أخبار - 2025.05.07

عز الدين المدني - اللّقاء الوثيق بين الفنّ والسّياسة: هل أنجب وميض نجوم السّماء؟

عز الدين المدني - اللّقاء الوثيق بين الفنّ والسّياسة: هل أنجب وميض نجوم السّماء؟

لقد كانت الفنّانة المطربة فتحيّة خيري مضيافة لمعارفها ولأصدقائها ولمبدعي الكلمات والألحان والعزف، كانت مثقفة، ملمّة بفنّ الموسيقى فضلا عن فنّ المسرح مثلما اطّلعت عليه وعرفته ومارسته في مواسم مسرحيّة تونسيّة. كانت مهذّبة الأخلاق والمعاملات مع غيرها، بشُوشة في الوُجوه المعرُوفة وغير المعرُوفة، مُغرية الحديث، لطيفة المُجالسة والمُحاورة بلا عناد ولا وُثُوقيّة ولا تجريح للغيْر...
أليست كل هذه الشّمائل تغوي؟ وقد كانت يومها في عزّ الأنوثة وعزّ المطربين حتّى حسبها بعض الضّيوف المصريين أمّ كلثوم صوتا وغناءً وحضورًا يملأ الرّكح؟! فقيل لهم: بل هي فتحيّة خيري التّونسية ذات الغناء الذّهبي العالي!!

كانت واسعة الانتشار والشّهرة في تونس وخارج تونس ممّا جلب إليها وإلى فنّها التّقدير والاحترام من النّخبة وخاصّة من عامّة الشّعب... هذا ما حكاه الكاتب الباحث الحرّ فاخــر الرّويســي بين فصول كتابه عن فتحيّة خيْري، وبين سُطور الصّفحات، حكاه بدقّة وحذقٍ وإتقان.

كيف استرعت انتباه النّخبة لها؟ وكيف جلبت اهتمام رؤوس الموسيقى والشعر والأدب بهاّ وعلام كوّنت مجلسا فكريّا محارم المستوى الفنّي سواء كان حقيقيا أو بعضه بين بين كما يقال صوريّا وحقيقيا لم يضنّ عليها بشيء وإنّما دفعها إلى المزيد من الصّعود إلى الأعالي؟

كانت تفكّر في مصير تونس أيّام الاستعمار وفي السّياسات الوطنيّة المتّبعة في الكفاح. كانت موالية لسياسة الملك محمّد المنصف باشا بايْ وحزمه النّاهض الذي رفع رأس الشعب فألغى تقبيل أيدي السّادة في القيادة السّياسيّة والإدارية في جميع أرجاء الوطن، في جميع نواحي الجهات والمدن والقرى والمداشر، وألغى أن تقبّل الزّوجة يد زوجها، مثل هذا التقبيل من قبل الأنثى ليد الذّكر إنّما هو علامة واضحة أنّها أقلّ قيمة من زوجها، نعم قيمة وقدرًا ومسؤوليّة، وأنّها مثل الرّقيق محكوم عليها بالطّاعة والخُضُوع والاستسلام من إنسانيّتها الحرّة، فقد شاهدت خلال السّنوات الأخيرة مثل تلك العادة الاجتماعية الشنيعة أنّها مازالت سارية المفعول في بعض الأقطار العربيّة للأسف الشديد...

