حنبعل عند البوابات: العلم الحديث يحل معضلة عمرها آلاف السنين‪ ‬ويعثر على الطريق الحقيقي لمرور الجنرال القرطاجي عبر جبال الألب

بقلم محمد جماعة - تقول الأسطورة أنه بمجرد وصوله إلى أبواب روما بعد العديد من المراوغات، ألقى حنبعل رمحًا في اتجاه المدينة كما لو كان يسخر من أعدائه قبل أن ينسحب بجيشه تحت أنظار الرومان المرعوبين...

بين قرطاج وروما، القوتان اللتان اشتركتا الزعامة في البحر الأبيض المتوسط، كان هناك تنافس شديد تسبب في حروب كبرى، سميت الحروب البونيقية.

الحرب البونيقية الثانية، بين روما وقرطاج، والمعروفة باسم حرب حنبعل مليئة بالأسرار والالغاز التي لم يتم فهمها بالكامل بعد، لأن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ دائمًا. بدأت هذه الحرب في ساجونتو في إسبانيا عام 218 قبل الميلاد وانتهت في زاما عام 202 قبل الميلاد (المكان مثير للجدل أيضًا، لكن المؤرخون يميلون نحو مدينة جاما، على بعد ثمانية كيلومترات غرب مدينة سليانة ، تونس).

يقول سيرج لنسل في كتابه الموسوعي عن حياة حنبعل:‬ لقد تعلمنا الكثير من الأشياء من حرب حنبعل هذه، العبقرية العسكرية غير العادية للجنرال القرطاجي العظيم، الاستراتيجية الميدانية البونيقية‪،‬ التنظيم الصارم و المربع على الطراز الروماني، والتحول الجذري للثقافة الرومانية بعد هذا الصراع، فشل المناورات السياسية القرطاجية الصغيرة لصالح العناد والتصميم الروماني الشعبي، إلخ.

لكن ما بقي بالتأكيد أكثر حضوراً في ذهن العالم هو عبور حنبعل وجيشه جبال الألب، وهي سلسلة جبال تغطي الحدود الشمالية لإيطاليا، و تمثل حاجز طبيعي يحمي روما من أي غازي قادم من الشمال، فكيف لجيشٍ يبلغ طوله عدة "كيلومترات" ويتألف من أكثر من 50 ألف جندي ومرتزق و 20 ألف فارس و 37 فيلًا أن يفعل ذلك؟

سنجد طريقا أوسنخلق طريقنا، قال حنبعل لجنوده، جملةٌ بقيت راسخةٍ في تاريخ الإنسانية للتعبير عن الإرادة و قوة الشخصية.

لقد كانت مغامرة عظيمة‪،حتى أنه في زمان أخر وللاحتفال بالبطل القومي الفرنسي، نابليون بونابرت، ونجاحه في عبور ممر جبال الألب خلال حملته الإيطالية في 1799-1800، أدخل الرسام الفرنسي جاك لويس ديفيد إشارة صغيرة إلى حنبعل في تحفته بونابرت يعبر غراند سان برنار (شاتو دي مالميزون، رويل مالميزون، فرنسا)، كما لو كان يذكر بالملحمة الأصلية لقرون مضت‪.‬ تظهر هذه الإشارة "الخجولة" بشكل أكثر وضوحًا في التعديل الحديث للوحة للفنان الأمريكي كيهينده وايلي: نابليون يقود الجيش فوق جبال الألب (متحف بروكلين، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية)

حنبعل ، معبر جبال الألب. رسم جاك مارتن 1980

اقترح علماء الآثار وغيرهم من المؤرخين والمتنزهين ومتسلقي الجبال عدة طرق ممكنة عبر ممرات جبال الألب، وأصبحت تقريبًا قضية اقتصادية و سياحية في الوقت الحاضر، كما يروي باولو روميز في كتابه الممتاز حنبعل، ‪الرحلة، وكيف تتنافس بلديات جنوب شرق فرنسا على الطريق الحقيقي لحنبعل كمنطقة جذب سياحي رئيسية. لكن من بين الطرق المختلفة الممكنة، جنرالنا وجيشه، سلكنا طريقًا واحدًا فقط، ما هو، أو من أين؟

ثم يأتي العلم و معجزاته ...

في السنوات الأخيرة، تم إنشاء كونسورتيوم، أو شبكة تعاونية، من قبل أستاذ علم الأحياء وعلم الجراثيم ويليام سي ماهاني تضم جامعات من كندا والولايات المتحدة وأيرلندا الشمالية وأيرلندا وإنجلترا وإستونيا والبرتغال وفرنسا (تونس؟ ربما مرة أخرى).

