الجمعية الدولية للاستشراف والدراسات الاستراتيجية والأمنية المتقدمة تسلط الضوء على التدابير الاستثنائية وآفاق المسار الديمقراطي في تونس
وصلت الأزمة التي تعيش تونس على وقعها منذ عدة اشهر إلى حالة من التدهور ينذر بالانفجار في أي لحظة. فاستجابة لإرادة شعبية ملحّة وبعد تحذيرات رئاسية متكرّرة، أقدم رئيس الجمهورية، قيس سعيد، يوم 25 جويلية 2021 على تفعيل الفصل 80 من الدستور وفرض تدابير استثنائية لمدّة شهر.
تمثلت هذه الاجراءات في تجميد أعمال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة البرلمانية على جميع النواب وإقالة رئيس الحكومة وتولي السلطة التنفيذية والنيابة العامة من طرف رئيس الجمهورية.
جاءت هذه التدابير في أعقاب يوم غضب شعبي ضد منظومة الحكم وحكومة هشام المشيشي في معظم جهات البلاد تم فيه حرق مقرات حركة النهضة ورفع شعارات مطالبة بحلّ البرلمان وإسقاط منظومة الحكم.
داخليا، تلقت معظم فئات الشعب التونسي ونخبه بفرحة عارمة هذه التدابير، فيما وصفها راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، رئيس مجلس نواب الشعب، في مرحلة أولى، بالانقلاب على الدستور وعلى الثورة، داعيا أنصاره في الداخل وداعميه في الخارج إلى اسقاطها والدفاع عن الديمقراطية. ثمّ، في مرحلة ثانية، غير موقفه بعد انعقاد اجتماع طارئ لمجلس شورى الحركة وصف بالصاخب، رأى الغنوشي أن ما جرى فرصة لتصحيح مسار الثورة. لكن البيان الصادر عن الاجتماع غابت عنه الواقعية والنقد الذاتي.
أكد الاتحاد العام التونسي للشغل وباقي المنظمات الوطنية أهمية وضع خارطة طريق للخروج من أزمة الحكم التي أدّت إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور. ونفّذت المؤسستان العسكرية والأمنية قرارات الرئيس قيس سعيّد دون تململ.
إقليميا، قابلت الدول العربية الرئيسية بحماس قرارات الرئيس قيس سعيد، فيما تحفّظت عليها تركيا وقطر. أمّا القوى العظمى والمنظمات الدولية فقد تابعتها باهتمام وقلق دون توصيفها أو إدانتها، داعية إلى الاسراع بالخروج من الوضع الاستثنائي، دعما للديمقراطية.
فهل ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد من إجراءات يعدّ حلّا للأزمة أم هو استفحال لها؟ وهل يمكن لرئيس الجمهورية أن يكون منقذا للبلاد ويتجنّب ّ الانزلاق نحو "الدكتاتورية" كما يقول خصومه؟
كيف نستشرف المستقبل وماهي السيناريوهات المحتملة لهذه التطورات التي لاقت ترحيب 87 بالمائة من المستجوبين في استطلاع للرأي؟ وكيف يمكن تصحيح المسار حفاظا على الأمن القومي لبلادنا والاستجابة لإرادة معظم فئات الشعب التونسي؟
تجلّى الخطر الداهم الذي دفع الرئيس إلى اللجوء إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور في تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وبانحطاط أخلاقي وقيمي بما ينذر بانهيار الدولة من حيث:
• ترذيل البرلمان وسوء إدارته من قبل راشد الغنوشي وتعطيل أشغاله وتفشي العنف المادي والمعنوي فيه وتمترس بعض أعضائه خلف الحصانة البرلمانية لارتكاب جرائم وفضلا عن تمرير القوانين بالمغالبة وخرق للنظام الداخلي للمجلس.
• شلل العمل الحكومي بعد التعديل الوزاري الذي أدخله رئيس الحكومة هشام المشيشي ورفض رئيس الجمهورية تمكين الوزراء الجدد من أداء اليمين أمامه "لشبهات الفساد" التي تحوم حول بعضهم.
• سيطرة حركة النهضة المتمسّكة بمرجعيتها الدينية البعيدة عن الاسلام المعتدل الذي تميزت به تونس، على البرلمان والادارة والقضاء وتطويعهم لأجنداتها بما في ذلك التستر على الارهاب وجرائم الفساد المالي والأخلاقي.
• تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم المديونية بصفة غير مسبوقة واستشراء ظاهرة الفساد بما يهدد الدولة في كيانها.
• سوء إدارة جائحة كورونا من قبل حكومة هشام المشيشي وما سببته من مآسي وكوارث تمثلت خصوصا في أرقام قياسية في عدد الأموات وغياب التلاقيح واستغلال هذه الجائحة لتحقيق مآرب سياسية.
