فقيدة العلم والتفسير: الأستاذة الدكتورة هند شلبي في ذمّة الله
الدكتورة هند شلبي هي من الأوائل من النساء اللواتي تخرجن من كلية الشريعة وأصول الدين، وهي من النابغات التونسيات الأصيلات وقامة من قامات العلم، المتبحرة الراسخة في علوم الدين،المختصة في الدراسات القرآنية. هي القارئة المفسّرة، سليلة العلم والشرف من أسرة عريقة في العلم والصلاح والتقوى والتصوف، جدها الشيخ سيدي محمد شلبي كان شيخ القادرية وأبوها العالم الأستاذ المدرس في جامع الزيتونة الشيخ أحمد شلبي أخذ المشعل عن أبيه فكان كذلك شيخ الطريقة القادرية.
مسارها العلمي والجامعي
حفظت الأستاذة هند شلبي القرآن في سن مبكرة على يد الشيخ محمد الدلاعي رحمه الله عالم القراءات، ونذرت حياتها لخدمة القرآن الكريم حفظا وتدريسا وبحثا وتفسيرا وتأليفا.
حصلت على الإجازة في أصول الدين سنة 1968.
درست الفلسفة بكلية الآداب بتونس، بإيعاز وتشجيع من الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور. وهذا ما أكسبها بُـعـدًا فِـكـرِيا وتحليليا رائدا يظهر من خلال تآليفها وبالأخص رسالتها: "مشاكل الألوهية من خلال تفسير الرازي".
نالت درجة الدكتوراه الثالثة من كلية أصول الدين سنة 1981، وكان موضوع الأطروحة: "القرآن وعلومه في تونس حتى منتصف القرن الخامس الهجري".
مشائخها
تلقت العلوم عن ثلة من خيرة مشائخ جامع الزيتونة ثم الجامعة الزيتونية، نذكر منهم :
• والدها الشيخ أحمد شلبي.
• والإمام البحر الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور الذي درست على يديه مدة أربع سنوات في أقسام الكلية المدخل الديني والدراسات القرآنية والتصوف الإسلامي والعقائد وأثر في شخصيتها وفي كيفية طرقها لبحوثها، كما تذكر ذلك في الكلمة التي ألقتها في أربعينية الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله، ثم المشائخ والعلماء الأجلاء أحمد بن ميلاد، ومحمد العربي العنابي، ومحمد المختار بن محمود، ومحمد الشاذلي بلقاضي، العربي الماجري، محمد الحبيب بلخوجة، و محمد الحبيب الهيلة.
مسيرتها المهنية
بدأت بالمعهد الثانوي بنهج الباشا، حيث درّست الفلسفة بالعربية والفلسفة الإسلامية.
ثم عيّنت أستاذة التفسير وعلوم القرآن بالجامعة الزيتونية.
مناقبها و أخلاقها
هي غاية في اللطف والحياء، حياء كله وقار دون تكلّف. تميّزت الأستاذة الفقيدة بعدة مناقب ومهما ذكرنا من مناقبها فلن نحيط بشخصيتها الفذة ولن نعطيها حقها ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله وهذه باقة من بعض مناقبها و علو أخلاقها:
التواضع وهذا يبرز في العديد من المواقف، فكل محاولات دعوتها لتكريمها لم تلق منها إلا الإعتذار اللطيف. سواء من الخارج أو من تـونس ( منظمة الألكسو). أما الجامعة الزيتونية فقد جعلوا لها مدرجا باسمها وهذا التخصيص لا يقع عادة إلا بعد موت صاحبه. ولكنها كانت تعتذر بكل لطف عن المشاركة في هذا التكريم.
كانت معتزة بحفظها لكتاب الله العزيز، وشديدة العبرة عند ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قام بعض أقاربها بحمل مجموعة من كتبها من بينها تفسير يحيى بن سلام وقدموها هدية دون علمها إلى مكتبة الحرم النبوي الشريف، على صاحبها أتمّ الصلاة وأزكى التسليم، ولما علمت بذلك تأثرت تأثرا عميقا، وصارت تذرف العبرة كلما تذكرت أن بعض كتبها توجد في رفوف مكتبة الحرم النبوي الشريف.
كما أنها، مع غزارة علمها، في كامل التواضع مع طلبتها، لا تبخل عليهم بالنصح والتأطير وحسن الإرشاد. وكانت تعطف على الفقير منهم والغريب منهم من أهل المهجر.
سعة ثقافتها: تميّزت الفقيدة برسوخها في العلوم واتساع ثقافتها العلمية الراقية وكثرة مطالعاتها والتزامها بالمنهجية العلمية الحديثة مما أكسبها دقة في البحث وحسن استخلاص الأدلة. فقد مكنتها مسيرتها العلمية الفريدة ومستواها الأكاديمي الراقي من التوفيق والمواءمة بين منابع العلم والمعرفة العربية والإسلامية والغربية.