سأل الباحثون أنفسهم سؤالًا أساسيًا: جيش كبير جدًا ويتألف من حيوانات لا يُفترض أن تكون هناك (خيول بأعداد كبيرة وخاصة الأفيال) ، لا بد أن تترك آثارًا بيولوجية وجيولوجية (براز ومظاهر أخرى مرتبطة بالرعي والاحتياجات المائية على وجه الخصوص).

ركزوا أولاً على الجانب الجيولوجي من خلال مقارنة كتابات بوليب وتيتوس لفيوس (المؤرخان الإثنان، ولا سيما بوليب، أحد معاصري الحرب، روا و وثقوا سيرة الحروب البونيقية) والبيانات الطبوغرافية لعمليات العبور المحتملة. وقد أظهروا أن المسار الجنوبي و بالتحديد في طريق كول دي ترفيرست
 (Col deTraversette) يظهر تعديلاً في الترسبات في الأرض في عدة أجزاء، وهي علامة على تدخل بشري مثل رعي أعداد كبيرة من الحيوانات.

في دراسةٍ ثانية تكميلية ركزوا على علوم الأحياء.

أحد التطورات التكنولوجية الحديثة هو ما يسمى بالحمض النووي القديم (anciant DNA‪:‬ aDNA). في الواقع، يمكن أن تظل جزيئات الحمض النووي سليمة لمئات أو حتى آلاف السنين في ظل ظروف بيئية معينة. يمكننا استخدامها وقراءة تسلسلها (دراسة ترتيباتها والتنبؤ بأنها تنتمي إلى ماذا ولمن).

معطيات أخرى مهمة هنا هي أن الحمض النووي للبكتيريا يختلف تمامًا عن الحمض النووي للكائنات الأخرى، وفي الوقت الحاضر نعرف الكثير عن الميكروبات التي نجدها في أمعاء الحيوانات والبشر، و نسميها ميكروبيوتا.

يجب أن نعلم أن نوعًا معينًا من الميكروبات، التي تنتمي إلى فئة كلوستريديا  (Clostridia) ، تشكل وحدها 70 ٪ من ميكروبيوتا الخيول، وبالتالي يمكن العثور عليها في فضلات هذه الحيوانات، ويمكننا أيضًا العثور على كلوستريديا في التربة، ولكن بنسبة صغيرة لا تتجاوز 2٪. لذلك فإن الاختلاف كبير جدًا بين البكتيريا الموجودة عادة في التربة والأخرى التي توجد هناك بسبب فضلات الخيول. كان هذا هو حجر الزاوية في الاكتشاف الكبير لفريق البروفيسور ويليام سي ماهاني.

تنتج كلوستريديا ما يسمى بالأبواغ  (Des spores)، نوع من الكبسولات عندما تكون البيئة قاسية (هنا برد جبال الألب) ويمكن أن تبقى على هذا النحو لآلاف السنين، في انتظار أيام أفضل. جمع الباحثون عدة عينات كبيرة، عن طريق الحفر في أماكن مختلفة من مسارات حنبعل المفترضة، ثم وضعوا كل ذلك تحت الفحص باستخدام تقنيات التسلسل الجديدة التي تسمح بتحليل "تريليونات" (نعم تريليونات) من العينات في وقت قياسي وبتكاليف منخفضة.

وجد الباحثون أن العينات التي تم جمعها تركز كمية كبيرة جدًا من الحمض النووي الريبي الكلوستريديا، وبشكل أكثر دقة الفرميكوت، Firmicutes (البكتيريا التي تنمو في أمعاء الخيول، وتوجد في فضلاتها). إلى جانب التحليل الجيني، قام الباحثون بقياس عمر العينات بالكربون 14، ووجدوا أن العينات تعود إلى عام 218 قبل الميلاد، أي بالضبط عندما عبر حنبعل وجيشه جبال الألب.

كل هذه النتائج تجتمع بشكل مثالي و تثبت أن حنبعل قد مرعبر Col de Traversette منذ 2200 سنة! ونشرت هذه الدراسة في جزئين  في مجلة  Archaeometry بل كانت أيضًا موضوع فيلم وثائقي وكتاب علمي تاريخي للباحث صاحب فكرة الكونسورسيوم، ويليام سي ماهاني.

ومع إن حنبعل خسر الحرب و ضل مطاردا من طرف أعدائه إلى غاية انتحاره في ليبسا على ضفاف بحر مرمرة سنة 184 قبل الميلاد، إلى أنه ظل مصدر إلهام للباحثين والمغامرين في هذا العالم.

محمد جماعة
انتج هذا التقرير من خلال ورشة عمل عن الصحافة العلمية وفي ايطار مشروع "الصحافة والعلوم"،
وهو مشروع لمعهد جوته، بدعم من وزارة الخارجية الالمانية.