راشد الغنوشي: ما تْبزع مٍي كان ما تلڤى مٍي

راشد الغنوشي: ما تْبزع مٍي كان ما تلڤى مٍي

بقلم مولدي الأحمر - حياة البدو وتجار القوافل الصحراوية ترحال، والعرب العاربة منهم يجوبون القفر والصحاري البعيدة، حيث من يسيطر على بئر، أو يجمعه  حلف مع من له بئر، أو من يكون آخر من يحمل قطرة ماء خلال السفر على طُرق الرمال الملتهبة يكون دائما هو المتحكم في حياة الآخرين. لذلك فإن حكمة البدوي في الصحراء هي أن على المسافر الاحتفاظ بالماء لأطول فترة ممكنة، وأن لا يسكب قطرة واحدة منه، حتى وإن كان متأكدا من العثور عليه بعد حين، إلا عندما يراه رؤية العين ويتأكد من أنه في متناوله. هذه الحكمة يعرفها السيد راشد الغنوشي ويعمل بها منذ عشر سنوات، وقد صرح بها وشرحها لأتباعه بوصفه الزعيم الذي هو بمثابة قائد القافلة.

وقائد القافلة شيخها وراعيها، يسير بها في الصحراء لمسافات طويلة، فهو صاحب جلد خشن صبور (وصف السيد راشد الغنوشي نفسه بهذه الأوصاف) ، وهو عارف بدروب الماء فيها وخاصة بشروط ضمان الحصول عليه: القوة والأحلاف واقتصاد الماء.

قافلة السيد راشد الغنوشي ( ولا أقصد هنا مطلقا السخرية من حزب النهضة إنما أستعمل مجازا مناسبا للمقولة المعنية) بدأت رحلتها الحقيقية نحو السلطة سنة 2011. وخلال هذه الرحلة واجهت صعابا في الطريق أكثرها لم تكن تتوقعه. وأول هذه الصعاب كان انعدام الخبرة في إدارة دواليب الدولة، ثم غُربتها عن النخبة الثقافية الحداثية التي تشكلت في البلاد نتيجة لتحولات اجتماعية شهدتها تونس منذ منتصف القرن 19 . إلا أن أعظم هذه الصعوبات كانت الحمولة الإيديولوجية للقافلة ذاتها. فبينما تحمل قوافل تجارة الصحراء ألوانا مختلفة من البضائع يمكن في النهائية أن يتبادلها التجار فيما بينهم إذا كسدت السوق،  فإن السائرين وراء شيخ القافلة لا يحملون إلا بضاعة واحدة يريدون إغراق الأسواق بها، وهذه البضاعة لم يحصل عليها أصحابها بالبيع والشراء الحر، الذي يفترض التفاوض على السعر وإمكانية تقليب السلعة وحتى القدح المستحق أوالماكر في قيمتها، بل بوسيلة الدعوة العقائدية إلى اقتنائها.

عمليا وصلت القافلة إلى محطتها التجارية الأولى أواخر 2011 وكانت الطريق مفتوحة تقريبا بالكامل، وكان الوصول إلى الآبار سهلا مريحا، فكثير من المجموعات فرت من حولها، بينما كان البعض مشتتا وضعيفا. لكن التوغل في صحراء السياسة وأسواقها المعلنة والخفية ليس سهلا، ومعضلة القافلة الدعوية أنهالا تستطيع أن تبادل بضاعتها الوحيدة إلا بالسيطرة القهرية المطلقة أو باحتكار السوق وفرض بضاعة واحدة على حرفائه، وهذا لم يكن متاحا. ولأن قاعدتا السوق  الأساسيتين هما الحرية والنفعية الدنيوية، فإن القافلة بدأت تخسر زبائنها في السوق الدعوية التي لا تعترف بهذين القاعدتين. وعندما حاولت الفصل سياسيا بين البضاعة الدعوية ومضمونها الحقيقي النفعي حصل تشويش في خط سير القافلة ترتبت عنه خسائر في المحطة التجارية الموالية.

في هذه المحطة بالذات ظهرت أهمية التحالفات على طرق الصحراء الملتهبة، حيث يشكل الوصول إلى الماء حياة وأمانا. وقد استطاع شيخ القافلة أن يحصل بالمناسبة على توافق-حلف مع أكبر مجموعة سياسية تنتشر على طول خط الماء. يقول البعض أن التوافق-الحلف كان صفقة مغشوشة في انتظار أن يأكل أحد الحليفين حليفه ويحتفظ بآبار الماء لنفسه. لكن الواقع هو أن البضاعة الدعوية لم يكن لها سوق عند الحليف المقابل الذي دافع عن نفسه بالتشرذم والانقسام، والنتيجة أصبح ماء الطريق في يد أكثر من مجموعة، ما يعني أن سوق الأحلاف قد توسعت وأفلتت من الاحتكار، وشروط الوصول إلى الماء وكذا مبادلة البضائع قد تعقدت أكثر.

في سنة 2019 ظهرت تغيرات كبيرة في مورفولوجيا الصحراء السياسية وأسواقها ودروبها، وأصبح الماء فيها شحيحا ودروبه محفوفة بالمخاطر ، بينما تناقص عدد أفراد القافلة وظهرت الحاجة أكثر إلى التحالف بأي ثمن من أجل ضمان الماء. وخلال الأشهر الأولى من الرحلة إلى المحطة التجارية الموالية -وها نحن نعيشها ولم تتوضح بعد وجهتها - عاش شيخ القافلة أوقات عصيبة من اللايقين بشأن التزود بالماء. لكن الصحراء كانت دائما منتجة للمعجزات، وأنقذت كثيرا من الأنبياء وأبناءهم الذين عطشوا إلى الحد الأقصى وكادوا يموتون، إذ فجأة لاح المشيشي في أفق الصحراء مخادعا؟ لاجئا؟ راغبا في الحماية؟ المهم أن معه حمله من الماء. والماء بالنسبة لشيخ القافلة هو الأمان ذاته، فأن تحافظ على موقعك في الحكم يعني أنك تحافظ على صلتك بالماء ، ولا شيء في الصحراء أثمن من الماء حتى تصل إلى بر الأمان. هل ماء المشيشي عفن أو مر أو مالح أو حتى مسموم؟ لا يهم: "ما تبزع مي كان ما تلقى مي".... حتى وإن هلك الجميع....وها أن الجميع يهلك!

مولدي الأحمر

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.