أخبار - 2021.04.09

مذكّرات محمد الناصر: مصير الوطن ومستقبل الديمقراطية (فيديو و صور)

مذكّرات محمد الناصر: مصير الوطن ومستقبل الديمقراطية

بقلم حمادي بن جاءبالله 

سيدي الرئيس 

اسمحوا لي ان أرفع  اليكم  خالص  الشكر  على بادرتكم الكريمة، اذ تفضلتم بدعوتي الى حضور هذا المحفل البهيج  وباتاحة الفرصة لي لأبداء الرأي   في الراهن الوطني  بمناسبة صدور كتابكم   هذه الايام عن دارليدرس، بعنوان "جمهوريتان وتونس واحدة"  والحق انه ما كان لي ان أتجاسر على القول في مؤلف أردتموه قولا في رحلة حياتكم الشخصية، لو لم أجده –في الحقيقة –قولا في واقع الوطن  ماضيا قريبا ’وحاضرا معيشا، ومستقبلا  نستعد له. وقد بدا لي ان من علامات المؤهلين لاحتلال موقع عال  في التاريخ الوطني أن المرء لا يستطيع فصل الذاتي عن الموضوعي في ما يقولون، ولا  مسلك أخلاقيات  المسؤولية العامة عن مسلك أخلاقيات القناعة الشخصية  في ما يفعلون  ولا الوعي الباطني  بسيلان الزمن  عن الوعي  المجرد بحركة التاريخ  حتى لكأن سيرهم الذاتية  قطع من حياة الوطن، وحتى لكأن شخوصهم المتفردة  مرايا صقيلة تمرأى فيها جيل برمته. فالصبي الذي ولد ذات يوم في قرية تمتد حقولها الخضراء حتى الأفق البعيد، ونعم بسماع أهازيج الفلاحين في موسم الحصاد، وبزغاريد النسوة في موسم جز الغنم و أشبه ما يكون بآلاف الأطفال من التونسيين.

ثم ان الفتى الذي فقد والده في أول عهده بالحياة فأحس بأنه فقد قطعة من كيانه، لا يشكل –في حد ذاته- ظاهرة  نفسانية متفردة ،ولا ظاهرة اجتماعية نادرة، وإنما هي سنن الحياة العامة في بعديها الفردي والجمعي، بل إنّ ما يجدر التنويه  به، أن تلك الواقعة الأليمة حددت مصيره ’إذ أدرك يومها أن ليس له- مستقبلا - إلا أن يعول على نفسه، وأن يشق طريقه في الحياة بنفسه، وان يتحمل بالتالي تبعات اختياره المستقل. (ص35) فإذا الطفل  راشد ، حر،  مسؤول قبل الأوان. وقلة هم الذين يمرون مباشرة من الطفولة المبكرة إلى الرشد المبكر ...

لذلك لم يكن الفتي في حاجة الى الخوف من  تهديد والده بأن يدفع  به إلى رعي الأغنام إذا لم ينجح في مناظرة "الشهادة الابتدائية'' (ص 34)’فقد نجح في جميع مراحل دراسته، في "المدرسة الفرنسية العربية'' وفي المعهد الصادقي   ومعهد خزندار ثم معهد الدراسات تلك مسيرة هيأت لصاحبنا  أن اجتمع له  الوعي بالحرية بما هو إحساس  وجودي علمته إياه الحياة، والوعي العلمي بما هو نتاج تربية  حديثة مستنيرة. ويقيني انه ما من شيء أجدي  في صناعة الإنسان الراقي   -ذكرا وأنثى -من الجمع المتين بين الشغف  بالحرية والتزام العقلانية. ذلك ما دفع الشاب  محمد الناصر إلى الانخراط في العمل الوطني انطلاقا من الاتحاد العام لطلبة تونس  وهياكل الحزب الدستوري.

 

وما من أحد يستكثر عليه  أن يكون  انخراطه في الوظيفة العمومية – اثر  التخرج-  في المجال الاجتماعي ،عن تبصر واختيار حر. فبعد أن حرمته الظروف المادية من دراسة الطب لخدمة الوطن في المجال الصحي، رسخت في ذهنه إمكانية أن يخدم أبناء وطنه في مجال لا يقل نبلا عن المجال الصحي. وهكذا تدرج  محمد الناصر من الإدارة إلى الوزارة  حتى رئاسة مجلس النواب فرئاسة الجمهورية  في لحظة تاريخية هي من أعسر لحظات التاريخ الوطني في العصر الحديث. فكأنما الله هيأ لتونس من أبنائها البررة من يحفظ الأمانة، ويرد كيد الكائدين، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وقديما قال المؤرخ الرووماني طاسيت  Corruptio optimi pessima وهويعني "أن أسوا الفساد فساد النخبة".