محمّد المنصف باشا الملك الشّهيد

كان محمّد المُنصف باشا بايْ ملكا ليس مثل جلّ مُلوك تونس السّابقين من السّلالة الحسينيّة الذين خدموا هذه البلاد وساسُوها بالحكمة والتطوّر والمناعة والرّفعة بين أقطار المغرب والمشرق والبحر الأبيض المتوسّط، فأذكر حمّودة باشا بايْ الحسيني وأحمد باشا باي الأوّل ومحمّد المنصف باشا باي الشّهيد وَهْوَ ملكه الشّعبي بأتمّ معنى هذا التعبير السّياسي. لقد شاهدته أيّام الحرب العالميّة الثانية الطّاحنة بين ألمانيا والمِحْور من جهة ومن جهة أخرى بين دُوَل الحُلفاء سنة 1943 وأنا طفل صغير. كان والدي رحمه الله يحملني على كتفيه مرّة وعلى ذراعه مرّة لكي أشاهد معه مُرور ركْب الملك محمّد المنصف باشا بايْ في الشّارع الرئيسي بضاحية حمّام الأنف حيث لجأ إليها مُعظم سكّان أرباض تونس العاصمة وأحيائها الشّعبية واعتصموا بها أعداد وافرة جدّا خشية الموت تحت قنابل الألمان والأنڤليز. وقد أُعلن يومها أنّ ضاحية حمّام الأنف حيث القصر الملكي وحوله مساكن عسكر العسّة المأمورين بحماية الباي والأمراء والوزراء والأعيان لن يصيبها مكروه من الحرب أيْ هي بلدة مفتوحة للأمان والسّلام. شاهدته راكبا كاليصًا- وهو عبارة عن مركبة خفيفة مريحة فاخرة- لا يتّسع الّا لشخصين اثنين فقط يجرّه حصان أبيض ناصع البياض ملكيّ الرّيشة والهيئة تخاله ذهبيّ الأعنّة والسّرج عسكريّ يسير ببطء وهدوء كأنّه سُنْبُكَيْه يوّقّعان واحدا بواحد أرض الشارع المبلّط بحجارة الضّرس. وإلى جانب الملك محمّد المنصف وخلفه شكايرْ مليئة لا بالڤرفالة بل بالخبز الأبيض النّاصع خبز السّميد ذي الشّكل المستدير كخبز الطّابونة، ذلك لأنّ الأهالي الذين كانوا يتحصّلون على خبزهم من نوع الكُشْكَارَة الأسود إلّا حسب التقسيط الحكومي اليَوْمي، ولربّما لا يتحصّلون على شيءٍ لطعامهم!
"الله يُنصرْ سِيدْنا" تضجّ بها جماهير الشّعب المتزاحمة على طرفي الشارع ضجّة واحدة، ومحمّد المنصف باشا بايْ يقدّم على عجل لا يُتصوّر الخبزة تلو الخبزة إلى الجماهير الشعبيّة المتراصّة التي تتخطّف ما يهِبهُ لها...ورفعني والدي فجأة نحو الملك الواقف في كاليصه وهو يوزّع الخبز. فقال لي أبي: "بُوسْ سِيدْنا! فالتفت سيدْنا وقبّلني هو على خدّي وقال لأبي: "ربّي يصُونْ" وضجّت الجماهير على طول الشارع نحو عنان السماء:" الله يُنصُرْ سِيدْنا" وسمعت خلال الضجّة بعد الضجّة أصداء موسيقى سلام الباي من بعيد. فلقد كان الشّعب يحبّه حبّا لا نظيره لا من قبل ولا من بعد.

لقد كانت الفنّانة المطربة فتحية خيري ذات حظوة مرموقة لدى الملك محمّد المنصف باشا بايْ وفي قصره بين الأمراء والأميرات الذين كانوا من قبل متعوّدين زمن أحمد باشا بايْ الثّاني سلف الملك الحاضر بأن ينقلب القصر إلى مكان اللّهو الرّخيص السّاقط خلال الحفلات الموسيقيّة التي تشارك فيها أو تقودُها مُطربة لا تهتني بمستوى الأخلاق. أمّا الفنّانة فتحيّة خيْري فقد كانت على العكس مُحترمة أخلاقيا وسلوكيّا واجتماعيّا وكانت على وعي بأنّها تؤدّي فنّها الرّاقي في دار الملك لا في بيت الشّراب والعَرْبدة.

ولا شكّ أنّ الطبقة السّياسيّة الوطنيّة وأعني بها هنا الدّستوريّة خاصّة بزعمائها من أمثال صالح بن يوسف والحبيب بورڤيبة والمنجى سليم وكانوا يقدّرون كفاءة فتحية خيري الفنّية والأخلاقية والوطنيّة الصّادقة من حيث مواقفها وأفكارها ومشاعرها، وكانوا على علم بحظوتها لدى محمّد المنصف باشا باي الملك الدّستوري المجاهد الشّهيد لذلك علا شأنها ومحبّتها.

لقـاء الحبيبيــن

كلّ ذلك قد ترتّب عنه أن تعرّف عليها أحد أعيان الحزب الحرّ الدّستوري وهو الأستاذ العميد فتحي زهير وهو المقرّب من الزّعيمينالحبيب بورڤيبة وصالح بن يوسف الذي أصبح صهره فيما بعد. وَهْوَ مَنْ هُوَ من مسؤولية وثقافة واشعاعا سياسيّا واجتماعيّا ورياضيّا وخلقيّا.

