أخبار - 2021.04.12

محمد الطرابلسي :هكذا عرفت محمد الناصر (فيديو و صور)

محمد الطرابلسي :هكذا عرفت محمد الناصر

في البداية أرى أن أشير الى أن المعرفة بالأشياء تحصل بطريقتين: إما المعرفة المباشرة والتي تتم من خلال الممارسة العملية والتعاطي المباشر مع الحدث والتفاعل مع الفاعلين فيه، وإما المعرفة غير المباشرة والتي تتأتى أساسا من خلال نقل التجربة بواسطة الكتابة أو الرواية...

وهذه الأخيرة تبقى قابلة للتحقق والتأكد من خلال وضعها على محك الممارسة العملية والتعاطي المباشر...

أقوم بهذا التقديم لأبين أنه كان لي الحظ أن تمر علاقتي بسي محمد الناصر بالمعرفتين، المعرفة المباشرة والمعرفة غير المباشرة.

كيف ذلك؟

لقد التحقت في سن مبكرة بصفوف الاتحاد العام التونسي للشغل بعد ملاحقات أمنية انتهت بالطرد النهائي من الجامعة التونسية على خلفية نشاطي ضمن الهياكل النقابية المؤقتة للاتحاد العام لطلبة تونس غير المعترف بها، كان ذلك في منتصف السبعينات. في ذلك الوقت كان منسوب الاحتقان الاجتماعي في تصاعد مستمر بين الحكومة والاتحاد، بما يؤشر الى اقتراب موعد الانفجار والصدام في الشوارع، وبارتفاع وتيرة الاحتجاجات والاضرابات من جهة النقابيين ومجابهتها بحملات الطرد والاعتقال والشيطنة الإعلامية من جانب السلطة، ترسخت القناعة في أذهان الشباب الملتحق حديثا بالعمل النقابي بعد تجربة الجامعة التي كان يسيطر عليها التيارات اليسارية، بأن الدولة ووزاراتها ومؤسساتها وأجهزتها دون استثناء، تمثل العدو الطبقي للشغالين وأن كل مهادنة أو  تخاذل في النضال من أجل حقوقهم هو خيانة للطبقة العاملة وتنكر لمصالحها.

 

لم تكن هذه قناعة النقابيين الوافدين على الاتحاد من آفاق يسارية فحسب بل كانت قناعة غالبية النقابيين على مستوى قاعدي ولدى القيادات الوسطى للاتحاد، انجروا اليها بحكم الأجواء المتوترة والمشحونة.

استثناء وحيد -أو يكاد يكون الوحيد -أجمع النقابيون على إخراجه من دائرة العداوة، إذ منذ تلك الحقبة يحرص النقابيون في نقاشاتهم وخطبهم على عدم الإساءة اليه أو التهجم عليه بالرغم من أنه كان الرجل الذي يتولى في الحكومة إدارة الحوار الاجتماعي وتنظيم العلاقة بين الأطراف الاجتماعية والمحافظة على السلم الاجتماعية والذي كان من المفروض أن يكون في مرمى سهام الاتحاد والنقابيين عندما تتعطل لغة الحوار ويتدحرج الوضع الاجتماعي الى التوتر والمصادمات، هذا الاستثناء اسمه محمد الناصر– وزير الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت.

من بوابة هذا الاستثناء انطلقت معرفتي غير المباشرة بسي محمد الناصر، حيث علمت بما يتداول في أروقة المنظمة الشّغّيلة واجتماعات هياكلها حول شخصية وزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر، أنه رجل الحوار المتفهم لهموم الشغالين القريب لمشاغلهم، فهو الذي رسخ الحوار الاجتماعي وأسّس للسياسة التعاقدية بين أطراف الانتاج وهو الذي، بفضل ما أنجزه بوزارة الشؤون الاجتماعية أخرج مئات الآلاف من العمال من وضعية العمل الهش الى مجال العلاقات الشّغّلية المستقرة والمتكافئة.
هذا الوزير الذي تتصادم حكومته مع النقابيين في المصانع والمدارس والحقول والشوارع هو الذي يقدمه النقابيون بصفته من أسس "الفوبرولوس" لبناء مساكن للعمال، وهو الذي قام  بنقلة نوعية في مجال حقوق ذوي الاحتياجات الخصوصية وهو الذي أصدر الأوامر لتشمل التغطية الاجتماعية أصول المضمونين الاجتماعيين حماية للمسنين ودعما للعلاقات الأسرية والمحافظة على لحمتها وتماسكها.

هكذا عرفت سي محمد الناصر معرفة غير مباشرة، صورة لا تنسجم مع تصوراتي الجاهزة التي حملتها معي للفضاء النقابي من رواسب حوارات حلقات النقاش الجامعية والمعلقات الجدارية للحركة الطلابية، فكيف يمكن لوزير في حكومة "الأعداء الطبقيين" أن يكون بهذا الحسَ الاجتماعي وينجز أهدافا وبرامج هي في صلب المشروع الاشتراكي الذي نحلم به كيساريين وثوريين؟!