مؤلفات الأستاذة هند شلبي
إن الإنتاج العلمي للأستاذة هو الجانب الهام الذي يمكن من خلاله أن نتعرّف على ثراء هذه الشخصية الفذة وعلى سعة اطلاعها و مداركها ودقة بحوثها وتحليلها وقدرتها الفائقة على النقد والإستنتاج وإلمامها بجوانب المواضيع التي تتناولها، مع ملكة فائقة للغة دون تكلف، فتبدو مؤلفاتها سهلة القراءة والإطلاع. يتتبع القارئ جميع مراحل تحليلها المنطقي بكل سهولة حتى تصل به إلى الاستدلال والاستنتاج الذي توصلت إليه وتريد هي أن يشاركها للوصول إليه بكل سهولة، وكأن الأمر ليس فيه أي تعقيد ولا معاناة ولكن هو من قبيل السهل الممتنع.
كما يظهر من خلال مؤلفاتها العلمية تَـمَـكـُّـنَها الثابت بآآليات تحقيق المخطوطات من المنهجيات الغربية الحديثة غير المنهجية التقليدية الشرقية التي تميّزت بالثرثرة العقيمة المملة والثقيلة على القارئ. فقد امتازت الأستاذة في تأليفها وبحوثها ودروسها بحرصها الشديد على الإلمام والوصول مع القارئ أو المستمع إلى لب الموضوع والتزام بالطريقة المنطقية السليمة السهلة.
عرفت الأستاذة بالتزامها واعتكافها بالمكتبة الوطنية سواء في مقرها القديم بالعطارين أو في مقرها الجديد، فكانت تخصّص الكثير من وقتها في البحث والإطلاع على نفائس الكتب وتحقيق نوادر المخطوطات، ممّا أكسبها ثقافة إسلامية وغربية موسوعية.
وقد تركت مجموعة هامة من الكتب والبحوثّ القيّمة، ولم تكن تسلك السبل السهلة في التأليف والتحقيق، وهذا ما أخذته عن شيخها الإمام محمد الفاضل ابن عاشور حيث تذكر في الكلمة التي ألقتها في أربعينية الشيخ أنه كان في دروسه يحرص:"... في كل ما يأتيه بالدقة العلمية..." وتضيف "...وجعلنا متطلعين توّاقين إلى خوض غمار العلم والازدراء بالصعوبات والعراقيل التي من شأنها أن تَـفُــتَّ في العزائم وتثنيها عن مبتغاها...فجعلنا نهدف إلى ما كان يهدف إليه وعلمنا الصمود أمام الصعاب..."
وأبدأ بهاته الرسالة التي تجسّم ما ذكرته آنفا من أن الدكتورة لم تكن تروم السهل في اختيار مواضيع أبحاثها.
• مشاكل الألوهية من خلال تفسير الرازي.
رسالة صدرت بالنشرة العلمية للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين – العدد الثامن – 1406 هـ \ 1985 م.
تقول الدكتورة في مقدمة هذا البحث:
" ليس من السهل الخوض في تفسير الرازي ولا محاولة تركيز النظر فيه حول مسألة معينة.......وربما ازداد الأمر تعقيدا إذا كان المقصود من البحث جلاء فكرة الرازي حول مفهوم الألوهية. فإن هذا المشكل دقيق ومتسع في آن واحد. ويرجع السبب في دقته إلى كونه من مشمولات الماورائيات أو كما عبّر عن ذلك الرازي بقوله من الغيبيات".
• التصاريف
• تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه ليحيى بن سلام (124 – 200 هـ \ 742 – 815 م).
صدر في طبعة أولى محدودة من طرف الشركة التونسية للتوزيع سنة 1979 م ثم من طرف مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي بعمّان – الأردن التي أعادت نشره سنة 1429 هـ \ 2008 م.
قامت الأستاذة بتقديم وتحقيق هذا الكتاب الجليل، بتوجيه وإشراف الأستاذ الدكتور علي الشابي رئيس قسم الكلام والتصوف بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين.
هذا الكتاب هو باكورة إنتاجها العلمي، أظهرت فيه ومن خلاله طريقتها الرائدة في تحليل المواضيع التي تتناولها والتي ستكون الخيط الرابط بينها وبين جميع مؤلفاتها.
يقول الأستاذ علي الشابي في تقديمه لهذا الكتاب "... فإننا لا نجد أية دراسة جادة اهتمّت بالقرآن وعلومه في إفريقية خاصة في القرون الإسلامية الأولى، وهذا ما جعل عمل المحققة (أي هند شلبي) رائدا، فهو سيفتق للباحثين سبل البحث في القرآن وعلومه بإفريقية، وذلك بحكم طرحه لقضايا أصلية ما كان من اليسير الوقوف عليها أو تجليتها لو لم يكن للباحثة هذا الصبر البَـيِّـن على مثافنة النصوص، وتلك القدرة الفائقة على النقد والتحليل، وذلك التمرس البادي على الاستقراء والاستدلال...."
