أخبار - 2025.10.02

التجربة الصحفية للأستاذ صلاح الدين الجورشي في مذكراته أقواس من حياتي

التجربة الصحفية للأستاذ صلاح الدين الجورشي في مذكراته أقواس من حياتي

بقلم المهدي الجندوبي - الحضور المباشر للصحافة في مذكرات الأستاذ صلاح الدين الجورشي التي صدرت تحت عنوان أقواس من حياتي، شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر (الدار المتوسطية للنشر 2025)، يقتصر على الباب الرابع من ضمن تسعة أبواب، تحت عنوان "الصدفة جعلت منه صحفيا محترفا" واشتمل هذا الباب على 16 صفحة. كما وردت في صفحات أخرى توزعت على أكثر من فصل حوالي 16 صفحة أخرى تخص جوانب من التجربة الصحفية والإعلامية للكاتب، وهكذا يبلغ العدد الجملي من الصفحات التي تناولت هذا الموضوع تقريبا 32 صفحة من مذكرات جاءت في 518 ص.

المشهد الإعلامي التونسي في سبعينات القرن الماضي

يرى الأستاذ العربي شويخة في كتابه Médias tunisiens le long chemin de l’émancipation 1956/2023، نشر نيرفانا (2024)، أن السمة الغالبة في الإعلام التونسي بعد الاستقلال تتمثّل في "دولنة الاعلام" Étatisation de l’information من ناحية وفترات "انفراج" Embellies نتيجة ضغوطات وأزمات تتعرّض لها السلطة فتلجأ إلى الانفتاح على القوى السياسية والاجتماعية لترميم شرعيتها قبل أن تنغلق مجددا.

في الحقبة التي دخل فيها الأستاذ صلاح الدين الجورشي عالم الصحافة وهي نهاية السبعينات من القرن العشرين، كانت الصحافة تمارس ضمن مؤسسات رسمية أو حكومية مثل الإذاعة والتلفزة ووكالة تونس افريقيا للأنباء وجريدة لابريس وجرائد الحزب الحاكم العمل ولاكسيون ثم الحرية ولورونوفو وان كانت غير حكومية في ملكيتها لكنها تحريريا في انسجام مع بقية الوسائل الحكومية. واقتصرت الجرائد الخاصة في البداية على جريدة الصباح ثم توسعت مع مجموعة أخرى من العناوين مثل الأنوار والشروق وغيرها ومن الناحية التحريرية لا تختلف كثيرا الجرائد الخاصة عن خط المساندة للسلطة مع بعض الاجتهادات والخصوصيات.  

إذا كانت الصحافة الرسمية أو شبه الرسمية هي المهيمنة في الظاهر في السبعينات وبعدها فإن هذه الصحافة كانت تواجه بعض التحدّيات منها: 

نشأة نفس احتجاجي تصاعدي في الأوساط المهنية والمطالبة بأكثر استقلالية وسينعكس ذلك على جمعية الصحفيين التي ستتغير قيادتها نحو نفس أكثر استقلالية على إثر انتخابات سنة 1977.

بينت دراسات احصائية رسمية منذ مطلع السبعينات، ضمن كتابة الدولة للأخبار أن الصحف الرسمية والحزبية قليلة الانتشار.

تطوّر الحركة الديمقراطية في تونس وتحوّل موضوع حرية التعبير وحرية الصحافة إلى مطلب جماعي لكل المعارضين.

بصفة موازية لهذا الإعلام الحكومي وشبه الحكومي المهيمن والمتأزّم، عرفت نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات تجارب صحفية أكثر استقلالية منها جريدة الشعب الأسبوعية الناطقة باسم الاتحاد العام التونسي للشغل وجريدة الرأي التي أصدرها الوزير السابق حسيب بن عمار  وبعض العناوين الأخرى مثل المغرب التي أسسها عمر صحابو ومجلة حقائق (المنصف بن مراد والطيب الزهار) والطريق الجديد التي أصدرها الحزب الشيوعي والموقف (التجمّع الديمقراطي التقدمي بقيادة الأستاذ أحمد نجيب الشابي) وضمن التيار الاسلامي ظهرت عناوين مثل المعرفة والحبيب.

