطينــي الانتمــاء، أسـاسا أولا وأخيرا، فالذين أسسوا فتح كانوا يرفضون أن يكونوا تحـت جناح أي دولة عربية، فيما كانت كل العواصم التي تدعي مناصرة الفلسطينيين تسعـى فقــط لاستخدامهم ورقة بيديها ـ تحركهم حسب مصالحها وطبيعة الظرف.

استقلال فكري وتنظيمي كامل

بالذات أبو اللطف كان بين آخرين معروف باستقلاله الفكري، وعدم انتمائه لأي دولة، بعكس كل الذين جاؤوا من بعد أو غالبهم  خارج «فتح»، وأسسوا فصائل تأتمر بأوامر هذه الدولة أو تلك، وأحيانا أكثر من فصيل يأتمر بأوامر لا دولة واحدة بل دولتين أو ثلاث في الوقت نفسهبالذات أبو اللطف هو أول من يعرفهم كأشخاص ويعرفهم كفصائل، فحركة «فتح» اهتمت أول ما اهتمت بالمعرفة وركزت سواء على معرفة الحقيقة العربية، ثم الحقيقة الإسرائيلية، وكان فاروق القدومي العين الساهرة والإذن اليقظة» لـ«فتح»عند تأسيسها، فقد كُلف بالعمل المخابراتي، الذي كانت حركة التحرير الفلسطينية اعتبرته مبكرا من الأولويات المطلقة، كان ينبغي أن يعرف المنافسين في حركة التحرير ميولاتهم، وتبعياتهم، ومن يقف وراءهم، والخطط التي يحددونها خاصة لضرب «فتح» ولكن همه انصب أساسا على معرفة إسرائيل من الداخل، ولم يكن العمل الفدائي ليستقيم بدون معرفة يليها تخطيط.

ملء القوقعة، والخروج للعمل العلني

بعد 1967 وهزيمة (ما سمي نكسة حرب 5 جوان) انحلت منظمة التحرير كما أرادها عبد الناصر، والأنظمة العربية، لتكون أداة في أيديهم لا في يد أصحاب الحق وأصحاب القضية أي الفلسطينيين، وذهب أحمد الشقيري بكل جعجعته وقلة نجاعته في تنظيم المقاومة وتفعيلها، وملأت «فتح» كقوة فلسطينية ضاربة ومعها أو حولها الفصائل الأخرى، قوقعة فارغة، باتت بعد ذلك معبرة بصدق عن الإرادة الفلسطينية في أجلى مظاهرها، اعتمادا على تنظيـم ديمقراطي.رمنظمة التحرير، باتت هي والتنظيم القائد  «فتح» تحت الضوء، وخـرج الثوار من السرية إلى العلن، معلنين عن أنفسهم وأهدافهم، ورشحت «فتح» فاروق القدومي ليكون أحد رواد العمل العلني، وكلفتـه منظمة التحـرير ليكون رئيسا للدائرة السيـاسية، ما يوازي وزيرا للخارجية.

طبيعة العمل الدولي لمنظمة التحرير ولماذا أسند للقدومي

لم يكن ذلك الاختيار صدفة، بل كان عملا مدروسا سواء لطبيعة المهام الموكولة، أو لطبيعـة مــن يتولاها. كان الموقع معبرا عن «فتح» قائدة الكفاح المسلح والأولى التي دخلته، والأكبر بعيدا بعيدا بين الفصائل الأخرى، ولكن كان أيضا التعبير المقبول عند الفصائل الأخرى، على اعتبار أن من يتولاه لا بد أن يكون مقبولا من الجميع. وكـان الاختيار عليه قائما على جملة خصـال توفــرت في الرجل، الذي كان احتل مساحة واسعة سواء في  «فتح» أو في بقيـة الفصائل القائمة آنذاك، ومنهــا القـدرة الكبيـرة على المفــاوضة والإقنـاع، سـواء داخليا بين الفلسطينيين أنفسهـم، أو مع  الجهـات الخـارجية التـي بـدأت المقـاومة الفلسطينية تتعامل معها في الظل، باعتبار اعتراف واقعي (وليس قانونيا) غير معلن. وبدا واضحا أنه الأقدر على التحرك السري والدبلومــاسي في الخفـاء.

