أخبار - 2023.05.03

محمد ابراهيم الحصايري - نحو نمط جديد من الحوار بين ضفتي المتوسط: التحديات الحيوية والمقتضيات الملحّة

محمد ابراهيم الحصايري - نحو نمط جديد من الحوار بين ضفتي المتوسط: التحديات الحيوية والمقتضيات الملحّة

هذا العنوان هو، في الأصل، عنوان مداخلة كنت ألقيتها في ندوة نظمتها جمعية دراسات دولية مساء يوم الأربعاء 14 ديسمبر 2022، تحت عنوان "البحر الأبيض المتوسط في مواجهة الانقسامات: la Méditerranée à l'épreuve des fragmentations".
وقد رأيت أن أنشرها اليوم على صفحات "ليدرز" أولا بمناسبة الاحتفال بيوم الدبلوماسية التونسية، وثانيا لأنها تتطرق إلى أحد أهم مواضيع الساعة في بلادنا، وأعني بذلك موضوع علاقاتها المستقبلية مع شريكتها الأولى أوروبا اتحادًا ودولاً.
وفيما يلي نص المداخلة:  

"حضرات السيدات والسادة،

عمتم مساء

مداخلتي هذه ستتضمن ثلاثة محاور، كل محور منها يتضمن عشر نقاط. وهذه المحاور هي على التوالي:

المحور الأول: عشر حقائق، أو ملاحظات أولية.

المحور الثاني: عشرة تحديات حيوية.

المحور الثالث: عشرة مقتضيات ملحّة من أجل نمط جديد من الحوار بين ضفتي المتوسط.

وقبل تناول المحور الأول بالحديث، أود أن أقرأ عليكم مقتطفا مما جاء في كلمة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين الأردني أيمن الصفدي، في افتتاح أعمالالمنتدى الإقليمي السابع لوزراء خارجية دول الاتحاد من أجل المتوسط، الذي انعقد في 24 نوفمبر 2022 ببرشلونة، فبهذه المناسبة رسم المشهد التالي لما آلت اليه الشراكة الأورو-متوسطية:

"تجمعنا برشلونة مرة أخرى، في منتدانا الإقليمي السابع، وبعد سبعة وعشرين عاماً من انطلاق وعدِهَا بِنَاءَ جِوَارٍ متوسّطي آمن مستقر، ينتقل الناس والمبادرات والأفكار والمشاريع والسلع بين ضفتيه، في جهد متكامل، لبناء مستقبل أفضل لكل شعوبنا.
وعدُ برشلونة لم يتحقق، لكن الحاجة له أكثر اليوم من أي وقت مضى. فالأزمات على ضفتي المتوسط تتفاقم، والتحديات تتعاظم:

السلام العادل، الشامل والدائم أبعد اليوم مما كان وقت انطلاق ذاك الوعد، مع استمرار غياب آفاق انتهاء الاحتلال الإسرائيلي، والتقويض الممنهج لحل الدولتين، الذي لا بديل عنه سبيلاً لإنهاء الصراع. حصاد هذا الغياب دوامات عنف تجر المنطقة نحو المزيد من الصراع.
أجيال ضاعت، وأخرى تعيش ويلات الحروب والصراعات، وفقدان الفرص وتقهقر الأمل في جنوب المتوسط.
ملايين شردوا من بيوتهم، فبات اللجوء والهجرة جبهتين جديدتين تتصارع فيهما المصالح والمبادئ، والأمل واليأس.
التغير المناخي تهديد لمستقبلنا نراه في تغيرات صيفِ شمال المتوسط وشتاءِ جنوبه، وينذر العالم من ويل كارثي نتيجته إن لم تستدرك الممارسات التي تسببه.
الأمن الغذائي والطاقوي ضرورتان كسرت جائحة كوفيد والأزمة الأوكرانية كل ظن بتوفّر آليات ضمانهما، وحماية الناس، حتى في أوروبا، من تبعات غيابهما.

I/ عشر ملاحظات أولية

أولا/ إن الفجوة بين الضفة الجنوبية والضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط تتسع باستمرار بدلا من أن تتقلص: والدليل على ذلك أن مستوى عيش سكان الضفة الجنوبية أصبح سنة 2019 أي قبل جائحة الكوفيد 19 أضعف من مستوى العيش في الضفة الشمالية بخمس مرات بعد أن كان في تسعينات القرن الماضي أضعف بثلاث مرات فقط.

