أخبار - 2022.08.10

تحية لروح السفير محمد فريد الشريف

تحية لروح السفير محمد فريد الشريف

يوم الخميس 4 أوت 2022، فقدت الأسرة الدبلوماسية السفير محمد فريد الشريف، تغمده الله بواسع الرحمة والغفران.
وبهذه المناسبة الحزينة، وتحية مني لروح الفقيد الذي كان لي نعم الصديق، أحببت أن أعيد نشر مقال كنت نشرته في جريدة الشروق سنة 2006 وقدمت فيه كتابه "مذكرات دبلوماسي، أربعون سنة في خدمة الدبلوماسية التونسية 1996/1956".

*************

المقال
قراءة في كتاب "مذكرات دبلوماسي، أربعون سنة في خدمة الدبلوماسية التونسية 1996/1956"، للسفير محمد فريد الشريف

بقلم: محمد إبراهيم الحصايري - مساء يوم الخميس 12 أكتوبر 2006 كان مساءً مختلفًا عن بقية مساءات رمضان المبارك، فقد احتفت خلاله ثلّة من وجوه الدبلوماسية التونسية بظهور كناب "مذكرات دبلوماسي، أربعون سنة في خدمة الدبلوماسية التونسية 1956/1996" لزميلهم وصديقهم العزيز السفير محمد فريد الشريف.

كان الحضور رفيع المستوى غير أّنه كاد يقتصر على رواد الدبلوماسية التونسية الذين اختار المؤلّف أن يهديَهم كتابه، وكم كنت أتمنى أن يكون الحضور أكثف، وأن يجمع كافة أجيال الدبلوماسيين التونسيين وخاصة طلبة المعهد الدبلوماسي للتكوين والدراسات حتى تتاح لهم فرصة نادرة للالتقاء، وهو يتأهّبون لبدء حياتهم العملية في الحقل الدبلوماسي، بالجيل الذي أكملها،بعد أن كان له فضل الإسهام في إرساء قواعد الدبلوماسية التونسية، ورفع لوائها على امتداد العقود الأربعة الأولى من سنوات الاستقلال.

وللتعويض عن هذا الغياب، فإنّني أقترح أن يتولى المعهد تكريم الكاتب الذي سبق أن درّس فيه، بالشكل الذي يراه مناسبا.

ثمّ إن ظهور كتاب لدبلوماسي تونسي يمثل في حد ذاته حدثا متميزا لا بد أن يكون الاحتفاء به في مستواه، فليس في كل يوم يظهر كتاب من هذا النوع، وكم هي، للأسف الشديد، شحيحة أقلام الدبلوماسيين التونسيين التي تطوعت للكتابة عن الدبلوماسية التونسية، فهي تكاد تُعَدُّ على أصابع اليدين، إن لم نقل على أصابع اليد الواحدة.

هذا إلى جانب أنّ كتاب السفير محمد فريد الشريف جدير بالقراءة، لأنّه، كما أرى، يحتوي على معلومات غزيرة، وتأملات عميقة، وملاحظاتدقيقة لا تهم الماضي وحده، وإنّما تهم المستقبل أيضا.

ولا بد من الملاحظة، في البداية، أنّ زمن تأليف الكتاب يختلف عن زمن نشره، ففي حين أقدّر أن يكونالسفير محمد فريد الشريف كتب كتابه فيما بين سنتي 1998 و2001، فإن نشره لم يتَسَنَّ، على ما يبدو، إلا خلال السنة الجارية أي 2006، وربما كانت حالة الكاتب الصحية، شفاه الله، لم تسمح له بمراجعة مسودة الكتاب قبل طبعه، ولذلك فإنني أؤمل، في حالة طبعه مرة ثانية، أن تتم مراجعته لتنقيته من بعض الأخطاء اللغوية والتركيبية التي تخللته.

وقد اختار السفير محمد فريد الشريف، عن وعي، أن يؤلّف كتابه وفقا لمنهج محدَّد، فهو كما يقول في المقدّمة وَضَعَهُ "للإمتاع والمؤانسة"، ولم يَتَوَخَّ منه "كتابة التاريخ التي تبقى موكولة لأصحابها" على حد تعبيره.

