تونس: جولة في المدينة العتيقة...
تعريب علي الجليطي - اطلعنا في العدد الماضي على الحلقة الثانية من محاضرة الطبيب السويسري الدكتور بول لوي لادام (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنــوان: تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة.
واليوم نواصل الاطلاع على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة، مع لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما تضمنته هذه المحاضرة من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه وفي سياق وإطاره التاريخي، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها.
ندخل المدينة العربية من باب فرنسا، أو باب البحر. ويمكنك التجول حول المدينة على متن الترام الذي ينطلق من باب فرنسا، ويمر عبر نهج مالطا فنهج قرطاجنة نحو باب سويقة، ويمر أمام قلعة القصبة قبل أن يعود عبر باب الجديد ونهج الجزيرة. أما داخل المدينة العتيقة، فتستحيل حركة السيارات إذ هي متاهة مُشَكّلة من انهج متعرجة وضيقة للغاية، محاطة بعدد لا يحصى من الأزقة. وفي بعض الأماكن، تتحول الطريق إلى نوع من النفق أي ممر مغطى، وهو ما يلاحظه المرء على وجه الخصوص في الأسواق التي تعتبر من المواقع الأكثر جاذبية في تونس. ومن أشهر تلك الأسواق سوق السراجين الذي يحتوي بالفعل على ما يثير الإعجاب والانبهار. ومن المعلوم أن كل بذخ العرب يُحمَل على خيلها مثلما يمكننا ملاحظته أيام احتفالات الفروسية "الفنتازيا" حيث تكون هذه الحيوانات النبيلة مغطاة بأقمشة من المخمل والحرير كلها مطلية بالذهب والفضة.
ويوجد في تونس العديد من المساجد. إذ يقال أنها لا تقل عن 350 مسجدا في مطلع القرن الثامن عشر، منها الجامع الكبير أو جامع الزيتونة الذي سبق ذكره. ومن أشهرها مسجد القصبة حيث يقوم باي تونس بأداء عباداته. تعلو هذا المسجد مئذنة مربعة بثلاث قبب ذهبية كبيرة ومطرزة بالتشابك على شكل تخريم من الحجر الناعم، ويرجع تاريخ بنائها إلى سنة 630 للهجرة، أي منتصف القرن الثالث عشر.
أما مسجد سيدي بن عروس فهو ذو قبة مدببة، مغطاة بقرميد مطلي باللون الأخضر، ومئذنة مثمنة الأضلاع تعلوها شرفة أنيقة. لقد كان في السابق، كما علمنا، كنيسة مسيحية بناها الإمبراطور شارلكان. وأخيرًا يوجد في ضاحية باب سويقة جامع سيدي محرز بقبابه الخمس البراقة التي جعلته يُقارن بآية صوفيا في القسطنطينية.
أبواب المساجد في تونس مغلقة تمامًا أمام الأوروبيين حيث عليهم الاكتفاء بنظرة الإعجاب بها من الخارج ؛ لذلك ظلت حتى الآن تفاصيل ترتيباتها الداخلية مجهولة تمامًا. وفي مؤتمر قرطاج، قدم السيد جوكلر (Gaukler)، رئيس مصلحة التراث والفنون بتونس، عرضا لفائدة قسم الآثار تضمن 200 صورة نجح في التقاطها، داخل 27 مسجدًا رئيسيًا في تونس، أحد الأعوان المحليين لمصلحة التراث. ونحن نتفهم النجاح الذي حققه لدى علماء الآثار هذا العرض المثير للاهتمام.
تحتوي المساجد الكبرى في تونس على كنوز حقيقية من الفن والأثريات والتي ستبقى لفترة طويلة، وهو ما نخشاه ، بعيدة عن الأنظار الجاهلة بأصول الفن لدى المسيحيين.
عندما كان الطب مزدهرا بين العرب، أسّسوا عددًا كبيرًا من المستشفيات حيث كان الرازي الشهير سنة 950 م على رأس مستشفى بغداد. وفي تونس، تم بناء أول مستشفى أو مرستان في القرن السادس عشر لمّا كانت تحت السيطرة التركية. في حين تم افتتاح المستشفى الصادقي سنة 1880 من قبل الصادق باي بنفسه. وهذا المستشفى الخاص بالعرب حصريا محافظ على نظافته جيدًا ومجهز بشكل كبير. وبعد أن وفّر لي المدير مترجمًا يتحدث الفرنسية بطلاقة، تمكنت من زيارة كل أقسام هذه المؤسسة.
