نجيبة الزاير: هل من مأسسة لقضاء اخضر بتونس؟
السيد رئيس الجمهورية التونسية، قيس سعيد؛ السيدة وزيرة العدل، ليلى جفال، السيدة وزيرة البيئة؛ ليلى الشيخاوي.
تتمة للجزء الاول من رسالتي الموجهة لسامي جنابكم، و المنشورة بهذا الفضاء يوم 6 ديسمبر 2021، ها انني اتوجه الى حضراتكم بهذا الجزء الثاني من رسالتي تلك، إيمانا مني بأن تواجدكم بهذا البلد وعلى رأس رئاسة الدولة ووزارتين هامتين، (العدل والبيئة)، بهذه الحقبة الزمنية، يشكل لبنة يسجلها التاريخ في ميزان ايجابيات مواقفكم، بتلاقي حبكم لهذا الوطن ، الذي تتحملون من أجله وزر مهامكم.
هذا الوطن الذي بدت فيه البيئة هذه الايام تستغيث من الانتهاكات الكثيفة المسلطة عليها. فلا يفوتكم مشهد تكدس النفايات بمدينة صفاقس، ومشكلة النفايات الايطالية التي لا تزال على بساط مراوحة المحاكم الايطالية، بالرغم من اتخاذ السيد قاضي الحقيق بالمحكمة الابتدائية بسوسة قرارات شديدة اللهجة سُرعةً وجُرأةً، أدت الى ايقاف عديد المسؤولين.
ولا تفوتنا معايشة القضايا البيئية المرفوعة بشأن جبل فضلون، والتي ترفع بصورة حثيثة بقابس ضد المجمع الكيميائي، والقضايا المتعلقة بمنطقة سقدود بالرديف(1)، فضلا على العديد من القضايا البيئية التي تبين لنا أنه اصبح بتونس نزاع بيئي فرضته الانتهاكات لعناصر البيئة والاعتداءات عليها سواء من الاطراف أو من المؤسسات على اختلافها واختلاف انشطتها. الا ان الواقع يضعنا امام الغياب المتواصل للارادة السياسية لمأسسة قضاء للبيئة(فقرة1) وتجاهل مزايا وفوائد تلك المأسسة(فقرة 2) وايضا عدم توفير كتابة تمسك النزاع البيئي بالمحاكم(فقرة 3)
(فقرة 1) - غياب الارادة السياسية للجانب المؤسساتي القضائي لقضايا البيئة
ينجر عن الحق في البيئة، الحق في التقاضي(2) البيئي، ضرورة ان اللجوء للقضاء، هو بدوره حق من الحقوق الاساسية التي أتت عيها الصكوك الدولية لحقوق الانسان، والاتفاقيات الدولية التي انخرطت فيها تونس بشأن حماية البيئة. واتى بها أيضا الدستور التونسي الصادر في 27 جانفي 2014 بالتنصيص بباب الحقوق والحريات وبالفصل 27 منه، على الحق في المحاكمة العادلة التي تكفل فيه جميع ضمانات الدفاع في اطوار التتبع والمحاكمة.
إلا أنه وعلى أرض الواقع نلاحظ غياب ارادة سياسية نحو تكريس مؤسسات قضائية مختصة من محاكم بيئية واطار بشري مختص يشتغل بها. حال أنه ومن أسس الحوكمة الرشيدة، تكريس قضاء عادل ومستقل ليجسّد تكريس الحق في البيئة على أرض الواقع، وليفصل النزاعات البيئية المتعددة والتي أضحت آثارها السلبية متزاحمة بعديد الجهات والمدن التونسية، في غياب مؤسسات قضائية مختصة في حماية البيئة.
و لقد تفطن الدستور التونسي لسنة 2014 إلى معايير الحوكمة الرشيدة التي تمس حماية البيئة من قريب، بعديد الفصول خاصة منها المتعلقة بدولة القانون وبإرساء سلطة قضائية مستقلة بالباب الخامس. ويؤكد الفصل 102 من ذات الدستور على أن القضاء سلطة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات ".
كما أن المشرع طرح من جديد التقسيم الكلاسيكي للقضاء في تونس،و الذي يشكل القضاء العدلي (الفصل 115 من الدستور) والقضاء الإداري (الفصل 116) والقضاء المالي(الفصل117) وأيضا يتعرض إلى المحكمة الدستورية بالقسم الثاني من الباب الخامس للدستور المذكور والمتعلق بالسلطة القضائية( الفصول من 118الى 124) وذلك بتركيز محكمة دستورية تنظر في دستورية القوانين البيئية.
ولكن في المقابل، لا زالت البيئة الجريحة تتخبط بين أمواج نزاعات بيئية تتكاثر شيئا فشيئا، تتراكم ملفاتها، تائهة بين المحاكم والدوائر، و بكل المؤسسات القضائية على اختلاف اختصاصاتها الحكمية والترابية؛ وبين ثنايا ترسانة من المواد القانونية التي تتراوح من المجلات القانونية الى النصوص الخاصة.