هذه الجرائد نشأت بإمكانيات مادية محدودة وبعدد قليل جدا من الصحفيين المتفرّغين لكنها كانت تحظى بتعاون نخبة من المثقفين وجدوا فيها متنفسا وساهموا في أغلب الأحيان بصفة تطوّعية في مدّها بالمقالات التي كانت تتميّز بنفسها النقدي وبمواضيعها التي يصعب نشرها في الإعلام الرسمي. ويمكن أن نصفها بانها صحافة هامشية، لكنها أدخلت تطوّرا نوعيا وانفتحت أكثر على الواقع الاجتماعي والسياسي بينما بقيت وسائل الإعلام الحكومية بحكم التقاليد والرقابة تحت سطوة الإعلام الدعائي والبروتوكولي وعزلت نفسها عن الجمهور.

انتمى صلاح الجورشي في مختلف المراحل المهنية التي مرّ بها إلى هذه البيئة الإعلامية الهامشية. لكن من مفارقات التاريخ أن هذه الصحافة الهامشية وهذه الإمكانيات المحدودة هي التي احتضنت وأنضجت الفكر السياسي التونسي الذي ستسمح له الثورة بالوصول إلى السلطة أو التأثير فيها.

يجب استكمال هذه الصورة السطحية والمتسرّعة للمشهد الإعلامي بمعطيات حول ديموغرافيا المهنة الصحفية. كان عدد الصحفيين محدودا وكانت السّلطة المشغّل الرئيسي لمن يمتهنون مهنة الصحافة. نظريا يمكن أن نعتبر أن النشاط الصحفي في تونس انطلق مع تأسيس جريدة الرائد التونسي في 1860، لكن في الواقع هذا التاريخ يبقى رمزيا، لأن قاعدة المهنيين المتفرغين للعمل الصحفي ستبقى منحصرة إذ يذكر د. مصطفى مصمودي في كتابه Économie de l’information en Tunisie أن عدد الصحفيين مطلع السبعينات أي تقريبا قرن بعد صدور أول جريدة تونسية، في الصحافة المكتوبة هو 220 مع إضافة من يعملون في الإذاعة الوطنية وفي وكالة وات.

ويذكر الأستاذان فتحي الهويدي ورضا النجار في كتابهما Presse Radio et Télévision en Tunisie، استنادا إلى كتابة الدولة للإعلام أن عدد الصحفيين حاملي البطاقة المهنية هو 279 سنة 1977. واليوم آخر ما قرأته دراسة إحصائية نشرها الصحفي منوبي المروكي في كتاب جماعي تحت اشراف الأستاذ عبد الكريم الحيزاوي (حق المواطن في الإعلام أساس الحقوق والحريات الإعلامية، نشر مركز تطوير الإعلام سنة 2024)، أن عدد الصحفيين الحاملين لبطاقة صحفي محترف سنة 2022، بلغ 1861 صحفيا (ص 249).

بعض ملامح وخصائص تجربة الجورشي الصحفية

سأتوقّف عند 4 نقاط شدّت انتباهي:

الكتابة في تجربة الجورشي
الهشاشة الوظيفية وعدم الاستقرار المهني
نقلات نوعية يمر بها الصحفي الشاب في اتجاه إنضاج التجربة المهنية
أسلوب الجورشي بعد الثورة

الكتابة بين الهواية والمتعة وضغط الرقيب الداخلي والخارجي

أدرج الجورشي أكثر من مرّة ملاحظات حول علاقته بالكتابة، فهي عشق ومتعة وهي عنصر قوّة قد لا تدرك وقعه سنوات عديدة بعد النشر وهي كذلك من فتح له باب الصحافة، لكنها تحوّلت إلى معاناة مع مطلع التسعينات عندما أصبح المخاطب الأول هو الرقيب.