وأعتقد، منذ الوهلة الأولى، أنّه قد وُفِّقَ في تحقيق الهدف الذي رسمه لنفسه، فقد جاءت صفحات كتابه مطرَّزة بالطرائف والنوادر والنكت اللطيفة تماما على غرار حديثه، حيث عُرِف السفير محمد فريد الشريف بأنه متحدِّث بارع يشدُّك إليه،لا فحسب بما يتميز به من سعة الثقافة وعمق الأفكار ودقة الملاحظات، ولكن أيضا وفي نفس الوقت بظُرفه وبالدُّرر التي اعتاد أن يزيّن بها كلامه.

أما عن فحوى الكتاب فإنّه، بالأساس، يستعرض مسيرة صاحبه المهنية الطويلة التي عمل خلالها في اثني عشر مركزا، وجاب في أثنائها مختلف أرجاء العالم، من خلال الزيارات التي قام بها إلى العشرات من البلدان سواء في إطار ثنائي أو في إطار المشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية، وقد حرص الكاتب على أن يسجل أنّ حياته المهنية لم تَسِرْ دائما في طريق مستقيم، وانّما مرّت ببعض المنعرجات أو المصاعب التي لمّح إليها، وتحاشى التصريح بتفاصيلها.

وإذا كان من الصعب استعراض جميع ما جاء في الكتاب، فإنني أعتقد أنه من الضروري التوقّف عند فصوله الثلاثة الأخيرة التي أرى أنها تضمّنت زبدة تجربة الأربعين سنة التي قضّاها الكاتب في خدمة الدبلوماسية التونسية.

ففي فصل "الدبلوماسية والدبلوماسيون" يثير الكاتب، بصورة إيحائية هادفة، إحدى القضايا المُخْتَلَفِ عليها اختلافا كبيرا في جميع أنحاء العالم، وهي: هل العمل الدبلوماسي اختصاص كأيّ اختصاص آخر، ينبغي ألا يفتح أبوابه إلا أمام المختصين؟ أم أنه عمل من السهولة بحيث يمكن لأيّ كان أن يضطلع به؟...

وجوابا على هذا السؤال يؤكّد الكاتب أنّالدبلوماسية "مهنة تتطلب الاختصاص والخبرة، وهي، دون شك، مهنة دقيقة وراقية تفترض حتما درجات عالية من الثقافة والمعرفة والمباشرة المستمرة على المدى الطويللكسب الخبرة والقدرة على معالجة القضايا المطروحة بحكمة ورويّة بما يوفر حظوظ الكسب والنجاح"...
ولما كانت الدبلوماسية كما يرى "ممارسة صعبة لحقائق بسيطة في ظاهرها" فإنّه يعتقد أن الدبلوماسي يحتاج إلى جملة من الخصال مثل الصبر وطول النفس ورباطة الجأش، والقدرة على الكلام الرصين المتزن المدعم بالمنطق والحجة. وهو يرى أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحرّر الدبلوماسي من الخجل، وإلا مع التجربة الطويلة، وحبّذا لو استطاع أن يكون راشقا، أو حتى لاذعا، شريطة أن يكون ذلك في محلّه، وفي نطاق الأدب واللياقة، وهو، دون شك، أمر صعب يفترض الباع الطويل ودقة الملاحظة وسرعة البديهة".

كل ذلك مع القدرة على تقييم الوقت المناسب لرد الفعل التي تتطلب القدرة على استيعاب حديث الطرف المقابل وخلفياته.

ثمّ إنّ المهنة الدبلوماسية تفترض المتابعة الدقيقة المتواصلة للأحداث، مهما كانت الظروف الخاصة أو العامة المحيطة بالدبلوماسي الذي يظل مدعوا إلى اتخاذ القرار السريع في حينه وإلا ضاعت عليه الفرصة.