ثانيا/ أن جائحة الكوفيد 19 ثم الحرب في أوكرانيا فاقمتا الصعوبات التي تعيشها بلدان الضفة الجنوبية على أصعدة عديدة.

ثالثا/ أن مسار برشلونة الذي انطلق سنة 1995 والذي استهدف نظريا جعل منطقة المتوسط منطقة أكثر أمانا واستقراراورفاها، لم يحقق النتائج المرجوة منه، فإذا نظرنا فيما تحقق من الأهداف الثلاثة الكبرى التي رسمها لنفسه سنلاحظ أن الحصيلة كانت هزيلة، سواء فيما يتعلق بالشراكة السياسية والأمنية، أو الشراكة الاقتصادية والمالية،أو الشراكة الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وقد ثبت قصور السياسات المتبعة في إطار هذه الشراكة، سواء فيما يتعلق بتعميق الأمن على ضفتي المتوسط، أوالحد من الهجرة، أوتعزيز التنمية الاقتصادية، وإحداث تقدم في عملية السلام.

رابعا/ إن المتأمل في سيرورة علاقات أوروبا ببلدان الضفة الجنوبية على امتداد العقود الخمسة الماضية سيلاحظ أنها مرت بعدة مراحل وشهدت اختبار العديد من السياسات وصيغ التعامل بين الضفتين: فمن التعاون إلى الحوار إلى الشراكة إلى الاتحاد...
وقد جاءت جميع هذه الصيغ بمبادرة من الجانب الأوروبي، تصوُّرًا وتنفيذًا واتسمت كلها بصبغة مصلحية ربحية،وبعدم التكافؤ بين طرفيها الشمالي والجنوبي.

خامسا/ أن انقسام بلدان الضفة الجنوبية وتعدد الخلافات وحتى النزاعات القائمة بينها لم يمكّناها من تحقيق حد أدنى من التكامل والاندماج بما يسمح لها بمقاربة علاقاتها مع الجانب الأوروبي مقاربة موحّدة أو على الأقل مشتركة.

سادسا/ أن أهمية البحر الأبيض المتوسط الذي يربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا تزايدت خلال السنوات الأخيرة على الصعيد الجغرا-سياسي والصعيد الجغرا-اقتصادي والصعيد الجغرا-استراتيجي نتيجة التطورات التي شهدها العالم والنظام الدولي،وذلك سواء بالنسبة إلى القوى الإقليمية الصاعدة، على غرار تركيا وإيران أو القوى الكبرى أي الولايات المتحدة التي تريد مواصلة التحكم فيه، وروسيا التي تريد استعادة مكانتها في مياهه الدافئة، والصين التي تعتبره ممرا نحو أوروبا، وجزءالا يتجزأ من "مبادرة الحزام والطريق".
سابعا/ مما يغذي هذا الصراع وجود نقاط نزاع ساخنة في جنوب البحر الأبيض المتوسط وبالتحديد في سوريا وليبيا اللتين تتمتعان بموقعين استراتيجيين هامين على هذا البحر وباعتبارهما بوابتي عبور الأولى نحو المشرق العربي والخليج، والثانية نحو القارة الإفريقية، علما بأن أزمة هذين البلدين ما تزال تُدار ولا تُحل.

ثامنا/ أن المتوسط الذي شكل باستمرار فضاءًللتنافس والصراع على منافذه وشواطئه ومياهه الإقليمية وثرواته الباطنية، مرشح لأن يشهد المزيد من التعقيدات والنزاعات بسبب اكتشاف كميات هائلة من الغاز والنفط في سواحل ضفته الجنوبية الأمر الذي ضاعف من حدة التنافس عليه، لا سيما وأن المخزون الغازي والنفطي المكتشف يقع على مقربة من أوروبا التي تحاول منذ سنوات، وخاصة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا،تنويع مزوديها بالغاز لتخفيض اعتمادها على الغاز الروسي.