يقول الجورشي متحدّثا عن البدايات "كنت عاشقا للمطالعة والكتابة منذ المرحلة الأولى من التعليم الثانوي، أوّل ما نشر لي كان بصحيفة الصباح... كانت رسالة قصيرة نشرت بركن القرّاء"(ص: 193).

"في يوم من الأيام وجّهت رسالة إلى عبد القادر الجديدي الذي توطّدت علاقتنا بعد أن أصبح أحد الكوادر النشيطة داخل الجماعة. عندما اطّلع أحميدة النيفر على نص الرسالة أعجب بأسلوبها ومضمونها، وقام بنشرها بمجلّة المعرفة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الكتابة عندي عادة يومية مثل الهواء الذي أستنشقه" (ص: 193).

عند الجورشي الكتابة هي هواية قديمة وهي مفتاح سمح له بدخول عالم الصحافة، لكنها أيضا قوّة كامنة لا نعي دائما بمجال فعلها، إذ يقول "عندما نكتب قد لا ندرك ما الذي يمكن أن تفعله الكلمات. تكتب في تونس ولكنك قد تساهم في تحويل حياة إنسان أو جماعة في أقصى الأرض، وحتى بعد مماتك" (ص: 194).

يذكر الكاتب أول مقال نشر له في الرأي وكيف تم الإعجاب بالمقال ونشره في آخر صفحة وهو مكان مميّز لأنه الوجه الثاني لكل جريدة. "من يومها بدأت مسيرتي المهنية الحقيقية. فالكتابة قبل ذلك التاريخ بصحيفة المعرفة كانت ايديولوجية بامتياز، لا تخضع بالضرورة لقواعد المهنة الصحفية، خاصة من حيث الموضوعية والتحري في مصادر الخبر واتخاذ المساحة الضرورية من الأحداث" (ص: 196).

لكن الكتابة الصحفية تخضع أيضا لضغوط خارجية بلغت أوجها في مرحلة التسعينات. تحت عنوان فرعي "القفز فوق الألغام" يقول الكاتب "مع كل خطوة أخطوها كنت أشعر أن المساحة التي أتحرّك داخلها تضيق شيئا فشيئا، وتصبح ممارسة المهنة أكثر صعوبة. فكلما كتبت مقالا أشعر بأني أنحت في الصّخر. كانت عيون الرقيب تلاحقني، تخترقني وتعدّ أنفاسي وتقبض بشدّة على حريتي وأفكاري بشكل لا يطاق. لقد سيطر على الصحفيين غول الرقابة الذاتية بشكل غير مسبوق، حتى أصبح الجميع رقباء على ما يكتبون وينطقون" (ص: 302).

وإن كانت الكتابة من أكثر النشاطات ارتباطا بعقل وروح الكاتب، وان كانت الكتابة أهم مقوّم من مقوّمات الهويّة الصحفية، فقد تفقدها الضغوط الخارجية كلّ نكهتها وتنحرف بها عن وظيفتها الأصلية وقد تصل بعض الممارسات إلى إلغاء الكاتب الفرد وتعويضه بالكاتب البيروقراطي عندما تعرض نصوص جاهزة للنشر أو بتوقيع مزيّف.

قول الجورشي "كان أمامي خياران لا ثالث لهما. إما أن استسلم وأسير في ركب الذين فقدوا كل شيء، وأصبحوا أشبه بالهائمين على وجوههم، يكتبون نصوصا لا طعم لها ولا رائحة أو كآخرين تحوّلوا إلى أشباه صحفيين يتعاملون ككتبة تحت وصاية أجهزة السلطة، يسلّمونها مقالاتهم لمراجعتها في وزارة الداخلية أو في وكالة الاتصال الخارجي، أو يطلب منهم التوقيع فقط على نصوص تعرض عليهم، أو السير على منوالها سواء مدحا للسلطان أو هجاء لخصومه". (ص:303).

