تونس...من بني هلال إلى الاستعمار الفرنسي
تعريب علي الجليطي - اطلعنا في الأعداد الماضية على حلقات من محاضرة الطبيب السويسري الدكتور بول لوي لادام (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنـــوان : تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة.(1)
واليوم نواصل الاطلاع على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة، مع لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما تضمنته هذه المحاضرة من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه وفي سياق وإطاره التاريخي، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها.
دعونا نستنتج، مع الدكتور بارطولون، أن اكتشاف الاستعمار الأوروبي لشمال إفريقيا، قبل قدوم الفينيقيين(2)، يفسر العديد من التشابهات الموجودة بين السكان البرابرة وتلك الموجودة في أوروبا. كل شيء يؤكد هذه المقارنات: الأنثروبولوجيا، البقايا الأثرية، التقاليد الإثنولوجية، البحث اللغوي وتاريخ مصر.
وفي العدد الأول من المجلة التونسية (جانفي 1894)، نجد عملاً هامًا للمؤلف نفسه عن أصول وأنواع الفينيقيين. هذا المراقب المتميز الذي فحص عدة جماجم من المقابر البونية التي حفرها الأب ديلاتر، أعاد بناء النمط القرطاجي الذي لا يزال موجودًا بين بعض السكان الأصليين في تونس.
وقد أكد في ليون السيد شانطر (Chantre)(3) هذه الاستنتاجات من خلال فحص ست جماجم من مقبرة صيدا، والتي أتيحت له الفرصة لدراستها في القسطنطينية. ومن المحتمل أن يتم البحث عن أحفاد القرطاجيين البونيين في الجالية اليهودية(4) التي تحتوي على أنواع متنوعة للغاية. أما بالنسبة للرومان والبيزنطيين والوندال، فلم يتركوا أي أثر ملموس في السكان، ويبدو أن آثار سيطرتهم دفنت في أعماق الأرض، أو اندثرت في أنقاض على سطحها. ربما يجب أن نبحث عن سبب ذلك في الاعتقاد بأن العناصر الإثنوغرافية التي قدمتها هذه الشعوب قد اختلطت وذابت في الأجناس الأمازيغية ذات الأصل الأوروبي، دون أن يكون من الممكن العثور على العلامات والسمات. ففي الأيام الأولى لغزو الجزائر، كان الفرنسيون يرون العرب فقط في كل مكان، واستغرق الأمر سنوات عديدة من المراقبة والدراسة حتى تمكنوا من التعرف على لغة وأعراف وعادات "القبائل" أو البربر. وفي تونس أيضا، يبدو أن الغالبية العظمى من السكان هم من العرب، ومع ذلك يقدر الدكتور برطولون أن أكثر من ثلثي سكان تونس هم من أصل أوروبي. صحيح أن الكثير من العبيد المسيحيين الذين جلبهم القراصنة إلى هناك، تحت السيطرة التركية، قدموا تعزيزا كبيرًا في الاستعمار الأوروبي. ولم يكن للعصابات العربية الأولى التي غزت(5) تونس في القرن السابع (647 م) أي تأثير على السكان.
وفي القرن الحادي عشر (1048م)، تم توجيه جحافل بني الهلال وسُليم الهمجية، الذين تم ترحيلهم إلى صعيد مصر والذين عاشوا فقط على النهب والسرقة، إلى شمال إفريقيا من قبل الخليفة الفاطمي الثامن بغرض الانتقام من ملك تونس الذي تخلص للتو من نيره. لقد هرع العرب البالغ عددهم 200 ألف إلى تونس ودمروا كل ما في طريقهم، مبررين قول أحد أشهر مؤرخيهم:
"أي بلد يحتله العرب يصير خرابا!"(6) ومع ذلك، فإن ممثلي النوع العربي الكلاسيكي قد اختفوا تمامًا تقريبًا من الايالة، وتم استيعابهم شيئًا فشيئًا ضمن العنصر الأمازيغي. ويقال أنه كان هناك أيام الغزو 12 مليون من الأمازيغ. وبحسب م. برتولون، فإن بني زيد، قرب قابس، هم من حافظوا بأكبر قدر من النقاء على وجوه أجدادهم التي تتميز بأنف محدودب كمنقار النسر.