تاسعا/ أن التكامل الاقتصادي العالمي ينزع نحو التراجع نتيجة التطورات التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة بسبب الأزمة المالية العالمية سنة 2008، ثم النزاعات التجارية الدولية في الأعوام الأخيرة، وأخيراً أزمة كوفيد 19، وقد تجلى هذا التراجع في  تباطؤ حركة التجارة العالمية، وتقلص الاستثمارات العابرة للحدود، وحركة رؤوس الأموال، وفي النزعة نحو التخلي عن سلاسل التوريد المعولمة الممتدة بين بلدان وقارات عديدة بسبب إدراك ما ينطوي عليه الاعتماد المتزايد على الأسواق البعيدة من مخاطر وهشاشة.

عاشرا/ اتجاه العالم نحو نظام عالمي جديد ومعادلات دولية جديدة، ومن أهم الظواهر المسجلة في هذا النطاق زيادة مساحة الاختلاف والتناقض في المصالح بين الدول العربية وبين الولايات المتحدة.

II/ عشرة تحديات

أولا/ التحدي السياسي والأمني: إن البحر الابيض المتوسط الذي يمثل 30‎%‎من حركة النفط العالمية و 25‎%‎من حركة الملاحة التجارية الدولية، والذي يعبره سنويا 100 مليون مسافر، يعيش مستويات غير مسبوقة من عدم الاستقرار التي يخشى أن تتزايد بسبب استمرار اضطراب الأوضاع في بعض بلدان ضفته الجنوبية،وفي المحيط المغاربي الساحلي الإفريقي،وعودة الحرب إلى أوروبا، والأزمات الوافدة على المشرق العربي من الخليج وآسيا،والصراع بين ايران وإسرائيل، والتنافس المحتد بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية.

ثانيا/ التحدي الاقتصادي والاجتماعي: إن تراجع مستوى العيش في بلدان جنوب المتوسط من شأنه أن يؤدي الى تفاقم عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي مما سينعكس على حركةالهجرة إلى أوروبا.
وفي ظل تداعيات جائحة الكوفيد 19، ثم الحرب في أوكرانيا، وفي غياب حد أدنى من التضامن الفعال بين شمال المتوسط وجنوبه في مواجهة الأزمة الناجمة عن التضخم ونقص الأغذية والطاقة، يخشى أن تزداد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الضفة الجنوبية غير النفطية تدهورا.

ثالثا/ التحدي البيئي: من أخطر التحديات التي تواجهها منطقة البحر الأبيض المتوسط أنها من أكثر المناطق تلوثاً في العالم،مع الملاحظة أن الدراسات تشير إلى أن سرعة ازدياد درجات الاحتباس الحراري هي من الأعلى في العالم مما يؤثر على نسبة الأمطار وازدياد الحاجة إلى المياه مع ما لذلك أيضاً من تداعيات اقتصادية واجتماعية وبالتالي سياسية وأمنية على الدول المعنية. وهذه كلها تحمل تداعيات سلبية حيث أن التغيرات المناخية تهدد المدن الساحلية التي يؤكد الخبراء احتمال زوال بعضها إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة خلال الثلاثين سنة القادمة، وكل ذلك من شأنه أن يفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، مع الإشارة إلى أن الدول العربية المتوسطية المعنية أصبحت ممرّا، وليست فقط مصدراً لهذه الهجرة.

رابعا/ تحدي انتشار التطرف من الجانبين: فبلدان الضفة الجنوبية تشهد مدّا دينيا وتناميا للحركات الأصولية وظاهرة التطرف الديني وهو ما يحدث إشكالات ويثير مخاوف في المنطقة ككل.  
وفي المقابل تشهدأوروبا تطورا متزايدا لمشاعر العداء للمهاجرين والمواطنين من أصولٍ عربية ومسلمة، وتناميالقوة اليمين العنصري في معظم الأقطار الأوروبية، وتصاعداللهجة خطابه العدواني، مما ينذر بحدوث قطيعةٍ متزايدة بين الضفتين، وهو ما يحمل بذور مخاطر كبيرة للجانبين، مع الملاحظة أن بعض الدول العربية تتهم بعض الدول الأوروبية بكونها معاقل تلجأ إليها الجماعات الإرهابية فرارا من دولها تحت غطاء اللجوء السياسي.

