رحلة الدكتور السويسري "بول لوي لادام" إلى تونس ومداخلته سنة 1897 أمام جمعية الجغرافيا بجنيف
تعريب علي الجليطي
تمهيد
عشت في مطلع الثمانيات من القرن الماضي بجنيف لفترة فاقت السنتين. وبقدر ما لم يترك المجتمع السويسري في ذاكرتي هوى كبيرا لنمط حياته البعيد عن حرارة شعوب البحر المتوسط، بقدر ما بقي في قلبي من حنين كبير لطبيعة هذه البلاد الجميلة وشغفٍ بطبع أهلها في الانضباط للقانون وقواعد النظام ودقة العمل. وظلت علاقتي الحميمة بها مستمرة عن بعد عبر مختلف وسائل التواصل إلى أن عثرت صدفة بالمكتبة الوطنية الفرنسية (BNF) على مداخلة حول تونس نهاية القرن التاسع عشر نشرتها مجلة تحمل اسم الكرة الأرضية (LE GLOBE) وهي صحيفة لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف.(1)
وصاحب المداخلة هو الطبيب الدكتور بول لوي لادام (Paul Luis Ladame) الذي زار تونس ربيع سنة 1896 في إطار مشاركته في مؤتمر قرطاج الذي عقدته الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة. وبعد عودته إلى سويسرا قدم الطبيب خلاصة حول مسار رحلته أمام أعضاء جمعية الجغرافيا بجنيف في جلستها المنعقدة يوم 9 افريل 1897 تحت عنـــوان : تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة(2). وكانت بالنسبة لي فرصة ثمينة لمعرفة موقف هذا المواطن السويسري المثقف والمختص من بلادنا، وبطبيعة الحال مناسبة جيدة لمزيد الاطلاع عن قرب على أحوال تونس في عهد ولى وانقضى بعيون أجنبية لا تفوتها شاردة ولا واردة مثل هذا الطبيب الرحالة.
والدكتور بول لوي لادام هو طبيب أعصاب ولد بمدينة نوشاتال السويسرية يوم 15 جوان 1842 وتوفي يوم 19 أكتوبر 1919 بجنيف حيث أقام فيها منذ سنة 1884 كأستاذ بجامعتها في مادة الأعصاب وعلم النفس وانثربولوجيا الإجرام. وكان بالخصوص عضوا بجمعية التاريخ والتراث بجنيف. واهتم في حياته بالمسائل المتعلقة بحماية الأطفال والمنظومات التربوية المعنية بالأيتام.
وبعد قراءتي لنص المداخلة عن رحلته إلى تونس، رأيت من المفيد أن أبادر بنقلها إلى اللغة العربية لإبلاغها لكل من هو مغرم بالتاريخ والجغرافيا وتعميم المعرفة بأحوال بلادنا بعيون الآخرين، مع تقسيم المداخلة إلى 7 حلقات تخفيفا من عبء القراءة ونزولا عند مقتضيات العمل الصحفي مع وضع عنوان مميز لكل حلقة.
ولكن أود في نهاية هذا التمهيد لفت انتباه القارئ الكريم إلى ما رافقني من شعور بالحرص على نقل النص كما هو في الأصل بما يتضمنه من مواقف وعبارات قد تبدو في بعض الأحيان سلبية وربما حتى عنصرية، ولكن وضع النص في موقعه، من حيث كونه معبرا عن شخصية صاحبه وفي سياق وإطاره التاريخي الذي يعود إلى أكثر من قرن مضى، قد يخفف من تلك النظرة المعادية والمتعالية التي قد تبدو لنا من الوهلة الأولى. وعلاوة على بعض الملاحظات التي أضفتها أسفل الصفحات لمزيد التوضيح والبيان، فاني أعوّل على ذكاء القارئ وفكره الثاقب لترك الشوائب وفرز الغث من السمين والخروج من المحاضرة بما يفيد منها. وفيما يلي نصها .
تونس ( باردو- قرطاج - بنزرت) سلالات تاريخية، العصور القديمة والحديثة/ بول لوي لادام / جنيف 9/4/1897
الحلقة الأولى/ تونس بوابة الشرق...
في ربيع سنة 1896 وعلى أرض إفريقيا الرومانية، اجتمعت الجمعية الفرنسية لتقدم العلوم بتونس العاصمة بمناسبة مؤتمر قرطاج، حيث جذبتها الذكريات العظيمة للعصور القديمة، وكذلك التقدم المذهل (هكذا)(3) الذي تم إحرازه في هذا البلد الرائع منذ انتصاب الحماية الفرنسية. وقد انضم عدد من الأطباء السويسريين، من لوزان وجنيف، إلى هذه القافلة العلمية الكبيرة مستفيدين من التسهيلات الممنوحة لهم من قبل جيراننا المحبوبين.
وحيث بلغ إلى علم مكتب الجمعية الجغرافية خبر مشاركتي في هذه الرحلة، فقد رأت أن مساهمتي قد تكون ذات فائدة بالنسبة لكم. ولهذا يسعدني التحدث إليكم عن تونس لأشاطركم بكل اعتزاز الانطباعات والذكريات التي تركتها رحلة قصيرة إلى تونس في نفس سائح لا ينسى كونه طبيبا، حتى عندما يغامر في مجال غريب عن الدراسات المألوفة لديه.