من انحرافات الضغوط الخارجية على الكتابة كسر العلاقة المميّزة والمباشرة بين الصحفي والجمهور وهي علاقة حاضرة بقوّة في المخيال المهني عالميا، لأن الصحفي يجبر على التفكير في الرقيب قبل الجمهور. يقول الجورشي "الخيار الثاني الذي كان متاحا لي في تلك الظروف فهو اللجوء إلى المناورة في أسلوب الكتابة، وأن أسعى إلى تمرير أفكاري بطرق ملتوية حتى لا يتفطّن لمراميها الرقيب. لم يكن هذا الاختيار هينا كما يعتقد البعض. إذ عليك قبل الشروع في الكتابة أن تحسن اختيار الموضوع المناسب. وهذا في حدّ ذاته عملية شاقة في مرحلة جفّت فيها الأقلام وصودرت كل القضايا من قبل الدولة... بعد ذلك عليك البحث عن المنهج والمدخل والأسلوب والعبارات المناسبة حتى لا يلقى عليك القبض وأنت في حالة تلبّس. مع العلم أن الناطق باسم رئاسة الجمهورية لم يكن الوحيد الذي يجب أن تقرأ له ألف حساب، وإنما إلى جانبه جيش من الإعلاميين زملاء لك في نفس المؤسسة أو غيرهم ممّن يتابعون ما تكتب". (ص:303).

هشاشة وعدم استقرار وظيفي في أكثر من مرّة

في كل محطة وفي كل مؤسسة إعلامية يعمل بها الجورشي تكون النهاية إقالة وإحالة على البطالة أو غلق الجريدة نهائيا وهي وضعية مشتركة لهذه المؤسسات الصحفية التي تعمل ضمن هامش غير واضح الحدود، تسمح به السلطة ظرفيا. تعرّض الجورشي إلى إقالة من مجلّة المعرفة، وبطالة متكررة نتيجة محاكمات الرأي وإقالة ثانية في مجلة حقائق نتيجة ضغوط السلطة على إدارة المجلّة وكان قد التحق بمجلة حقائق بعد غلق جريدة المغرب لضغوطات تعرّض لها صاحبها عمر صحابو.

يقول الكاتب "أذكر ذلك اليوم الذي توجّهت فيه إلى مقرّ صحيفة الرأي، نهج يوغسلافيا البناية رقم 118. كنت يومها في حاجة إلى مواصلة المهنة التي اخترتها لنفسي، بعد قرار قيادة الجماعة حذف اسمي من مجلة المعرفة ودفعت بي نحو البطالة، بعد أن قدّرت أن كتاباتي لم تعد منسجمة مع فكرة الحركة وخطّها التحريري" (ص 195). (استقال حميدة النيفر من رئاسة التحرير وعوّضه الجورشي لفترة قبل إقالته).

في جريدة الرأي هشاشة من نوع آخر بحكم الضغوط المسلّطة على الجريدة، يقول الجورشي "عانت صحيفة الرأي كثيرا من الملاحقات الأمنية والقضائية. تصدر الصحيفة دائما لبضعة أشهر قبل أن تتعرّض للإيقاف والحجز بحجة نشرها لخبر أو مقال اعتبرته السلطة زائفا أو مهددا للأمن العام. ومع كل قضية ترفع ضد الجريدة يحمل حسيب بن عمار أوراقه ليمثل أمام القضاء، في حين يحال الصحافيون وأنا منهم على البطالة في انتظار صفّارة الحكم باستئناف المباراة، وهكذا دواليك". (ص: 196). وتنتهي تجربة الرأي، بقرار صاحبها بإيقاف الجريدة بعد أن تم منع صدور أول عدد لها بعد مسك الرئيس بن على بالسلطة في 7 نوفمبر 1987، بسبب مقال لأم زياد (الأستاذة نزيهة رجيبة).

كذلك يتعرض الجورشي للفصل من مجلة حقائق/ ريالتي، وتم توثيق هذا الفصل ضمن ملاحق تقرير الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام (2012)، التي أورت قائمة الصحفيين المفصولين تعسفا وذكر اسم صلاح الدين الجورشي.