خامسا/ التحدي التركي: فتركيا التي يقدر عدد سكانها بـ83 مليون نسمة، والتي تحتفل سنة 2023 بالذكرى المئوية لإعلان جمهوريتها، كما تشهد خلالها تنظيم انتخابات رئاسية جديدة، لم تعد تريد، بعد مرور مائة سنة على الحرب العالمية الأولى، تحمل العواقب القانونية والإقليمية لهزيمة الدولة العثمانية، لا سيما وأن العالم تغير ولم يعد الغرب قادرا على فرض معاييره عليها، وهي إلى ذلك تسعى إلى ترسيخ توجهها الديني والقومي كمحدد لهويتها ولسياستها الخارجية، خاصة منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وعمله المتواصل على إحياء الإرث العثماني، وتركيز أسس ما يسمى بـ"العثمانية الجديدة"، كما إنها تعمل على تعزيز نفوذها في جوارها الإقليمي، من خلال التدخل المزدوج في العراق وسوريا وحتى في ليبيا، وتحديها لكل من أوروبا باستخدامها لورقة اللاجئين كورقة ضغط، وبأنشطتها الاستكشافية عن الطاقة في منطقة شرق المتوسط، وللولايات المتحدة كما تجلى ذلك في إقدامها، بالرغم من عضويتها في حلف شمال الأطلسي، على شراء منظومة 400S الصاروخية من روسيا بعد امتناع واشنطن عن تزويدها بمنظومة الباتريوت.

سادسا/ التحدي الإيراني: فإيران مافتئت تعمل على التحول إلى قوّة إقليمية فاعلة خاصة في محيطيْها الخليجي والمشرقي، وقد استفادت، خلال السنوات العشر الأخيرة، إلى حدّ كبير، من الأحداث التي أعقبت ثورات ما سمّي بـــــــ"الربيع العربي"، فعزّزت مكانتها في منطقتي الخليج والشرق الأوسط، لا سيما من خلال ترسيخ حضورها في العراق، وفي سوريا بعد وقوفها إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد، وفي اليمن من خلال دعمها لجماعة "أنصار الله" أو جماعة الحوثي الشيعية.

سابعا/ التحدي الإسرائيلي: إن عضوية اسرائيل في الشراكة الأورو-متوسطية تشكل أحد أهم معرقلاتها بالنظر إلى أن تل أبيب تتسبب فيما تعرفه أو ما يمكن أن تعرفه الضفة الجنوبية من توترات حاليا ومستقبلا. ومما يعقّد الوضع أن المسألة اليهودية الجديدة تحولت في أوروبا إلى نوع من "التابو" أو المحرّم الذي لا يمكن الخوض فيه، كما إن إسرائيل ماضية قدما في تحقيق مخططاتها الاستيطانية والتوسعية، وسعيها إلى عقد المزيد من اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية التي تعمقت خلافاتها بهذا الشأن حتى وصلت إلى حد القطيعة بين الجزائر والمغرب بسببه. ومما ينذر بمزيد تعقد الوضع أن إسرائيل باتت لا تطمح فحسب إلى الاندماج في محيطها العربي القريب والبعيد وإنما تطمح إلى قيادته، مثلما يتجلى ذلك من التحركات الجارية على قدم وساق من أجل انشاء ما يسمى بـ"الناتو الشرق أوسطي" وحلف "الآي 2 ويو 2" أو "الكواد" الذي يجمع بين الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل والهند.

ثامنا/ التحدي الإفريقي: حيث أن حالة الاضطراب والفوضى السائدة في منطقة الساحل الإفريقي تلقي بظلالها على منطقة المغرب العربي وهي مرشَّحة، إن لم يتم العمل على معالجتها، إلى المزيد من التعقد لا سيما في ظل التنافس الجاري على التموقع فيها من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية التي تسعى إلى استغلال حالة الفراغ التي خلفها الانسحاب الفرنسي والأوروبي منها.

على أن الأخطر من ذلك أن "حالة الطوارئ المناخية"في القارة الإفريقية باتت حقيقة واقعة، وأن معاناة القارة عموما ومنطقة الساحل الافريقي بالذات ستتفاقم خلال السنوات القادمة، خاصة وأن دول الشمال تريد معالجة أزمة المناخ العالمية على حساب دول القارة ودول الجنوب بصفة أعم.