يتوجه المرء للمحكمة لطب لطلب ردع او تعويض او ايقاف اذية بيئية مفرطة، يمكن أن ترتقي حتى الى ارهاب بيئي(3) مكتمل المقومات على معنى قانون مقاومة الارهاب ومنع غسيل الاموال الصادر في 2015 كما تم تنقيحه بالقانون الصادر في 2019. لكنه لا يعلم وجهته، ويستنجد بمحاميه الذي يجتهد بدوره في نشر قضية للنضال عنه بدائرة مدنية او جزائية، او لدى وكيل الجمهورية او القاضي الاستعجالي، بحسب الحالات.
فاننا نتوق اليوم الى مزيد الاهتمام بجدية بمأسسة حماية البيئة، وذلك باحداث مؤسسات قضائية بيئية، تكون متناغمة مع هذه المرحلة المتقدمة من حيث الانتهاكات متعددة الأوجه للبيئة(4). و نصْبُو الى أن تنكب الارادة السياسية على بعث مؤسسات خاصة بالنزاع البيئي وتلافي هذا الغياب والتجاهل لهذا الشأن الى حد هذا التاريخ(5) ضرورة أن التكريس للعدل والانصاف وتقوية المؤسسات في المجال البيئي.
تم التنصيص علىه بأهداف التنمية المستدامة المعلنة من الامم المتحدة بتاريخ 25 سبتمبر 2015(6)، التي ومنذ اعتمادها من منظمة الامم المتحدة، حققت قفزة مفاهيمية في المقاربة المتجددة لحقوق الانسان(7)، في اتجاه اعتبار الحق في البيئة حق من حقوق الانسان(8). ويكون تكريس احترام الحقوق والحريات عن طريق المحاكم، التي تمكن كل متنازع في الحصول على حقوقه، وعلى راسها حقع في البيئة السليمة.
(فقرة 2) - الفائدة من تخصيص قضاء أخضر
يتضمن إحداث قضاء أخضر باحداث مؤسسات قضائية مختصة في النزاع البيئي عديد المزايا. من هذه الفوائد أنه يصبح كل فرد اوذات معنوية، وعند المساس بعناصر ومكونات البيئة، يعرف اين يتجه بتقديم شكواه او تظلمه لتكون النتيجة المأمولة سريعة وناجزة.
ومن فوائد احداث مؤسسة قضائية مختصة في النزاع البيئي أيضا، تجميع كل القضايا البيئية بمحكمة مختصة او بدائرة بيئية مختصة بكل مؤسسة قضائية من الاقضية الثلاثة. هذه المؤسسات "الخضراء" تنشر بها كل النزاعات البيئية، وينظر فيها قضاة تم تكوينهم في مجال قانون البيئة، الدولي والوطني، فتكون منطلقا لسرعة التقاضي و الارتقاء بنوعية الاحكام التي يعللها ويسببها هؤلاء القضاة المتخصصون.
ومن مزايا المأسسة القضائية للنزاعات البيئية، تلافي تشتت الملفات البيئية بين الدوائر وبين القضاة وبين دفاتر الكتابة و يعفي من تناثر القضايا بين الاروقة، والأقضية الثلاثة.
كما من شان القضاء الاخضر، وضوح الرؤية القضائية لهذه النزاعات وسرعة اصدار الاحكام ووضوح طرق تنفيذها. فيتمكن الجميع من ربح الوقت، وتتوحّد الاتجاهات القضائية البيئية، وبذلك، يتم تركيز فقه قضاء يتعلق بالخصوصية البيئية بالبلاد.
لكن لا مناص من ملاحظة أنه وعلى ارض الواقع، لاتوجد محاكم بيئية بكامل تراب الجمهورية، ولا حتى دائرة بيئية مختصة بكل محكمة ابتداية وبكل محكمة استئناف. وهو أمر ينتظر فقط إرادة سياسية وتشريعية باعتبار أن إحداث دائرة بكل محكمة يكون بنفس الطريقة التي تم بموجبها إحداث دائرة للشيكات بدون رصيد ودائرة تجارية ودائرة للعدالة الانتقالية(9)، الى غيرها من الدوائر المختصة.
ومهما كان من أمر، نلاحظ أن عديد الدول انتهجت هذا التكريس المؤسساتتي لقضاء بيئي مختص، مثل كينيا التي أحدثت محاكم بيئية، وأحدثت الهند للمحكمة الوطنية الخضراء، وإحداث استراليا لمحكمة الارض والبيئة، وأيضا بالتايلاند والفيليبين والسويد والسلفادور والمملكة المتحدة والباكستان واليابان والولايات المتحدة والصين وكوستاريكا وكندا والشيلي والبرازيل وبنقلاداش(10).
كما ان إحداث محاكم خضراء، او دوائر بيئية، من شأنه يكرس عدالة القرب، بتقريب المرافق من كل المواطنين مهما كان التشكي البيئي الذي يلتجؤون من أجله للتقاضي بجهاتهم.