يذكر الجورشي ملابسات إقالته من مجلة حقائق/ريالتي بعد تعرّض مديرها إلى ضغط رئاسي إثر اجتماع بن علي مع مديري المؤسسات الإعلامية سنة 1996، حمّلهم مسؤولية "أزمة القطاع ورداءة الإعلام". قال المدير في جلسة جمعته بالجورشي "إن بن علي أشعره بأن هناك قلما مسموما بمجلة حقائق وأن عليه كمالك للمجلّة أن يتحمّل مسؤوليته إذا أراد أن يستمرّ مشروعه... و أن القسم العربي يكاد يصبح مجلة منفصلة ومستقلّة في سياستها عن القسم الفرنسي". ويواصل الجورشي "وبما أني أتحمّل رئاسة تحرير القسم العربي وأني صاحب "القلم المسموم" الذي قصده رئيس الدولة، طلب مني السيد المدير بأن أنسحب من المؤسسة بهدوء ودون إعلام أحد، وعندما أسال عن أسباب توقفي عن الكتابة أجيب "أنا متفرّغ لتأليف كتاب" (ص: 304).

من إقالة إلى إقالة ومن مجلة المعرفة إلى الرأي إلى المغرب إلى حقائق/ريالتي ضاق هامش التحرّك ويجد صلاح الدين الجورشي نفسه فعليا في وضعية من هو ممنوع عن الكتابة. يقول الجورشي "كان قرار الطرد في ذلك التوقيت بمثابة الإعلان عن منعي من الكتابة في تونس لأن من يغادر صحيفة ما لأسباب سياسية لن يطمع في أن تقبل مؤسسة أخرى التعامل معه. قانون اللعبة يومها كان واضحا، إذا طرد صحفي من أي مؤسسة، عليه أن يرمي المنديل ويختفي نهائيا من المشهد"... (ص: 304).

"هكذا ظللت حوالي أربعة عشر عاما قبل الثورة ممنوعا من الكتابة في كل الصحف التونسية. أنشر مقالاتي فقط خارج حدود الوطن. لا يوجد أمر أكثر قسوة على الصحفي من أن يجد نفسه ممنوعا من الكتابة ولاجئا داخل بلده". (ص: 305).

نقلات نوعية يمر بها الصحفي الشاب في اتجاه انضاج التجربة المهنية

عرفت التجربة الصحفية للجورشي عدة نقلات نوعية ولعلّها الوجه الإيجابي لعدم الاستقرار الوظيفي الذي أجبره على الانتقال من مؤسسة صحفية إلى أخرى والتّأقلم مع الثقافة الخاصةّ بكل مؤسسة وأهم هذه النقلات التحوّل من الكتابة المناضلة والتوجّه إلى جمهور محدود ضمن خيار ايديولوجي إلى كتابة أكثر حرفية والتوجّه إلى جمهور أكثر اتساعا وتنوّعا.

تحدّث الجورشي عن نقلة أولى ضمن مجلة المعرفة من كتابة "حماسية" إلى كتابة "نقدية" ضمن المدرسة الإسلامية، ويقول "مرّت كتاباتي بمجلّة المعرفة بمحطّتين، في الأولى كانت مقالاتي مشحونة بنبرة أيديولوجية قوية ودعوية في أحيان كثيرة، وذلك بحكم انتمائي العاطفي والحماسي للخطاب الديني ذي النزعة القطعية والمتعالي عن الواقع وعن العقل أحيانا". (ص:202). ويذكر الكاتب رأيا نشره في العدد الثاني من السنة الثانية سنة 1974، "تحت عنوان "أزمة النقل في تونس" وتمثّل الاقتراح في تخصيص حافلات للنساء وأخرى للرجال" ويقول "كانت فكرة مراهقة من يافع لم يدرك بعد تعقّد الحياة المعاصرة وأن العلاقة بين الجنسين لا يمكن إخضاعها لمنطق الفصل". ويواصل "ورغم أن المقال مرّ على نشره أكثر من أربعين عاما لا يزال البعض يستندون عليه لإثبات أن كاتبه موغل في الرجعية، ولا يمتّ للحداثة بصلة". (ص: 68).