وتتطور الأحداث بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل نحو المواجهة، وتتعدد المواجهات والصدامات والاضرابات.. وكنا كشباب نقابي في الصفوف الأولى ندفع بقوة في اتجاه فصل الاتحاد عن الحزب الحاكم في معركة استقلالية العمل النقابي. وكما ورد في كتابكم – سي محمد – بالصفحة 166 في تشخيصكم للأوضاع في تلك الفترة حينما قلتم: "قد وصلت الأمور الى الحد الذي يسعى فيه كلا الطرفين لأن تكون له الكلمة الأخيرة"، فلمن كانت الكلمة الأخيرة حينها؟ الكلمة الأخيرة كانت لكم سي محمد، عندما قمتم يوم 25 ديسمبر 1977 بتقديم استقالتكم للرئيس الحبيب بورقيبة بعد الفشل في احتواء إضراب السكك الحديدية الذي نفذ في 17 ديسمبر من نفس السنة. وبعد ما أيقنتم أن الوزير الأول الهادي نويرة – رحمه الله – قد عدَل بوصلته في اتجاه المواجهة والصدام مع الاتحاد بعد إقالته لوزير الداخلية الطاهر بلخوجة، وتعويضه بوزير الدفاع الوطني، وزير الجيوش والحروب.

وللحقيقة - سي محمد -  فإن تلك الاستقالة لم تكن مجرد حدث اقتصر تأثيره وقتها على مجرى الصراع بين الاتحاد والحكومة بل إنه أحدث أيضا رجَة كبيرة داخل التيارات اليسارية خاصة بعد أن تبعتها استقالات أخرى لأعضاء من الحكومة، كانوا من بين أصدقائك

كان لا بد لنا حينها – كنقابيين منتمين لليسار - من إيجاد تفسير طبقي لهذه الاستقالات والإقالات، اختلفنا وانقسمنا داخل اليسار حول معنى هذه الاستقالات، وحول تقييم أحداث 26 جانفي 1978 وأسبابها ونتائجها..

وزراء في حكومة بورقيبة أبعدوا أو استقالوا وقيادات نقابية كانت لبضعة أسابيع مضت في قيادة نظام تعاملنا معه كنظام عميل وكومبرادوري، فكيف أصبح كل هؤلاء في طليعة مواجهة هذا النظام ومعارضيه وضحاياه؟!

لقد مثل كل ذلك زلزالا عصف بتصوراتنا المسبقة وتحاليلنا "الساذجة" وعجزنا على الإلمام بالأحداث وتفسيرها التفسير الصحيح.

ورغم أننا كنا أقلية بين الرفاق إلا أننا أصدعنا برأينا وبقناعتنا بأن من رفضوا التصادم مع الاتحاد وتدجينه، وعارضوا قمع مناضليه، لا يمكن أن يكونوا من الأعداء، بل لا يمكن أن يكونوا إلا من أبناء الشعب وفي صفه، وعلينا التعامل معهم من هذا المنطلق.
كانت نقلة نوعية في طريقة تفكيرنا وفي ممارساتنا وفي علاقاتنا مع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى وبالتالي في التعاطي مع قضايا شعبنا ومسار تقدمه على درب الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

هكذا كانت معرفتي غير المباشرة بمحمد الناصر، ولكني تعرفت بعد ذلك على سي محمد الناصر معرفة مباشرة، أولا لما تولى رئاسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو لما مثَل تونس لدى الهيئات الأممية بجينيف أو بصفته رئيسا للجمعية التونسية للقانون الاجتماعي ووزيرا للشؤون الاجتماعية ورئيسا لمجلس نواب الشعب ورئيسا للجمهورية، وعرفته أيضا كإنسان لم يصادف أن رأيته يوما متجهما أو عبوسا أو متشائما حتى في أشد اللحظات حرجا وفي أدق الظروف التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة.
كانت الصورتان المباشرة وغير المباشرة لمحمد الناصر متطابقتين، بل إن معرفتي المباشرة بسي محمد الناصر جعلتني أعي أكثر إقدامه يوم 25 ديسمبر 1977 على اتخاذ أصعب قرار في حياته وأشده ألما – كما جاء على لسان صاحبه – والمتمثل في تقديم استقالته للزعيم الحبيب بورقيبة. كان قرارا صعبا وانتحاريا على شاكلة انتحار الساموراي الياباني. ولكنَ فهمه كان يسيرا: محمد الناصر الطفل اليتيم، سليل الفقراء، المرتبطة شخصيته بالحركة الوطنية وبالنضال ضد الاستعمار، أحد البناة الأساسيين للدولة الوطنية الاجتماعية، ابن المصعد الاجتماعي المتطلع للحرية والعدالة الاجتماعية، ولنصرة المحرومين والمهمشين وضعفاء الحال، لا يمكن له أن يدخل في معركة تحطيم العمل النقابي وإخضاع منظمة حشاد وحرمان الشغالين التونسيين من أداتهم في الدفاع عن حقوقهم ممثَلة في الاتحاد العام التونسي للشغل...

محمد الناصر أدرك أن معركة تدجين الاتحاد وإخضاعه ليست معركته، ولا تشبهه في شيء: لا تشبه نشأته وأفكاره ورؤاه لمستقبل الوطن، لذلك فضَل الانسحاب ليبدأ رحلة عبور الصحراء مع ما تحمله من مخاطر سياسية وحرمان مادي وحسرة على وطن دخل نفق الاضطراب والتطاحن وإثارة الأطماع الخارجية...

سي محمد، سأتوقف عند هذا الحد رغم أن أحاسيس ومشاعر أخرى تدفعني للبوح بما هو أكثر، سأكتفي بما عبرت عنه لكي لا أحتكر الكلام مرددا: هذا على الحساب حتى أكمل قراءة الكتاب...

شكرا لكم، والسلام

جمهوريتان... وتونس واحدة
لمحمد الناصر
دار النشر, Leaders, مارس 2021, 684 صفحة, 88 صورة,  38دت
متوفر في المكتبات و على الموقع www.leadersbooks.com.tn

محمد الطرابلسي


قراءة المزيد

مذكّرات محمد الناصر: مصير الوطن ومستقبل الديمقراطية


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.