(فقرة 3) - غياب الارادة السياسية في تخصيص كتابة خاصة بالقضايا البيئية
يجدر بنا من جهة أخرى ملاحظة غياب كتابة خاصة بالقضايا البيئية بمحاكم تونس، التي لا يتوفر بها حتى دفترخاص بالنزاع البيئي، وهي من الامور التي تعيق الباحثين والدارسين والجامعيين في هذا المجال لمتابعة تطور فقه القضاء البيئي والاتجاهات والتطبيقات القضائية. فغياب دفاتر خاصة بالنزاعات البيئية بكتابات المحاكم يعيق عمل الكتبة عند تعاملهم مع المتقاضين والمحامين والمؤسسات البيئية، الاطراف في النزاع البيئي.
كما أنه ومن حق المجتمع المدني متابعة هذه الشان البيئي و القضايا البيئية في اطار مبدأ التشاركية والمشاركة الواردة بالنصوص الدولية المصادقة عليها تونس، وبعديد النصوص على غرار مجلة الجماعات المحلية الصادرة سنة 2018.(11)
كما ان غياب كتابة ومسك دفاتر خاصة بالنزاع البيئي من شأنه إعاقة عمل القضاة الباحثين في فقه قضاء عساه ينير اتجاهاتهم.ضرورة أن فقه القضاء مصدر من مصادر القانون والية لعمل القاضي في أبحاثه واستقصاءاته للوصول للحقيقة.
وطالما ان جل المحاكم بالجمهورية التونسية تتجه نحو الرقمنة، فانه لا يستصعى امر تخصيص دفترا مرقمنا تسجل به كل القضايا البيئية المنشورة والواردة والمفصولة والمؤخرة؛ وأيضا التي تكون موضوع طعون بالدرجات القضائية الاخرى. فيكون تخصيص كتابة للنزاع البيئي مهدا قويما لتجميع القضايا البيئية بدائرة وحيدة، أمر محمود لتطوير فقه القضاء البيئي وتوحيد الاتجاهات، ومنح البيئة مؤسسات قضائية تتمكن من متابعة النصوص المستحدثة، الوطنية منها والدولية، وأيضًا لتثمين حماية البيئة ولتطبيق مبادئ التنمية المستدامة وتوحيد فقه قضاءناجز وقوي بهذا البلد، وتكريس قضاء تونسي أخضر./.
نجيبة الزاير
قاضية
ومديرة الدراسات السابقة بالمعهد الاعلى
(1) التقرير السنوي لقسم العدالة البيئية، "مناصرة القضايا البيئيةé، المنتدى التونسي للحقوقالاقتصادية والاجتماعية.تونس.2020.
(2) ان الحق في التقاضي حق من حقوق الانسان، ورد بالمادة 10 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان المعلن في 10 جيسمبر 1948، وبالمادة 14 فقرة اولى من العهد الدولي للجقوق المدنية والسياسية المعتمد بتاريخ 16 ديسمبر 1966.
(3) نجيبة الزاير، قانون البيئة، مجمع الاطرش، تونس.2020، ص.593-594.؛
Nejiba Zaier,le terrorisme environnemental au prétoire du juge, https://www.leaders.com.tn/article/31003-le-terrorisme-environnemental-au-pretoire-du-juge;
Delphine Agoguet, « Une revolution citoyenne pour la justice et l’ecologie .Vers un juge de la protection environnementale ;Revue juridique de l’environnement n°3, volume 45, 2020,p.425-429 (4).
(5) التاريخ المقصود من صاحبة المقال هو تاريخ نشر هذا الاخير.
(6) https://www.arabstates.undp.org/content/rbas/ar/home/sustainable-development-goals.html;
(7) Paccaud Françoise. L’assemblée générale des Nations Unies pour l’environnement : un premier essai non transformé du PNUE. In: Revue Juridique de l'Environnement, n°4, 2014. pp. 641-650; Robin Degron, Les objectifs du développement durable 2015-2030, un cadre international d’actions sous forme forte contrainte financière, ; in ; Gestion financière publique, n°3, p.72 à 82, (en ligne), Afef Hammami Marrakchi, « L’intégration du concept de développement durable dans l’ordre juridique Tunisien », Thèse de doctorat en droit de l’environnement, Fsjpst, Tunis, 1998-1999.
(8) https://www.justice.gov.tn/index.php?id=184;
(9) احدثت دوائر جنائية متخصصة في العدالة الانتقالية بالمحاكم الابتدائية المنتصبة بمقار محاكم الاستئناف بتونس وقفصة وقابس وسوسة والكاف وبنزرت والقصرين وسيدي بوزيد، بموجب الامر عدد 2887 لسنة 204 المؤرخ في 8 اوت 2014، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 157 لسنة الصادر في في 12 اوت 2014،ص.2104، كما تم تنقيحه بالامر عدد 4555 المؤرخ في 29 ديسمبر 2014.
(10) https://wedocs.unep.org/bitstream/handle/20.500.11822/10001/environmental_courts_tribunals_FR.pdf?sequence=3&isAllowed=y;
(11) ويستشف من هذا القانون الاساسي عدد 29 لسنة 2018، الصادر بتاريخ 9 ماي 2018، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد39 الصادر بتاريخ 15 ماي 2018،ص.1710-1767.
قراءة المزيد
- اكتب تعليق
- تعليق