وقد خصّص صاحبنا وباحثنا الأستـاذ فاخــر الرّويســـي بحثـا دقيقـا ومفصّـلا في الجزئيّات وجميـلا متقنـا في الوصف والرّواية في كتابه عن فتحيّة خيـري وكذلك في كتابه الآخر عن العميـد فتحـي زهيــر.
ممّا لا شكّ فيه أنّ زواج الفنّانة فتحية خيري الأوّل إمّا كان بالإكراه وإمّا كان بإبعاد من حولها العزّاب والرّجال خوفا عليها من مكاره العازبين والطّامعين فيها وقد نضجت أنوثتها. كلّ ذلك حسب المعتقدات والتقاليد الاجتماعية التي ما زالت سائدة حتّى خلال السّنوات السّبعين والثمانين من القرن الماضي. وباختصار لم تعرف فتحيّة مشاعر المحبّة وقد كان زوجها الأوّل غيورا قد سجنها في الدّار وحدّد خروجها إلى الجمهور ولكنّها فنّانة مُطربة تؤدّي فنّها أمام الفاضل من الرّجال والسّيء منهم.

فتحت مجلسها في بيتها واشتهرت به عند الشّعراء والمُوسيقيّين وذوي الجاه والمسؤولية السّياسيّة فكان منهم العميد فتحي زهير المتألّق بظرافته وكياسته وتربيته ومقامه العالي وكانت من جهتها مهذّبة ومِتْكَلْمانِيّة وبشُوشة تَبْزُغُ الابتسامة من محيّاها. فكان الإعجاب المتبادل وكان الحبّ. فأمضى الحبيبان فترة من ربيع المحبّة ثمّ افترقا بالتّراضي، وواصلت في فنّها وطربها وموسيقاها وواصل نضالاته ومسؤولياته السّياسيّة الجسيمة خاصّة وأنّ الفتنة بين الزّعيمين الحبيب بورڤيبة وصالح بن يوسف تتّقد نيرانا خبيثةً، وفتحي زهير في قلب الصّراع، مع الملاحظة الأكيدة أنّ افتراق الزّوج الثاني عن زوجته المحبوبة كان حضاريا صحيحا. ولكن علام هذا الإفتراق؟

من المعلوم أنّ الفنّ يأكل الفنّان فيلتهم حياته ومستقبله، وينال حتّى من راحته ونومه ويقظته الى أن يصير كالوسواس القهري الذي يجعل الفنّان لا يطيق غير الفنّ فيصبح التّطايق بين الفنّان والفنّ واقعا لا وهما بتاتا. فهو يجسّم الفنّ بل هو الفنّ ذاته.

كذا كان عظماء الفنّانين والشّعراء والكتّاب والباحثين والمبدعين الذين تخلّصوا من المادّة سواء كانت ماليّة أو تشريفاتيّة ذلك أنّ المهمّ في معتقدهم هو الفنّ، الفنّ وحده لا غير حتّى الموت! والأمثلة من هذا القبيل كثيرة في الحضارات وفي البلدان.

كذلك الشّأن بالنّسبة للسّياسي حيال السّياسة وفي علاقة قويّة بها. من المعلوم أيضا أنّ السّياسة طاغية على السّياسي إذ جميع حركاته وأفعاله ومشاريعه واقتراحاته وربّما أيضا نواياه وعزائمه سياسيّة فضلا عن حساباته وحدسه وتخمينه بحيث يصير السّياسي هو السّياسة ذاتها، هو السّياسة ولا شيء غيرذلك. وهذا نظفر به في الحاضر وفي ماضي حضارات الأمم والدّول.

فهل كانت تجد الفنّانة فتحية خيري الوقت لفتحي زهير؟ ولا هو وجد الوقت لها رغم أنّهما طوال فُصُول الرّبيع الزّاهرة قد كان لهم عائلة وأبناء؟!! أبدًا لا!

عز الدين المدني

قراءة المزيد

عزالدين المدني: فتحية خيري لمحات من حياتها الإبداعية قبلة الشّعراء والملحّنين 

عزالديـن المدنـي: هل ننســى فنّانينــــا وإبداعاتهــم؟ كَلَّا لا!

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.