• مطالبة النهضة بتعويضات مجحفة جدا لفائدة أنصارها "ضحايا الديكتاتورية" والضغط على الحكومة لدفعها قبل يوم 25 جولية 2021 في ظرف مالي دقيق ّ تعاني منه البلاد.
• تأكيد التفقدية العامة لوزارة العدل وجود تنظيم سري لحركة النهضة.
• استحالة التنسيق والتناغم بين مؤسسات الدولة نتيجة احتواء حركة النهضة وحليفيها في البرلمان لرئيس الحكومة هشام المشيشي.
يظلّ الهدف الأسمى من هذه التدابير هو تأمين السير العادي لدواليب الدولة المدنية وتصحيح مسار الانتقال الديمقراطي بعيدا عن منطق الغنيمة والتمكين وليس الاستيلاء على السلطة أو تعطيل العمل بالدستور أو الحدّ من الحريات كما يدعي المستفيدين من المنظومة الفاسدة.
استشرافا لآفاق التدابير الاستثنائية، امكانية حدوث أحد السيناريوهات التالية:
1. وضع خارطة طريق وجدول زمني واضحين من قبل رئيس الجمهورية، في آجال معقولة، تحظيان بتأييد شعبي واسع ودعم دولي واضح.
2. قد يتحرّك القضاء بالسرعة المطلوبة ويفصل نهائيا في تقرير محكمة المحاسبات حول التمويلات الأجنبية للأحزاب المشاركة في انتخابات 2019 قبل نهاية شهر أكتوبر المقبل.
3. في صورة عدم التوصّل إلى حلّ البرلمان وتجنبا لأية انتكاسة للمسار التصحيحي يمكن تنظيم استفتاء شعبي عملا بالفصل الثالث من الدستور حول تعديل القانون الانتخابي والنظام السياسي وبالتالي الدعوة لانتجابات سابقة بلأوانها.
وحرصا على تحقيق الإرادة الشعبية المعبّر عنها يوم 25 جويلية 2021 وحفاظا على الأمن القومي لبلادنا ترى الجمعية الدولية للاستشراف والدراسات الاستراتيجية والأمنية المتقدمة ما يلي:
• اختصار الفترة الاستثنائية والأخذ في الحسبان إمكانية تطور المواقف الداخلية والخارجية سلبا والتعجيل بالمسار القضائي في كنف إحترام القانون وحقوق الانسان والاسراع بتكوين حكومة تصريف أعمال مصغرة تكون مهمتها تنفيذ خارطة الطريق المحددة من قبل رئيس الجمهورية ومشاركة المنظمات الوطنية والمجتمع المدني.
• التعجيل بحملة تفسيرية لدى أهم شركاء تونس الدوليين يقوم بها مبعوثون خاصون والهياكل الدبلوماسية بالداخل والخارج ولدى مراكز الرأي والتفكير تبادر بها مكونات المجتمع المدني والشخصيات المؤثرة. والتصدي قضائيا وبمختلف الطرق إلى استقواء حركة النهضة بالقوى الأجنبية من خلال مؤسسات الدعاية والتأثير.
• إنهاء المنظومة السياسية الحالية التي خدمت أجندات فئات سياسية معينة وتنكّرت لمصالح للشعب والتأسيس لجمهورية ثالثة.
• إيلاء حكومة تصريف الأعمال أهمية قصوى للملف الاقتصادي وتقديم رؤية واضحة في هذا المجال للاسترجاع ثقة المانحين ولتتمكن من التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية وخاصة صندوق التقد الدولي.
• تعجيل الفصل في قضايا تمويل الانتخابات سنة 2019 بالمال الأجنبي غير المشروع من قبل المحاكم المختصة.
• الاحتكام إلى الشعب في الخيارات المستقبلية فيما يخص القانون الانتخابي والنظام السياسي ومآل البرلمان الحالي عملا بالفصل 3 من الدستور حول الاستفتاء.
• تأمين الاستقلالية الفعلية للجهاز القضائي.
• التمسك بالسيادة الوطنية وعدم إعطاء الانطباع بالانحياز لتحالفات إقليمية.
يظل ما تحتاجه تونس ليس مجرد جمهورية ثالثة بل إعادة بناء الجمهورية وصياغة دستور جديد والاتفاق على عقد اجتماعي وسياسي آخر يقوم على أساس دولة قوية يحكمها رئيس جمهورية يراقبه برلمان ومحكمة عليا مع إصلاح المؤسستين العسكرية والأمنية وضمان حيادهما فضلا عن اصلاح القضاء وتأمين استقلاليته ونزاهته.
- اكتب تعليق
- تعليق