وحين جاءت السيطرة التركية، في بداية القرن السابع عشر، كانت هناك هجرة كبيرة من الموريسكيين المطرودين من إسبانيا(7)، واستقر الكثير منهم في تونس، بينما أسس آخرون العديد من القرى على ضفاف وادي مجردة، (نهر باغرادا عند الرومان)، وكذلك في الوطن القبلي. وسرعان ما تحول أحفاد هؤلاء الموريسكيين من الحضارة إلى الهمجية (هكذا) من خلال الإجراءات الحكومية المعتادة للأتراك. ولا يمكن لأي طابع أنثروبولوجي خاص أن يميز الأتراك والموريسكيين عن بقية السكان.
إلى غاية الاحتلال الفرنسي، كان تقلص عدد سكان تونس تدريجيًا حيث انخفض من 20 مليون إلى أقل من 800 ألف نسمة. ومع الحماية، استأنفت الهجرة مسيرة تصاعدية إذ يقدر عدد سكان تونس اليوم(8) بـ 1.800.000 نسمة. وسرعان ما تضاعف عدد الصقليين والمالطيين إذ ينحدر الكثير منهم من عبيد سابقين. ويوجد حاليا في تونس 40 ألف إيطالي (معظمهم من صقلية) و16 ألف مالطي. وانتقل عدد الفرنسيين من بضع مئات في البداية إلى أكثر 10 آلاف اليوم، دون احتساب جيش الاحتلال الذي يبلغ حوالي 20 ألف رجل. أستعير هذه الأرقام من الملاحظات الإحصائية حول تونس التي نشرها السيد ف. توركان (V. Turquan)، رئيس قسم الإحصاء في وزارة التجارة. علما إن المقاطعات الجزائرية هي التي توفر الأعداد الكبيرة من السكان الفرنسيين.
في العدد 3 من المجلة التونسية (جويلية 1894) نشر الدكتور بارطولون نتائج بحثه الإحصائي حول الجالية الفرنسية في تونس من 1881 إلى 1892.11 وينهى عمله بمقارنة الجوانب المضيئة والجوانب المظلمة لاستنتاجاته. فالجوانب المشرقة هي ظروف التأقلم الممتازة، والمعدل المرتفع للولادات مع معدل وفيات منخفض نوعًا ما، وكذلك كثرة عقود الزواج وندرة الولادات غير الشرعية.
أما الجانب السلبي، في هذا البلد السليم والمفيد للصحة والذي يمكن استخدامه للفلاحة، فيتمثل في تمركز الجالية الفرنسية في المدن حيث يعيش 23٪ فقط من الفرنسيين في الريف. ولا نجد من الفرنسيين سوى 12 مزارعًا فقط من أصل 100 فلاح، في حين أنهم يمثلون 30٪ من الموظفين. لذلك تعيش الجالية بشكل أساسي على الميزانية المحلية. علاوة على تناقص نسبة المهاجرين حيث ما انفكت السفن الفرنسية تحمل عددًا متزايدًا من الركاب، ولكنها تترك عددًا منهم في البلاد ما فتئ يتضاءل شيئا فشيئا. ففي عام 1892، تم نقل ركاب مدنيين من تونس أكثر مما تم جلبه إليها بفارق 152 نفرا. إن الفرنسيين بصدد التخلي عن تونس، والوضع الأكثر خطورة يتمثل في عدد الإيطاليين الذي يعتبر حتى الآن كبيرًا جدًا، وهو يزداد ارتفاعا من سنة إلى أخرى(9).