ويلاحظ الكاتب أنّ هذا السلوك يصبح غريزيا عند الدبلوماسي المحترف بعد اكتساب الخبرة نتيجة للتجربة والممارسة الطويلة، وقد لا يتوفر ذلك حتى للدبلوماسيين القدامى باعتبار أن هذه الميزة تبدو أحيانا وكأنها موهبة مثل الظُّرف والنكتة وخفّة الروح.
ويميز الكاتب بين الدبلوماسي والسياسي فيلاحظ أنّ الفرق بينهما هو أنّ السياسي "يكشف عن آرائه بحرّية مطلقة، ويدخل بها المعترك الديمقراطي، ويَؤُولُ به الأمر أن يكون في أغلبية أو في معارضة، وأن يحتكم إلى صناديق الاقتراع". أما الدبلوماسي "فليس له خيار إلا تطبيق سياسة حكومته، وتبنِّي وجهة نظرها، والدفاع عنها مهما كانت آراؤه الشخصية، مما يؤكد بوضوح أنّ الدبلوماسية مهنة واحتراف وتخصّص وخبرة".

وتأسيسا على كلّ ما تقدّم، يشير الكاتب إلى أن العديد من الدول بادرت إلى "حماية الجهاز الدبلوماسي من تدخّل السياسة في نظمه وإطاراته وتحييده عن الاتجاهات السياسية".
وحتى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بتحويرات على رأس السفارات إذا ما تولى أحد الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري الحكم في البلاد، فإنّ الكاتب يلاحظ أنّ ذلك يتم بصفة مؤقّتة مع الحفاظ على الإطار الدبلوماسي التقليدي،أي المحترفين ذوي الخبرة علمابأنّ الشخصيات المعيَّنَة على رأس السفارات، يتم اختيارها من بين رجال السياسة اللاَّمِعِين مكافأةً لولائهم للحزب المنتَصِر.

ولا يفوتُ الكاتبَ أن يلاحظ أنّ الدبلوماسية بعد التحولات الجذرية التي عرفها العالم على الصعيد السياسي، خاصة بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى الصعيد التكنولوجي بفضل ثورة المعلومات التي ساعدت على بروز نظرية العولمة بقوة لم يسبق لها نظير، أصبحت مدعوّة إلى التأقلم مع الأوضاع العالمية الجديدة لتوَفِّر لنفسها أسباب النجاعة والفاعلية، وإن كان من المهم جدا أن تحافظ الدبلوماسية على القواعد والأسس التي انبنت عليها، فإنّه لا مناص من تحديث مضمونها لمواكبة العصر.

وفي نفس الوقت فإنّ الدبلوماسي، في خضم الأحداث والتطورات والتوترات، مدعوّ إلى الاضطلاع بدور رئيسي في معالجة المواقف، ومحاولة التخفيف من حدّة النزاعات التي تنشأ هنا وهناك، والتي أصبحت متنفَّسا عَوَّضَ الدولَ الكبرى عن الحروب المدمرة التي كانت تثار فوق أراضيها على غرار الحربين العالميتين.

وإجمالا وفي ملاحظة رشيقة، يذكِّر الكاتب بأنّ المتمرّسين يعرِّفون الدبلوماسية بكونها "قبضة من حديد في قفاز من حرير" وهو يرى، في ظل ما يجري على الساحة الدولية الآن، "أن القبضة الحديدية ما تزال قويّة لكن القفاز الحريري قد اهترأ، وأننا عدنا إلى نظرية الأمير عند ماكيافيلي ومقولته المعروفة الغاية تبرر الوسيلة".

أما في الفصل الموالي الذي جاء تحت عنوان "روّاد الدبلوماسية التونسية" فإنّ الكاتب يستعرض بعجالة مسيرة وزارة الشؤون الخارجية منذ الاستقلال حتى سنة 2001، وقد بث في هذا الاستعراض بعض الملاحظات التي نقتطف منها التالية:

أن ثلاثةً من جملةِ اثنين وعشرين وزيرا تداولوا على وزارة الشؤون الخارجية منذ الاستقلال حتى سنة 2001 كانوا من أبناء الوزارة، وهم على التوالي المغفور له السيد محمود المستيري، والسيدان الحبيب بن يحيى وسعيد بن مصطفى، حفظهما الله.
ويلاحظ الكاتب أنّ ذلك أمر يحبّذه إطارات الوزارة، ويرون فيه تكريما لها عند اختيار أحد زملائهم لمباشرة سياسة تونس الخارجية، وتسيير أجهزة الوزارة بجدوى وفاعلية اعتبارا للخبرة الطويلة المكتسبة في معالجة القضايا.