"أما في المرحلة الثانية فتأثرت كتاباتي بتصاعد الحيرة الفكرية والحركية داخل الجماعة وهو ما جعلني أميل إلى الكتابة الفكرية النّقدية". (ص:202).

وشهدت التجربة الصحفية للكاتب نقلة جوهرية في اتجاه أكثر مهنية صحفية، عند التحوّل إلى جريدة الرأي. يقول "انتقلت من الدائرة الحزبية الضيقة إلى الساحة الوطنية العريضة التي كانت يومها تعيش تحت وقع بداية مخاض ثري وصعب من أجل المطالبة بالحريات الأساسية والديمقراطية. من خلال صحيفة الرأي بدأت أرى المشهد بمنظور جديد وعيون ناقدة ورغبة متحفّزة للمشاركة في تغيير له نكهة ديمقراطية" (ص:196).

ويواصل "كان التحافي بصحيفة الرأي نقلة نوعية في مسيرتي المهنية وفي ثقافتي السياسية. فمجلة المعرفة التي بدأت فيها خطواتي الأولى نحو اكتساب القدرة على الكتابة كانت أقرب إلى الصحيفة الحزبية، هدفها التبشير بالدعوة، والدفاع عن جماعة في حالة تشكّل". (ص:201).

"اختلفت التجربة والقراء مع الرأي، حيث أخذ قلمي يقترب شيئا فشيئا من قواعد المهنة الصحفية وأصبحت أحترم المسافة الضرورية تجاه الأحداث والأشخاص والمؤسسات. كما شرعت في اكتساب قدر من "الموضوعية" التي تحترم عقول القراء، وتجنب الالتفاف عليهم بهدف جرّهم إلى طريق ما أو اختيار أيديولوجي وحزبي يكون سابقا عن الكتابة ويتسلل إليها بطرق عديدة بحثا عن التأثير في الآخرين والعمل على استقطابهم". (ص: 203).

وضمن هذا الإنضاج المهني يذكر الكاتب كيف نشر كلاما لمسؤول عن إدارة الشعائر الدينية بالوزارة الأولى، الشيخ كمال التارزي ولم يلتزم بقاعدة مهنية تعرف بالإنجليزية "أف ذي ريكورد" وهو كلام يقوله المصدر للصحفي ولا يسمح بنشره. يقول الكاتب "كل صحفي في بداية عمله يجتهد، ويرتكب أحيانا أخطاء ومن تلك الأخطاء يكتسب التجربة، ويصحّح مساره المهني تدريجيا". ويواصل الكاتب "من بين الأسئلة... سؤال يتعلّق بتقييم الشيخ لأداء أئمّة المساجد. مدحهم وشكر جهودهم، لكنه خارج التسجيل قال العكس تماما، حيث انتقد ضعف مستواهم إلا من رحم ربّك". ويواصل الجورشي "عاد الفتى إلى المكتب، وأفرغ الشريط بشكل حرفي. وعندما وصل إلى السؤال المتعلّق بالأئمّة، لم يكتف بما أملاه الشيخ، وإنما أضاف إليه تقييمه الحقيقي الذي أعلمه به شخصيا. صدر الحوار وانتفض الرّجل، واضطرّ الفتى إلى نشر تعقيب الشيخ، لكن بعد فوات الأوان". (ص: 69).

"الكلمة المسؤولة" بعد الثورة

ضمن الفصل الثامن الذي جاء تحت عنوان "الثورة المتعثّرة" خصًص الجورشي بعض الورقات لتجربته الإعلامية بعد الثورة وضع لها عنوانا فرعيا، تجربتي الإعلامية بعد الثورة: "الكلمة المسؤولة". على ضوء ما جاء في هذه الورقات يمكن أن نستخرج ثلاثة عناصر شغلت الكاتب ورسمت طريقه أثناء هذه الفترة التي فتحت فيها له أبواب المؤسسات الإعلامية الإذاعية والتلفزية بكثافة، وهي المحافظة على الاستقلالية والحذر من التوظيف والتمسّك بالهدوء والاعتدال.