وقد دلّت المعطيات التي تم تداولها بمناسبة انعقاد مؤتمر الأطراف 27 حول التغير المناخي بشرم الشيخ من 6 إلى 18 نوفمبر، عن واقع القارة الافريقية وعن آفاق تطورها خلال الفترة القادمة، على أن 33 بلدا من بلدان القارة الـ54، ما تزال من أقل البلدان نموا، وأن القارة تمثل 60 في المائة من الفقر المدقع في العالم، حيث يعيش أكثر من واحد من كل ثلاثة أشخاص تحت العتبة الدولية للفقر المقدرة بـ2.15 دولار في اليوم سنة 2019، وفقا للإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي في أكتوبر2022،علما بأن هذه الإحصاءات لا تأخذ بعين الاعتبار تداعيات جائحة الكوفيد 19 وتبعات الحرب في أوكرانيا على تدهور الظروف المعيشية لأكثر الفئات ضعفا.

تاسعا/ التحدي الأمريكي: وهو تحد قديم غير أنه بات الآن يكتسي أهمية أكبر خاصة في ظل التغيرات التي شهدتها الساحتان السورية والليبية والتداعيات التي أفرزتها وقد تفرزها  الحرب في أوكرانيا.
والمشكلة هي أن الصراع على المتوسط ليس أمريكيا روسيا وصينيا فحسب، وإنما هو أيضا صراع أمريكي أوروبي، وقد جاءت الشراكة الأورو-متوسطية كإحدى الأدوات التي استخدمتها أوروبا لتأكيد موقعها في هذه المنطقة التي تعتبرها امتدادا لها والتي ترتبط بها بعلاقات اقتصادية وتجارية وثقافيةتعود جذورها إلى أعماق التاريخ، كما إن أمنها وأمن أوروبا لا ينفصلان.

عاشرا/ التحدي الصيني الروسي: فبروز الصين كقوة اقتصادية كبرى جعلها تهتم بتقوية حضورها في البحر الأبيض المتوسط خاصة وأنه يمثل جزءا لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق، وبالرغم من أن هذا الحضور يكتسي حتى الآن طابعا اقتصاديا وتجاريا فإنه من غير المستبعد أن يكتسي طابعا عسكريا في المستقبل.

أما روسيا التي استعادت قوتها فإنها تعمل على العودة إلى مياه هذا البحر الدافئة، ولا شك أن أحد أهداف الحرب المشتعلة في أوكرانيا هي إضعاف موسكو وتحجيم قوتها واستنزافها لترتدع عن المضي في تعزيز تموقعها في المتوسط.

III/ عشرة مقتضيات

إن الشراكة الأورو-متوسطية التي ما انفكت تعاني باستمرار من عدم التكافؤ بين الشريكين الشمالي والجنوبي على مختلف الأصعدة، بحاجة إلى إعادة البناء على أسس وتوجهات جديدة وهو ما يقتضي:

أولا/ وعي المنطقة المتوسطية بأنها بحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية، سياسية ونظرية  للمسار الطويل من الفشل في بناء علاقاتٍ مثمرة وإيجابية بين الضفتين، والأسباب التي أدت إلى ذلك حتى لا تواصل العلاقات السير من سيء إلى أسوأ. 

ثانيا/ إيجاد دينامية مغايرة للدينامية التي أطلقها مسار برشلونة وما تبعها من سياسات أوروبية أحادية التصور والتنفيذ، بما يمكّن من وضع حد للعلاقات غير المتوازنة التي نشأت خلال العقود الأخيرة بين المركز الأوروبي وبين الأطراف المتوسطية،وخلق نوع من الاعتماد المتبادل الحقيقي والعادل بين الضفتين.
وسيكون من الضروري أن تتجاوز هذه الدينامية المقاربات الجزئية والمرحلية حتى تكون قادرة على معالجة التحديات الشاملة والمترابطة وتضع في اعتبارها التكامل بين أبعاد التعاون من أجل مواجهة التحديات القديمة والجديدة والمستجدة.