ويواصل الأستاذ علي الشابي بقوله: " إن صورة افريقية الإسلامية من خلال كتاب التصاريف ليحيى بن سلام المغربي تبدو جلية، يتآلف فيها تعلّق التونسيين بالقرآن، واستهدائهم به، وإلحاافهم في مقاومة البدع والأهواء... "
• القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس الهجري.
طبع بالدار العربية للكتاب بتونس سنة 1985 م.
وهو رسالة دكتوراه الحلقة الثالثة من الكلية الزيتونية موضوعها : "القرآن وعلومه في تونس حتى منتصف القرن الخامس الهجري" وهو بحث مفيض حول إسهام إفريقية المبكر في علوم القراءات في القرون الخمس الأولى ورغم مشقة هذا الموضوع وندرة مصادره فإن " الناظر في ميدان القرآن وعلومه بإفرقية يلاحظ أن الدراسات المتعلقة بالتأريخ تكاد تكون منعدمة إلا من دراسات جزئية تتناول الحديث عن شخصية بارزة أو تأليف مرموق..."
• التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق.
طبع بمطبعة تونس قرطاج بتونس سنة 1406 هـ \ 1985 م. وهو من أدق الدراسات في هذا الموضوع. فتبرز من خلاله سعة اطلاع الدكتورة على التأليف التي كتبت حول هذا الفن وما يتصل به سواء بالعربية أو باللغات الغربية فتستشهد بالعلماء المسلمين المختصين في علوم اللغة والتفسير وغيرهم وكذلك بعلماء الغرب أمثال Maurice Bucaille و Roger Garaudy.
• تفسير يحيى بن سلام الـتَّـيْـمي البصري القيرواني (المتوفى سنة 200هـ \ 815 م)
هو تحقيق علمي بديع لتفسير من أوائل التفاسير اعتمادا على المخطوطات الأصلية القديمة التي حفظتها المكتبة الوطنية بتونس ومكتبة القيروان.
لهذا التفسير مكانة علمية وتاريخية كبيرة:
- المكانة العلمية والتاريخية
أول من ذكر القيمة العلمية والتاريخية لهذا التفسير هو الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في كتابه : "التفسير ورجاله" (دار الكتب الشرقية تونس 1966م- ص: 27) بعد ما كان نكرة ومنسيا طيلة قرون. يحيى بن سلام هو مؤسس طريقة التفسير النقدي أو الأثري النظري التي سار عليها من بعده ابن جرير الطبري. وتفسيره يشكل حلقة وصل بين التفاسير السابقة كتفسير ابن مجاهد وتفسير الطبري.... وهو يجسّم النقلة النوعية التي حصلت في التفسير عموما وبذلك تكون الأستاذة هند شلبي سدت ثغرة في تاريخ التفسير خلال هذه القرون الأولى.
لهذ التفسير مكانة كبيرة عند الدكتّورة فقد شجعها على القيام به الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، فآلت على نفسها على أن تحقق له تلك الوصية. فحققت ما تيسر لها منه في جزئين صدرا بدار الكتب العلمية ببيروت بلبنان، 1425هـ \ 2004م
- الجزء الأول: من سورة النحل ...إلى سورة الفرقان...
- الجزء الثاني: من سورة الشعراء ...إلى سورة الصافات...
- الجزء الثالث: حرصت الفقيدة بكل جهودها على إتمامه وكان فرحها شديد بإتمام تحقيقه. وسيتولى أقاربها نشر هذا الجزء الأخير في أقرب فرصة حتى يعم النفع.
• "عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل" لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي
وهو في تفصيل قواعد رسم المصحف.
هذا بعض ما تيسر من ترجمة فقيدتنا الأستاذة الدكتورة هند شلبي، ومهما كتبنا عن مناقبها وأخلاقها وغزارة علمها وثقافتها الموسوعية باللغتين العربية والفرنسية فإننا لن نوفيها حقها.
عزائنا أن أحسن من يترجم عن الدكتورة هي تلك العلوم التي بـثـَّتها في صدور الطلبة والطالبات وتلك المحاضرات القيّمة التي كانت تلقيها في مدارج الكلية بصوتها اللطيف الرقيق والتي بقيت وستبقى راسخة في آذان وأذهان طلبتها.
كما أن خير ما تبرز من خلاله بكل وضوح ثراء شخصية الأستاذة الدكتورة هند شلبي هي مؤلفاتها والبحوث القيمة التي أصدرتها والتي تمثل عصارة جهدها وثمرات بحوثها المضنية في المكتبات العمومية والخاصة.
أنها كانت حافظة وخادمة للقرآن الكريم فنسأل الله أن يحفظها بحفظه ويكرم مثواها ويجعلها من الذين يقال لهم "...إقرأ وارق..".
رحم الله فقيدة العلم الأستاذة الدكتورة هند شلبي، ورزق أهلها جميل الصبر والسلوان.
ابراهيم بن ميلاد
تونس في 18 ذو القعدة 1442هـ \ 29 جوان 2021 م
- اكتب تعليق
- تعليق