أن للإصلاحات الجوهرية التي أدْخِلت على النظم والتراتيب التي تسيّر الجهاز البشري لوزارة الشؤون الخارجية والتي بدأ تطبيقها سنة 1998، أبعد الأثر على مردود الوزارة ونتائجها العملية.

أنّ من أهم هذه المنجزات إحداث معهد دبلوماسي يُعنى بإعداد العنصر البشري، وتكوين الإطارات الدبلوماسية وفق برنامج يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات تونس والأساليب الحديثة وكل المستجدّات على الساحة الدولية.

أنّ مجموعة الإجراءات التي تخص مسيرة الدبلوماسي طوال حياته المهنية تعتبر مكاسب كبيرة تفتح آفاقا واسعة في وجهه، وتوفّر له الحياة الكريمة في كنف الاطمئنان على مستقبله ومستقبل أسرته.

أنّ سنة 2001 شهدت حدثا متميزا يتمثل في انتقال وزارة الشؤون الخارجية إلى مبناها الجديد الذي دشنه سيادة الرئيس زين العابدين بن علي وهو "مكسب هام وإنجاز يُنهي نصف قرن من تشتت مصالح الوزارة".

غير أن الكاتب يتوقّع أو يؤمّل مع ذلك المزيدَ من الإصلاحات والمنجزات حيث يؤكد في نفس هذا السياق أنه "مما لا شك فيه أن عناية رئيس الدولة السيد زين العابدين بن علي بوزارة الخارجية باعتباره المسؤول الأول دستوريا عن سياسة تونس الخارجية، وتولّيه سابقا مسؤوليات عليا على رأس بعض السفارات وفي إطارها، وفّرت له معلومات مدقّقة عن أوضاع الوزارة واحتياجاتها"...

تلك هي بعض الخواطر والتأملات التي نعتقد أنّ الكاتب أراد من خلالها أن يسهم، بشكل أو بآخر، في رسم بعض ملامح مستقبل الدبلوماسية التونسية ووزارة الشؤون الخارجية، وهذه الخواطر والتأملات جديرة في نظري بالوضع في الحسبان في أي جهد يرمي إلى الارتقاء بالعمل الدبلوماسي التونسي، فالدبلوماسية التونسية وهي تحتفل بذكرى الاستقلال الخمسين تطمح إلى المزيد من إحكام قواعد عملها وتثبيتها وتقنينها حتى تنسجم تمام الانسجام مع دولة القانون والمؤسسات التي بشّر بها العهد الجديد وما فتئ يعمل على توطيد أركانها.

وبعدُ، فإنّ السفير محمد فريد الشريف يذكر في الفصل الأخير من كتابه وقد اختار له عنوان "خاتمةالمطاف" أنه بعد أنعاد من آخر مركز عَمِلَ فيه، منح نفسه سنتين متواليتين من الراحة والتأمل، ثم يصف أسلوب حياته، إثر ذلك، فيقول في لغة شاعرية:
"بدأت شيئا فشيئا أستمتع بلذة الحرية.  أعمل ما أشاء ومتى شئت وفي أي مكان أريد... إنها متعة لا تضاهيها متعة.

كنت أقضي وقتي بين المطالعة والتجوّل في المدينة مشيا على الأقدام في شوارع تونس وأحيائها القديمة بأزقتها وأسواقها المكتظة، مكتشفا من جديد وبنظرة جديدة هذه البنايات القديمة بأنماطها المعمارية التي تذكّرك بالماضي التليد، وما تتميز به من ذوق رفيع وفنون عالية في منتهى الجمال والإبداع.

أتجوّل في شوارع المدينة مستذكرا طفولتي التي قضيتها في هذه الأحياء، وفي بيت يشبه هذه البيوت، هناك بين أروقتها وتحت ظلالها أحاور هويتي واستعرض مسيرتي في أجواء مفعمة بالهدوء والسكينة وراحة البال".
ولا أملك، في الختام، إلا أن أقول له هنيئا لك هذه الأحاسيس التي لا يمكن أن يشعر بها إلا من أنعم الله عليه بنعمة الرضا عن النفس بعد أن اجتهد في القيام بواجبه في الحياة، وهنيئا لنا نحن بكتابك "الممتع المؤنس" ومتعك الله بموفور الصحة والعافية وطول العمر.

محمد إبراهيم الحصايري
تونس في 21/10/2006

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.