ثالثا/ تضافر جهود الضفتين من أجل الاستفادة من الفرص المستجدة التي تتيحها جملة المتغيرات التي شهدتها أو تشهدها الساحتان الإقليمية والدولية، وذلك باستغلال النزعة الناجمة عن تداعيات أزمة الكوفيد19 نحو إعادة توطين الصناعات والخدمات واستعادة السيادة الاقتصادية، والاستفادةمن تداعيات تراجع العولمة الاقتصادية لصالح الشراكات الإقليمية والتكامل الإقليمي الذي أصبح أكثر جاذبية والذي ينزع نحو الصعود كبديل أقل خطورة عن التكامل العالمي، واستغلال الفرص التي تتيحها اكتشافات الغاز في شرق المتوسط، والاستفادة من الفرص الهائلة التي يتيحها التحول الطاقي والعمل على مواجهة تزايد مخاطر التغير المناخي في منطقة البحر الأبيض المتوسطللشراكة الأورو-متوسطية، لا سيما وأن المنطقة غنية بمصادر الطاقة المتجددة، مثل الرياح والشمس والمياه، وهي بالتاليقادرة على تعزيز التحول نحو أنظمة طاقية منخفضة الكربون وأكثر استدامة.

رابعا/ يقتضي إيجاد الدينامية المغايرة المنشودة جملة من التغييرات في سلوك الجانب الأوروبي وذلك من خلال مراجعة الموقف اللاأخلاقي الذي وقفته أوروبا والغرب عموما، من ثورات ما سمي بالربيع العربي وما تلاها من تطورات ومن ثورات مضادة، حتى لا يتكرر ذلك مستقبلا، والقيام بتقييم موضوعي للدور الذي لعبته الدول الأوروبية في الوضع الذي آلت إليه ليبيا وسوريا، وتغيير مقاربتها وأسلوب عملها في معالجة هذا الوضع، وذلك بالإضافة إلى تخلي الاتحاد الأوروبي عن الحق الذي منحه لنفسه في أن يملي على الضفة الجنوبية ما يجب عليها القيام بهخاصة من خلال اشتراطاته السياسية والاقتصادية المرافقة لما يقدمه من مساعدات ومن قروض لبلدان الجنوب.

وبالتوازي فإن الاتحاد الأوروبي مدعو إلى التخلص من المخاوف المتزايدة التي تسكن رأيه العام، وتدفع حكوماته إلى التشبث بأولوية الأجندة الأمنية.

خامسا/ في مقابل ذلك ينبغي لدول الضفة الجنوبية أن تقرّ بأنها شريكة في المسؤولية عن فشل الشراكة بين الضفتين بخياراتها السيئة وأن تخرج من حالة الاستسلام للواقع، وألا تدع المبادرة بيد الجانب"المانح"، أي الاتحاد الأوروبي وحده، وأن تطور برامج ومشاريع تنموية تنطلق من حاجات مجتمعاتها...

ولكي تتمكن من ذلك ينبغي أن تعمل على التغلب على انقساماتها ونزاعاتها وأن تحقق حدا أدنى من التكامل والاندماج فيما بينها.

وإلى ذلك فإنها مطالبة، سياسيا ببناء وترسيخ "دولة القانون والمؤسسات وإنجاز الانتقال الديمقراطي في بلدانها"، واقتصاديا بتبنّي إصلاحات وسياسات داخلية تهدف إلى تعزيز القطاعات الإنتاجية المحلية لتمكينها من المنافسة في بيئة التجارة المفتوحة، ومعالجة سلبيات اقتصاداتها خاصة فيما يتعلق بحالة بيئة الأعمال، والفساد، وغياب الشفافية في دور الدولة التنظيمي.

سادسا/ بالنسبة إلى تحدي الهجرة إلى أوروبا ينبغي أن يدرك الجانب الأوروبي أن مواجهته لا تكون بإغلاق الحدود بل بمعالجة الأزمات التي تشرد الناس من بيوتهم وبالعمل قدر الإمكان على تجسير الفجوة الاقتصادية بين ضفتيْ المتوسط، ذلك أن ما تعاني منه الضفة الجنوبية من فقر وحرمان وبطالة هو أحد أكبر أسباب تدفق آلاف المهاجرين غير الشرعيين على الدول الأوروبية.

