عزّ الدّين المدني: المجتمع التّونسي والفنّ زمن الاستعمار

ممّا لا شكّ فيه أنّ الباحث الحرّ الأستاذ فاخـر الرّويسـي مؤلّف كتاب "مشاهير المطربين التّونسيين اليهود" الذي تعرّضنا له بالتعريف والنّقد في حلقات سابقة، أنّه قد تساءل: من هي الفنانة التونسية المُسلمة المُحترمة التي واجهت الجُمهور في السّنوات الأولى من القرن العشرين والى غاية القرن الماضي؟ الوثائق التاريخية لا تجيب على هذا التساؤل الصعب، اللّهم إلّا هناك وثائق أخرى على نُدرتها لم تبح بسرّها في هذا الموضوع لكي تُعلمنا بأنّ من النّساء المُسْلمات حاولت أن تكون فنّانة... ولكن لا شيء!
ومن المفارقات أن يُطرح هذا السّؤال الجوهري وهو المتعلّق ببداية الفنّ الموسيقي والغنائي التّونسي الذي تحترفه المرأة التّونسيّة المسلمة أمام جماهير الشعب في وضح اللّيل والنّهار! الفنّانة المحترمة موهبة بينما لم تتحرر المرأة بعد عصرئذ، وقد عرفنا تحرّرهنّ منذ السّنوات الخمسين الماضية من التقاليد السّلبية.
إلّا أنّ أستاذنا الباحث الحرّ لم يَفُتهُ أنّ شعب تونس قد اكتشفت المرأة الفنّانة المصريّة منذ مطلع القرن العشرين، تلك التي رافقت المخرج المسرحي السّوري-المصري سليمان قرداحي في جولته المسرحيّة الى تونس ومُدُنها الدّاخلية كَسُوسة وصفاقس والقيروان وبنزرت... لكن تلك الفنانة المصرية كانت مسيحيّة قبطيّة وزميلتها كانت مصريّة يهودية في نفس الفرقة (وكان يقال لها: الجوقة) المسرحيّة. ولكن رغم ذلك كانت الفنّانة المصرية تؤدي فنّها أمام الجمهور مثل الفنّان الرّجل سواء بسواء...
إنّ جميع معاني السّطور السّابقة انّما هي مُضمرة في فكر الباحث الحرّ المؤلّف وفي ثقافته التّونسيّة وضمن تأليفه هذا، وهي موجودة بالقوّة قبل نصّ مقدّمة الكتاب. وأستاذنا يتوسّم النّباهة والفطنة في القرّاء والنقاد وكذلك اطّلاعهم على التّاريخ الحديث لوطنهم. وهو يعلم علم اليقين بأنّ المجتمع التونسي يتركّب من أغلبيّة تونسيّة مسلمة ومن أقليّة تونسية يهودية كانت كلها جميعا على عهد الاستعمار تساكنها وتلتصق بها وتزاحمها جاليات أجنبية شبه مهيمنة: إيطالية ومالطية وأنڤليزية ويونانية فضلا عن فرنسية استعمارية، وكانت لتلك الجاليات الأوروبية بالإضافة إلى الأمريكية مسارح ونواد ووداديات وأماكن نُخبويّة حيث تبرز الفنانة الأجنبية سافرة تماما وهي تؤدّي مثل الرّجل فُنُونها الغنائيّة والموسيقيّة أو المسرحيّة أو الرّاقصة، وسٌفورها مضمونٍِ طبق العادات الاجتماعية الأوروبية المتّبعة منذ قرونٍ...
وإجمالا لا يُعنى الباحث الحرّ بدراسة ثقافة المطربين التّونسيّين المسلمين وخاصّة الفنّانات التّونسيّات المسلمات: كفتحية خيري وشافية رشدي وصليحة وفضيلة خيتمي وغيرهنّ...أنّ اليهوديّات كنّ معلّمات للفنّانات المسلمات أو مثالا أو بالأحرى نموذجا للمسلمات التي لم يكنّ تلميذات ولا تابعات ولا مقلّدات.
ذلك أن الفنّانات التّونسيّات اليهوديّات كان مصدرهنّ بالأغلب الأعمّ من أحوالهنّ ومثلهنّ الفنّانات الأوروبيّات نظرا لكون اليهود يتأقلمون في معظمهم بثقافات أخرى وعادات بعيدة عنهم كلّ البعد، فما أبعد اليهوديّة عن الثقافة الأوروبية الكاثوليكية وعن تقاليدها الحضاريّة حتى تأثروا بها وقلّدوها وانتسبوا لها وصاروا من مواطنيها! أمّا الفنانات اليهوديّات التّونسيّات فقد بقين تونسيّات حياة وعيشا وفنّا مثل أسرة حبيبة مسيكة مثلا... لكن حبيبة مسيكة لها سيرة شبه أوروبية في التمثيل مثلا!
يقصد باحثنا الحرّ في دراسته لحياة الفنّانة فتحية خيري ولفنّها أنّها انطلقت من غير ما انطلقت منه حبيبة مسيكة والفرق بينهما شاسع رغم وجوه التشابه في النشاط الفنّي: المسرح والتمثيل- الغناء والموسيقى- مرافقة كبار الفنانين للتعلّم- الاتصال المستمرّ بفنون الخارج – العمل الدؤوب والمثابر- اندفاع الإبداع نحو تجديد العمل الفنّي إلخ... إلاّ لكلّ فنّانة منهما مسلك وتصوّر ووجهة تقصدها، وهي وجهة ذاتيّة شخصيّة تختلف عن الوجهة الأخرى تماما وفي كافّة مكوّناتها، وقس على ذلك فيما يتعلّق بالثقافة والعادات والدّين.
إنّ أهمّية كتاب"مشاهير المطر بين التونسيين اليهود" يضيء مجال الفنّ التّونسي وتاريخه وأصوله الحديثة وفُرُوعه التي نُعاصرها في يومنا هذا وقد تستمرّ إلى المستقبل الآتي، ذلك بعقد المقارنات والوقوف على المصادر والمراجع الوثائقية والخبريّة ودراسة الأصول والبدايات مهما كان يكن...
والسؤال الأخير: هل كانت الفنّانة التّونسية المسلمة رائدة التحرّر النّسائي منذ الثلاثينات فعلا لا قولا فقط؟
ومن مزايا هذا الكتاب "مشاهير المطربين التونسيين اليهود" تأليف الباحث الحرّ الأستاذ فاخـر الرّويسـي أنه أثار مجموعة من المسائل المهمّة التي لم تعالج بعد حسب اطلاعنا في تاريخ تونس الثقافي والفنّي والاجتماعي خلال القرن العشرين وهي إفادة فكريّة لا تُنسى: ما هو دور الفنانات التونسيّات المتقدّم بسنوات على تحرير المرأة بشكل رسمي؟ ولماذا نُسبت إليهنّ الأخلاق السّلبيّة؟
عزّالدّين المدني
قراءة المزيد
عز الدين المدني - اللّقاء الوثيق بين الفنّ والسّياسة: هل أنجب وميض نجوم السّماء؟
عزالدين المدني: فتحية خيري لمحات من حياتها الإبداعية قبلة الشّعراء والملحّنين
عزالديـن المدنـي: هل ننســى فنّانينــــا وإبداعاتهــم؟ كَلَّا لا!
- اكتب تعليق
- تعليق