في مرحلة تداخلت فيها الصحافة والسياسة وسيطر فيها الصراع على السلطة، يقول الجورشي أنه اختار الاستقلالية: "سرعان ما وقعت تجربة الإعلام الحر والمندفع دون أن تحكمه قيود مهنية منضبطة في مطبات عديدة، ووجد الإعلام نفسه ملوّنا بواقع سياسي مضطرب ومريض... انطلق الصراخ والضجيج وتبادل التهم واستعراض قوة الإقناع والتمويه والمراوغة من أجل كسب الجمهور، مقابل التقليل من قيمة الخصوم والمنافسين... اتبعت منهجا صعبا حين حاولت أن أكون مستقلا عن الجميع... ولا أنخرط في صراع المتنازعين على السلطة." (ص: 344).

وبصفة موازية لحرصه على الاستقلالية يقول الجورشي أنه كان يحذر من التوظيف: "وكنت أعلم أن بعض المؤسسات ألإعلامية فتحت لي أبوابها حتى يقال وشهد شاهد من أهلها. لكن مع ذلك قبلت المجازفة، لا بصفتي ناقدا دائما للنهضة، ولكن كمراقب محايد لما يجري في بلادي خلال مرحلة حرجة وصعبة". (ص: 349).

ويقول أيضا "تعامل معي الماسكون بالمؤسسات الإعلامية بطرق ملتوية وسياسوية في عديد الحالات. كان معظمهم يحتاجون بعد الثورة إلى صوت من داخل الفضاء الإسلامي يكون ناقدا لحركة النهضة عندما كانت في أوج قوّتها. وظن هؤلاء بأني الشخص المناسب للقيام بهذه المهمة. والأكيد أنهم مخطؤون في ذلك". (ص: 349).

يصف الكاتب حرصه على التمسّك بالهدوء أثناء الحوارات التي دعي إليها: "وهادئا في مداخلاتي، لا أنساق وراء تشنّج البعض... كنت واعيا بأن للكاميرا تأثيرا رهيبا على المشاهدين، تنقل بدقة تفاعلات الوجه وتفاصيل الحركة، فإن كنت هادئا يشعر مشاهدوك بالاطمئنان ويفهمون أفكارك وحتى نواياك... (ص 343). "حاولت باستمرار تهدئة الأجواء الصاخبة أحيانا حتى داخل الاستديو، وأعمل على إعادة النقاش إلى وضعه الطبيعي. كنت بمثابة رجل المطافئ، الذي يعمل على إخماد الحرائق المتجددة. وهو دور حبّذه الكثير من المواطنين، خاصة في لحظات القلق الشديد الذي انتابهم خلال السنوات الأولى التي عقبت الثورة. بدا لهم أن بلادهم مهددة بالانهيار والإفلاس والانتقال إلى ساحة حرب مفتوحة. (ص: 344).

"في تلك الأجواء كان جزء من الصحفيين يبحثون عن كل ما من شأنه الترفيع في نسب المشاهدة والاستماع ولو على حساب الموضوعية والمصلحة الوطنية. وأصبح النجاح يقاس بالقدرة على رفع الأصوات، وتغذية الصراعات، وتنمية الأحقاد، وإثارة الخلافات بين الأطراف والضيوف، والرفع من حجم السباب والاتهامات المتبادلة"... (ص: 345).

"فهم الكثير من التونسيين مضمون هذه الرسالة، وتفاعلوا معها إيجابيا، ومنهم من أكّد لي بكونه يشعر بشيء من الاطمئنان عند الاستماع إلى مثل هذا الخطاب"... (ص 354).