ثم إنّ تنظيم حركة الهجرة يجب أن يتم بالتوافق بين مختلف الأطراف المعنية، مع العمل على إيجاد حلول للمشاكل التي تواجهها بلدان جنوب المتوسط داخليا وخارجيا حيث أنها تعاني من جراء ضغوطات الهجرة الآتية من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، واعتبارا لذلك فإنه من الضروري تعزيز التعاون مع بلدان المهاجرين الأصلية وبلدان العبور حتى تتم هذه الهجرات بشكل منظم. ومعنى ذلك أن تحجيم الهجرة من الجنوب إلى أوروبا يقتضي تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية، سواء في جنوب البحر المتوسط، أو في أفريقيا جنوب الصحراء.

وإلى ذلك ينبغي التنبيه الى أن دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين منقسمة فيما بينها إزاء قضية الهجرة،إذ أن بعضهايقع تحت تأثير خطاب يميني قومي متشدد وشعبوي يرفض الهجرة ويحمل اللاجئين المسؤولية عن الأزمات الأوروبية، كما يتخذ سياسات انعزالية تجاه مسألتي الهجرة واللجوء، وهو ما لا يسمح لدول الاتحاد الأوروبي بالاتفاق على سياسة موحدة تجاه قضية الهجرة غير الشرعية ويعطل أي توافق بين شمال المتوسط وجنوبه.

ومن واجب أوروبا في هذا النطاق أن تتخلى عن فكرة "الدولة الحاجز" التي يعهد إليها بامتصاص التوترات القادمة من الجنوب وإضعافها حتى لا تصل إلى قلعة الشمال.

واستنادا إلى الاستراتيجية الأوروبية الشاملة مع إفريقيا، والتي أطلقها الاتحاد الأوروبي سنة 2020 لتحقيق الشراكة مع القارة في عدد من المجالات، تشمل الاقتصاد الأخضر والطاقة، والتحول الرقمي، والنمو المستدام وفرص العمل، فإنه من المهم الربط بين الشراكة الاقتصادية مع بلدان جنوب المتوسط والشراكة مع إفريقيا جنوب الصحراء، لما يمكن أن يكون لذلك من انعكاسات إيجابية على مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا...

سابعا/ فيما يتعلق بمشكلة الإرهاب، تحتاج البلدان الأوروبية والمتوسطية إلى التوافق على سياسات أكثر فاعلية في مواجهتها بعيداً عن التوظيف السياسي للظاهرة وخاصة من قبل التيارات الشعبوية واليمين المتطرف في أوروبا.

وفي ظل صعود اليمين واليمين المتطرف في أوروبا ينبغي أن يكون غرس قيم السلم والتسامح، ودحض ما يخالفها من دعاوى التطرف والكراهية شاملا وألا يقتصر على بلدان الضفة الجنوبية.

ثامنا/ إن التركيز في مسار برشلونة على تأسيس منطقة التجارة الحرة الأورو-متوسطية عبر إزالة الحواجز أمام المبادلات التجارية والاستثمارات بين الاتحاد الأوروبي وبلدان الضفة الجنوبية أثبت أنه غير كاف، لأنه اقتصر على تحرير تجارة السلع وحدها.

تاسعا/ لا بد من توخي الحذر واليقظة في المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي والبلدان الشريكة في جنوب المتوسط، من أجل نقل الشراكة إلى مرحلة جديدة، وذلك من خلال العمل على فرض المزيد من الانفتاح وتحرير تجارة السلع الزراعية، وحركة الاستثمارات وتجارة الخدمات.

عاشرا/ إن تعزيز السلم وترسيخه في المنطقة يستوجب حتما العمل على إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وهو ما يتطلب تخلي الدول الأوروبية عن انحيازها الكلي لإسرائيل لا سيما وقد اتضح أن عملية برشلونة هدفت فيما هدفت إليه إلىإدماج إسرائيل في محيطها العربي عن طريق إطلاق وإنجاز مشاريع اقتصادية مشتركة بين دول الضفة الجنوبية بما فيها إسرائيل...

ولهذا سيكون من الضروري الوعي بخطورة استمرار غياب آفاق تحقيق السلام العادل على أساس حل الدولتين، لأن هذا الغياب سيؤدي إلى تجدّد تفجّر العنف الذي سينعكس على الجوار المتوسطي كله، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تعقد الوضع بالأزمات الجديدة التي انضافت إلى المنطقة ومنها خاصة الأزمة السورية وارتداداتها.