لمن آلت المخابرات الفلسطينية؟

ترك العمل المخابراتي للرجل الثاني في فتح صلاح خلف (أبو إياد) الذي سنراه يتقنه، بل ويحقق عن طريقه اختراقات في اتجاهات متعددة، مع الفرنسيين أولا ومع الألمان وأيضا وللغرابة مع الأمريكان من وراء ستار، وسيكون ذلك الاختراق عونا كبيرا لفاروق القدومي كوزير للخارجية، له اتصالات قدمت خدمات جلى للقضية الفلسطينية. واجتمعت لأبي اللطف مزايا كبيرة تبدأ من دماثة الأخلاق، وتصل إلى قدرة كبيرة على الإقناع وإن لزم المناورة، وتنتهي عند اقتناص الفرص للتعرف على الكبار عبر العالم، والتحدث إليهم دون إحراجهم، قبل أن تنضج معهم مراحل الخروج للعلن، رجل ثقة كما تم وصفه من قبل وزير خارجية دولة كبرى.

أحداث مؤثرة

مر من حدثين اثنين كان يمكن لأي منهما أن يفقد المرء ثقته بنفسه وثقته بقضيته. ففيما عدا النكبة وترك الديار في 1948 والانكفاء إلى الضفة الغربية، وإلى نابلس بالذات وهي قمة الأرستقراطية الفلسطينية، ومنها تزوج من أحد أكبر البيوتات كما يقال هناك، عرف فاروق القدومي حدثين، كان كل منهما كفيل بأن يهز أي شخص،  لولا إيمان غير محدود بعدالة القضية التي نذر نفسه لها، منذ أن كان في القاهرة في منتصف الخمسينات:

ففي سنة 1970 وبمناسبة حرب الملك الأردني على الفلسطينيين في سبتمبر الأسـود، دخل السجن ولم يخرج منه هو وآخرين في القيادة الفلسطينية، إلا بعد الوعد بمغــادرة البلاد، وتم تشتيت القـوة الفلسطينية الوليدة.

وفي سنة 1982 شهد الوضع نفسه في بيروت تحت ضغط غزو إسرائيلي كاسح، أخرج المقاومة من العاصمة اللبنانية إلى تونس، التي آوت قبل سنتين أو نحوها مقر جامعة الدول العربية. جرحان عميقان، لم يخفف منهما إلا أمر في غاية الأهمية، وهو أن قضية فلسطين، أصبحت قابلة للخدمـة مـن أي مكان، بعد اعتراف دولي قانـوني أو واقعي، جعلـهـا مطروحة في كل المحافل، بما فيها الأمم المتحدة، وأصبح معها القادة  الفلسطينيون يُستقبَلـون في كل العاصم وتــرسل إليهم البعثات، ويعتمـد لـديهم السفراء.

وإذ تجاوز القدومي الجرحين، فإن جرحا آخرا بقيا غائرا، وما يقال بإلحاح إن القدومي وبحنين طاغ للأرض التي ولد فيها، قد يأتي يوم قريب يعود فيه إلى فلسطين ليعانق تربتها الطيبة. ويدفن في أحضانها.

عبد اللّطيف الفراتي

 

إقرأ المزيد
دور فاروق القدومي "أبو اللطف" على رأس الدبلوماسية الفلسطينية
فاروق القدومي "أبو اللطف" : المشاكس الذي لا يمكن الاستغناء عنه
فاروق القدومي "أبو اللطف": رؤساء وملوك عرفتهم
الثائر الفلسطيني فاروق القدومي "أبو اللطف" ‬في‭ ‬حديث‭ ‬الفعل‭ ‬والذكريات لمجلة ليدرز العربية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.