ويصف الجورشي أسلوبه في الاعتدال: "لم أدّع امتلاك الحقيقة، كنت دائما أبحث عن الحل الوسط...أبدأ حديثي مع أي شخص أحاوره بالقول: أنت مصيب في جزء مما تقوله، لكن أخالفك في البقية. لا أفعل ذلك من باب المراوغة، ولكن اعتقادا أن محاوري يملك فعلا قدرا من الصواب، وما على سوى أن أكمّل له بقية الصورة عسى أن يعدّل من موقفه الجازم...هذا ليس أسلوبا فقط في الحوار، ولكنه أيضا ثقافة ومنهج عقلاني وأخلاقي يضفي النسبية على الآراء المطروحة، وقد يخلق ديناميكية من شأنها أن تساعد على تحقيق التفاهم وحسن إدارة الخلاف". (ص 344).

في الحقل الصحفي انتقل سي صلاح من مجلّة المعرفة ذات الطابع الايديولوجي ألإسلامي ثم "الرأي" التي نجح سي حسيب بن عمار أن يجعل منها ملتقى النخبة السياسية بمختلف توجّهاتها مع نهاية السبعينات وعلى طوال عشرة سنوات، ثم إلي مجلة المغرب ثم حقائق التي أشرف في كل واحدة منهما على القسم العربي وتعاون مع مجموعة من الجرائد والمجلات العربية. وباستثناء الصحافة العربية فكل التجارب التونسية رغم أهميتها الرمزية، كانت تكاد تكون على هامش النظام الإعلامي الرسمي المهيمن وتتميّز بهشاشة وعدم استقرار وقلّة الإمكانيات ولا يصمد فيها سوى من كان له شغف استثنائي بهذه المهنة. أن يصنع الجورشي مسارا مهنيا بحجم ما وصل إليه في مثل هذه البيئة لا يمكن ألاّ أن يجعله يحظى بتقدير فائق لكل من يعرف حجم الرهانات وأتعاب «مهنة المتاعب» في الظرف التونسي.

عندي ميل لا أعلم هل سيكون مقنعا لغيري، أن أربط بين تجربة سي صلاح الدين الجورشي الصحفية وتجارب أخرى قليلة لشخصيات مختلفة عنه في انتمائها الفكري والسياسي مثل سي الهاشمي الطرودي (جريدة الشعب ثم المغرب) وسي رشيد خشانة (جريدة الموقف وجرائد عربية) وسي أحمد حاذق العرف (الشعب وغيرها من الجرائد). دخلوا الصحافة من بوابة النضال السياسي والايديولوجي وهي تجربة منتشرة في تاريخ الصحافة التونسية منذ الفترة الاستعمارية لأن العلاقة بديهية بين الصحافة والرغبة في الفعل السياسي والاجتماعي، لكن هذا الانخراط عادة ما يكون ظرفيا ويغادر المناضلون الصحافة للالتحاق بمهن أخرى مثل المحاماة والتعليم وتحمّل مسؤوليات في الدولة. أما ثلاثتهم الجورشي والطرودي وخشانة والعرف مع قلة غيرهم، قرّروا البقاء في عالم الورق والمطابع، وتعلّموا على جمرات الميدان قواعد المهنة ومنحوها ما يلزم من الجهد والاجتهاد والتواضع والصبر، وأظنها لم تخيّب مسعاهم لأنها سمحت لهم ببناء مسار حرفي، كل في طريقه وبأسلوبه وخياراته، لكن يجمع بينهم ما ناله كل واحد من احترام الزملاء وفرص الارتقاء إلى المواقع القيادية في هيئات التحرير التي انتموا إليها، وأربعتهم لا تحتاج أن تشاطرهم مواقفهم وخياراتهم، لتستفيد من متابعة كتاباتهم.

مذكرات الجورشي، رسالة إيجابية إلى الشباب تشرح كيف يمكن أن تصنع طموحك الاجتماعي والمهني انطلاقا من إمكانيات بسيطة وكيف تحقق مسارا مهنيا مشرّفا ومستقلاّ في بيئة إعلامية خانقة وظرف "مضطرب". هذا الكتاب يغرس الأمل في مرحلة يغلب عليها خطاب اليأس.

المهدي الجندوبي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.