انطلقت الرحلة من مرسيليا يوم الاثنين 30 مارس 1896 على الساعة الخامسة مساءً على متن باخرة عابرة للمحيطات (La Villa de Bône) تدفعنا ريح شمالية باردة. وفي تمام الساعة الخامسة من صباح اليوم الثالث، وصلنا إلى حلق الوادي بعد أن تقاذفتنا بلا هوادة أمواج البحر الأبيض المتوسط. غير أنها خفّت مع مطلع الفجر، حوالي الساعة الرابعة، حيث بات البحر أكثر هدوءًا وتقلصت تأرجحات السفينة تدريجياً حينما دخلنا خليج تونس. كانت قد ظهرت قبل ذلك، في الأفق على يمين السفينة، نقطة ضوء متقطّعة بانتظام، مثل تلك التي لدينا في رصيف الباكي (Pâquis)(4). إنها منارة سيدي بو سعيد، أعلى نقطة في هضبة قرطاج التي تنتصب بعلوّ 145 مترا فوق مستوى سطح البحر.
لقد بدأ ظلام الليل في التلاشي. وبدا الطقس كئيبا ممطرا. وظهرتْ، هنا وهناك على سطح السفينة، أشباحُ عددٍ قليل من الركاب المرتجفين من البرد وقد التفوا في شالات وأغطية صوفية، ثم سرعان ما عادوا إلى حجراتهم يطاردهم رذاذ الصباح. كنت متكئا على حافة السفينة أتأمل هذا الرأس الذي تتلألأ فوقه أنوار المنارة متخيلا المشاهد الفظيعة والمروعة للحرب البونيقية الأخيرة التي دارت رحاها على هذا المنحدر الصخري منذ أكثر من ألفي عام.
سيدي بو سعيد، كما يرشدنا دليل "جوان"، هو اسم لولي صالح يقع ضريحه في الركن الجنوبي الشرقي من المدينة. وحسب أسطورة محلية، فهذا الولي ليس سوى لويس التاسع، ملك فرنسا الورع التقي، الذي توفي في هذا المكان يوم 25 أوت 1270، والذي قد يكون اعتنق الإسلام وهو على فراش الموت قبل أن يطلق النفس الأخير. لكن الأسطورة المسيحية تفيد بان القدّيس لويس قد توفي بأعلى هضبة بيرصا، في نفس الموقع الذي تم فيه سنة 1846 بناء كنيسة لتخليد ذكراه، والتي تنتصب بالقرب منها اليوم الكنيسة الضخمة التي عمّدها الكاردينال لافيجيري (Lavigerie) سنة 1890.
بينما كنت غارقا في هذه الذكريات، كانت الباخرة تحلّ بحلق الوادي حيث كانت السفن المتجهة إلى تونس تلقي مراسيها معرَّضَة لجميع تقلبات الأحوال الجوية. ويوجد في تونس حاليا ستة عشر ميناء مفتوحا للتجارة. وقد تم تدشين ميناء تونس يوم 28 ماي 1893 وتبلغه السفن عبر قناة طولها 9 كيلومترات، محفورة وسط البحيرة. وقد فقدت حلق الوادي الكثير من أهميتها منذ افتتاح ميناء تونس حيث تقترب المباني من الرصيف. هناك، يجد المسافرون في انتظارهم حافلات الفنادق والحمالين وسيارات الأجرة وحتى الترام، بل وحين تطأ أقدامهم أرض أفريقيا سيلقون جميع وسائل الراحة والرفاه الشائع في الحضارة الحديثة، ولا يشعرون على الإطلاق بنزولهم في قارة أخرى. ولكن صحيح القول بأننا وصلنا إلى هذه الأرض، التي يسودها عادة الدفء والنور، في طقس مظلم وبارد وممطر.
ونحن نصعد قناة حلق الوادي، كدنا نظن أننا في هولندا أو على ضفاف نهر التاميز وليس بالقرب من الصحراء، وعندما وصلنا إلى تونس كان لدينا انطباع بأننا وصلنا إلى مدينة فرنسية. ومع ذلك فهذا المشهد الأوّلي مضلل، حيث أن منازل تونس "البيضاء"، كما أطلق عليها ديودور الصقلي(5) هذا الوصف، والتي تقف أمامنا الآن سرعان ما تذكرنا بأننا دخلنا العالم الشرقي.
والى اللقاء في الحلقة القادمة.
تعريب علي الجليطي
1) المرجع: المكتبة الوطنية الفرنسية/ مجلة الكرة الأرضية (LE GLOBE) صحيفة جغرافية- لسان حال جمعية الجغرافيا بجنيف/المجلد السادس والثلاثون الحلقة الخامسة.
2) نشرة عدد 1 مقتطف من محاضر جلسات الجمعية/ دورة 1896-1897/جلسة 9 أفريل 1897 برئاسة السيد إذ. دوفرين Dr Ed. DUFRESNE
3) (هكذا يقول المحاضر) كل التعاليق أسفل الصفحات ليست من النص الأصلي بل إثراء أردت إضافته لمزيد توضيح السياق أو التنبيه لما تتخلله العبارة من خروج عن المألوف.
4) " الباكي"حي في جنيف على حافة بحيرة ليمان.
5) ديودور الصقليّ أو ثيودور أو تيودور (Diodorus Siculus) مؤرخ يوناني عاش في القرن الأول قبل الميلاد. ذاع صيته بعد تأليفه موسوعته التاريخية العالميّة المعروفة بمكتبة التاريخ أو خزانة التاريخ.
- اكتب تعليق
- تعليق