يستقبل المستشفى الصادقي المصابين بجميع الأمراض ويعالجها. ويوجد قسم الجراحة بغرف ذات تهوئة جيدة. كما توجد عدة غرف مخصصة لأمراض العيون المنتشرة كثيرا في البلاد. وهناك قسم مخصص للمختلين عقليا يتكون من عدة قاعات مربعة كبيرة وعدد من الغرف التي تتواصل جميعها بين بعضها البعض. كما رأيت عددا من المقاعد منتصبة في القاعات الكبيرة حيث يتجول المرضى بكل هدوء. وأثناء زيارتي، كان عددهم 47 مصابا لم يكن أي منهم مضطربا أو هائجا، لكن المترجم قدمني إلى درويش مهلوس يعاني من الجنون الديني (هكذا)، وكان مؤذيا جدا على حد قوله.
لاحظت بعض المصابين بالكآبة منكفئين على أنفسهم في الزوايا أو على طول جدران القاعة، والعديد من الحمقى والمجانين. أمّا على مدى محيط القاعة الكبيرة، فتوجد زنزانات صغيرة ونظيفة للغاية حيث يجلس المرضى قرفصاء على حصير من القش. مع الإشارة إلى وجود، في كل زنزانة، سلسلة حديدية قوية مثبتة بالجدار تنتهي بحلقة يتم تمريرها حول أقدام المرضى عند انفعالهم. وقد أخبرني سائقي أن ذلك يهدئهم على الفور. ولكن في مصحاتنا قلّ ما تنجح وسائل ضبط النفس هذه التي تم الاستغناء عنها منذ نهاية القرن الماضي بفضل بينيل(1) . ومهما يكن، لم أر أية وسيلة ضغط بل أن المترجم الشاب الذي يرافقني أكد لي بأنه لم يتم اللجوء أبدا إلى استعمال القوة رغم احتواء المصلحة في بعض الأحيان على قرابة الـ 90 مختلا.
ولا يوجد مدمنون على الكحول، بل هذيان ناتج عن الحشيش أي القنب الهندي. غير أن إدمان الكحول يعيث فسادا بين السكان الأوروبيين في تونس. فأبناء البلاد يدخنون الحشيش في غليون صغير يُستنشق منه 5 أو 6 نفثات غالبًا ما تكون كافية للانتشاء. وعلى غرار إدمان الكحول والمورفين والتدخين، يكون التسمم بالحشيش حادًا أو مزمنًا. وهو شكل من أشكال الجنون تهيمن عليه ظواهر الهلوسة والذهول. ويتم قبول العرب المصابين في المستشفى بدون تصريح طبي. وفي البلدان الإسلامية، يبقى معظم المعتوهين أحرارا. بل يتم تبجيلهم وكأنهم "أولياء صالحين". وتعدّ هذه "المهنة" مربحة لدرجة أن هناك، كما يقال، العديد من العرب الذين يتظاهرون بالجنون ليعيشوا مرفّهين على حساب إخوانهم في الدين.
لقد تولى المستشفى الصادقي معالجة ما يقرب من 7000 مريض في السنوات الأخيرة. وبلغت مداخيله 100.000 فرنك في السنة متأتية بشكل رئيسي من الأحباس وهي الأوقاف التي لها طابع ديني ومخصصة للأعمال الخيرية حيث حدد القرآن في الأربعين(2) من الدخل والثروة الضريبة المتناسبة التي يجب على كل مسلم تكريسها لمساعدة الفقراء.
تعريب علي الجليطي
(1) فيليب بينال (1745 - 1826) عالِم فرنسي وطبيب مشهور رائد في الطب النفسي ومعالجة المرضى عقليا.
(2) لم نجد في المراجع المتوفرة ما يؤكد هذا الرقم.
قراءة المزيد
رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف
- اكتب تعليق
- تعليق