حضرات السيدات والسادة

ختاما، يمكن القول إنه رغم جسامة التحديات، ورغم حالة الضياع التي تعيشها أوروبا الآن، وحالة التفكك التي يمر بها العالم العربي حاليا، توجد مساحات سياسية واقتصادية لتعاون أورو-متوسطي قادر على إحداث الفارق وإنتاج النفع المشترك، لا سيما وأن الاعتبارات التاريخية والجغرافية والحضارية تشكل شبكة من الارتباطات ونقاط التقاطع في المصالح بين الكتلة الأوروبية والنظام الإقليمي العربي، فالجغرافيا، والتاريخ وإمكانات التكامل الاقتصادي، والتمازج الثقافي الحضاري عوامل من شأنها أن تساعد على التقريب والتقارب بينهما لتكوين منطقة متوسطية آمنة مستقرة مزدهرة.

لكن ذلك يبقى رهين تجديد الحوار بين الجانبين على أساس مقاربة مغايرة تقوم على التدبّر التشاركي الفعلي لقضايا المنطقة، ومراعاة المصالح المشتركة والمتبادلةلكلا الجانبين، والتخلي عن منطق المركز والهامش، وإيجاد حلول جذرية للأزمات السياسية في المنطقة بما في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي... وتجاوز سلبيات الإرث التاريخي (الاستعمار)، ومعالجة انعكاسات توسيع الاتحاد الأوربي على بلدان الجنوب، ووضع مشاريع مشتركة اقتصادية واجتماعية لمعالجة بعض القضايا المستفحلة، كالهجرة غير الشرعية، والعنف السياسي، وتجارة التهريب والمخدرات وذلك بعيداعن المنطق الأمني.

وإذا لم يحدث ذلك فإن أوروبا ستجد نفسها أمام أحد بديلين:

إما ضفة جنوبية متوسطية مضطربة ومعرضة لأن تشهد فترة طويلة من العنف والانتفاضات والنزاعات والهجرات التي لن تقدر على إيقافها السياسات الأمنية مهما كانت صرامتها.

وإما أن تلجأ دول الضفة الجنوبية التي أصبحت محل تنافس بين القوى الدولية والإقليمية إلى تدعيم علاقاتها مع الفواعل المنافسة لأوروبا والولايات المتحدة، في النظام الدولي الجديد الذي يجري تشكيله تدريجيا، علما بأن مسألة تنويع الشركاء باتت تكتسي بالنسبة إليها أبعادا استراتيجية مهمة، وهي قد تسمح لها بهامش معتبرمن حرية التصرف والمناورة في علاقاتها الدولية، ويجنبها انعكاسات الضغوط التي تفرضها حالات الاعتماد شبه الكلي أو التبعية للطرف الأوروبي أو الأمريكي.

ولذلك فإن الاتحاد الأوروبي الذي عادت إليه الحرب بكل تداعياتها سيكون كما أكد ذلك وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، أمام المنتدى الإقليمي السابع لوزراء خارجية دول الاتحاد من أجل المتوسط، بحاجة لكي يضمن استقلاليته ووضع حدود للهيمنة الأمريكية على الشؤون الأوروبية إلى تعزيز علاقاته مع جيرانه في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، وللعمل على تجاوز الاختلال في التوازن بين الضفتين، علما بأن هذا الاختلال يعد واحدا من أعمق الاختلالات حول العالم كما يؤكد جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية / نائب رئيس المفوضية الأوروبية.

وخلاصة القول إن أوروبا مدعوة إلى ألا تترك منطقة جنوب المتوسط التي كانت دائما شريكها التاريخي وجارها القريب، للأميركيين والروس والصينيين، الذين لن يتردّدوا في استخدامها كقاعدة لتطويقهاوحتى تهديدها. وإذا كانت ترغب حقا في ضمان مزيد من الأمن والأمان والاستقرار على أراضيها فإنها مدعوة إلى العناية بتطوير محيطها وتحويله من عبءٍ وعالةٍ ومنبع مخاطر وتهديدات من كل الأنواع، إلى شريك اقتصادي واستراتيجي حقيقي ومقتدر".
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.