ومهما كان الأمر، فقد أثّرت الحماية الفرنسية حتى الآن بشكل جيد في هذا البلد، خاصة من حيث التنمية الاقتصادية والتجارية والفلاحية، والنتائج التي تم تحقيقها بالفعل تسمح لنا بالأمل في المزيد من التطور والتقدم. ويمكن للمرء أن يدرك ذلك من خلال الاطلاع على المجلدات الأربعة التي نشرها السيد "ميلي" (Millet) المقيم العام بمناسبة اجتماع مؤتمر قرطاج في تونس.
إلى هنا تنتهي مرافقتنا للرحالة الطبيب السويسري في زيارته إلى تونس سنة 1896، آملين أن تكون قد أضافت إليكم نظرة أخرى إلى تونس القديمة أو أن تثير لدى المختصين الرغبة في التعليق أو التصحيح حتى تكتمل الرؤية لدى القراء من عامة الناس حول تاريخ بلادنا العريق.
تعريب علي الجليطي
(1) نشرة عدد 1 مقتطف من محاضر جلسات الجمعية/ دورة 1896-1897/جلسة 9 أفريل 1897 برئاسة السيد إذ. دوفرين Dr Ed. DUFRESNE المرجع: المكتبة الوطنية الفرنسية/ مجلة الكرة الأرضية (LE GLOBE) صحيفة جغرافية- لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف/المجلد السادس والثلاثون الحلقة الخامسة.
(2) ألا تبدو هذه النظرية مجرد تبرير للاستعمار من خلال تثبيت الأسبقية التاريخية للحضور الأوروبي على الحضور الشرقي؟ قد يبدو ذلك مريبا فعلا ولكن من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أن أول رقم تضمنه التقسيم الجيني للبشرية الصادر سنة 2017 أنظر المرجع (https://www.eupedia.com/europe/Haplogroup_E1b1b_Y-DNA.shtm) يفيد بأن 53 % من الشعب التونسي أمازيغ وهو رقم رغم أهميته إلا انه ضعيف مقارنة بدول الجوار كالجزائر والمغرب، وقد يعود ذلك لموقع تونس المتقدم وطبيعتها الجغرافية السهلة التي جعلتها أكثر عرضة للغزو والاستيطان خلال التاريخ. ثم نجد في هذا التقسيم العنصر الأوروبي بنسبة 25% في الجينات التونسية أي أن كل تونسي علي أربعة من أصول أوروبية وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالرأي السائد الذي يتحدث عن انقراض الوندال والقبائل الجرمانية التي استوطنت تونس... أما العنصر العربي فيبلغ 13،8% فقط من مكونات المجتمع التونسي وهو ما يدحض عدة نظريات التي تتحدث عن أهمية العنصر العربي لدي التونسيين..والله اعلم...
(3) ارناست شانطر(Ernest Chantre) عالم آثار فرنسي (1843-1924).
(4) من الغريب أن حصر المؤلف هؤلاء الأحفاد في الجالية اليهودية؟
(5) هكذا حسب المؤلف في حديثه عن الفتوحات الإسلامية.
(6) عبد الرحمان بن خلدون تحت باب "أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب."
(7) بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس، فرضت السلطة الجديدة سنة 1502 على المسلمين الذين بقوا هناك اعتناق المسيحية. وفي الفترة الواقعة ما بين 1609 و1614، أجبرت الحكومة الإسبانية ممن رفض الاعتناق على مغادرة المملكة فاتجهوا الى شمال افريقيا.
(8) سنة 1897 تاريخ إلقاء المحاضرة.
(9) من المعلوم أن هذه النسب تغيرت فيما بعد بسبب السياسات التحفيزية التي قامت بها سلطة الحماية لقلب موازين القوى الديمغرافية.
قراءة المزيد
رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف
تونس: جولة في المدينة العتيقة...
- اكتب تعليق
- تعليق