سيدي الرئيس 

أردتم لكتابكم هذا ان يكون قصا لما مضى  من حياتكم  -أطال الله بقاءكم في صحة جيدة وخير عميم  - فاذا هو تذكير بجزء مهم من تاريخ الوطن، امتد من ايام مقاومة الاستعمار الخارجي، الى المساهمة في بناء الدولة الوطنية بقيادة ذلكم الرجل الذي سماه التونسيون –عن جدارة –المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة.
شاهدنا  –نحن معشر التونسيين- التقدم الكبير الذي حققته الدولة الوطنية ’دولة الاستقلال  في سعيها إلى الارتقاء إلى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية، يوم سلمتم مفاتيح قصر قرطاج إلى خلفكم في مشهد تاريخي لا سابقة له، جمع العزة من أطرافها، حفظ الأمانة الديمقراطية التي هيأت لها دولة الاستقلال، والتشوف إلى غد يكون أفضل من يومنا ...

غير اني لا أخفيكم سيدي الرئيس أن أوضاع الوطن اليوم ليست على مداد ما  يريده لها أبناؤه الخلّص، اولئك  الذين  لا ولاء لهم إلا للوطن  وللوطن  وحده. وليس مما يحتاج إليه  -في هذا الجمع الكريم توصيف ما نواجه من مصاعب عاتية تكاد تعصف بتونس شعبا ودولة. ولئن كنت لا أودّ أن أثقل على أحد  بإعادة  التعبير عن يقين  راسخ عندي  منذ عشر سنوات، وهو انه لا خير يمكن ان ننتظره ممن حكم البلاد منذ قيام ثورة شباب مدرسة الجمهورية المطالبة ''بالشغل والحرية والكرامة الوطنية''.

لذلك استأذنكم، سيدي الرئيس، في أن أجدد أمامكم  نداء كنت توجهت به مع ثلة من زملائي منذ حوالي اربع سنوات الى القوى الاجتماعية لتأخذ الشأن الوطني بقوة الأنبياء وإيمان  المجاهدين، فتنقذ الوطن مما آل إليه من بؤس رجاؤنا أن لا بؤس بعده.
 ويقيني انه لا سبيل اليوم إلى انقاذ الوطن إلا على منهج تونسي أصيل، بتوسط بعث تحالف  اجتماعي  يوضع تحت سامي اشراف السيد رئيس الجمهورية، ويقوده الاتحاد العام التونسي للشغل  واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية واتحاد الفلاحين  والاتحاد الوطني للمرأة التونسية وجمعية النساء الديمقراطيات والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان  وجميع   الهيئات المهنية القائمة, فنانين وكتاب  ومحامين وأطباء وصيادلة ومهندسين...  فبفضل ذلك التحالف تحررنا أمس من  الاستعمار الخارجي، وبنينا دولة الاستقلال، وقطعنا أشواطا لا بأس بها على طريق  النمو، ولئن كان ما بقي علينا تحقيقه  اليوم أكثر واخطر. وايماني عميق أنه بفضل ذلك التحالف ذاته، يمكن اليوم ان تستعيد الإرادة الوطنية  عافيتها وتستانف  ضرب المواعيد مع التاريخ.

سيدي الرئيس

لئن سمحت لنفسي بالحديث في هذه المسالة في هذه المناسبة السعيدة، فلما يعرفه القاصي والداني عنكم. فجيلي يعلم أنكم من أرسى -في تقاليد العمل السياسي التونسي-  قيم التحالف البنّاء والوفاق الحق، بانتهاج  سياسة التعاقد منذ سبعينات القرن الماضي. وجيلي يعلم أن إيمانكم بسلامة ذلك التمشي  -مبدأ وغاية- هو الذي جعلكم –حين جد الجد –تنتصرون للدولة الاجتماعية، وترفضون الاعتداء على الاتحاد العام التونسي للشغل ،وتنحازون الى مستقبل الوطن، وتستقيلون –تبعا لذلك -من الوزارة انتصارا للمصلحة الوطنية العليا بما يتطلبه ذلك الانتصار –عند الاقتضاء - من تمرد على الانتماء الحزبي، وتضحية بالمصلحة الشخصية،ونزولا عند واجب نكران الذات كما كان يسميه الزعيم بورقيبة.

ومما تعظمون به في عيني شخصيا، أنكم انتصرتم  للشغالين، و كنتم تعلمون أنكم لا تملكون ما تعولون به عائلتكم.  ويقيني اليوم أن   أحفاد فرحات  حشاد والفرجاني بلحاج عمار وراضية الحداد  في أمس الحاجة إلى إعانتكم إياهم –من موقع التعالي التاريخي- على بعث هذا  التحالف الاجتماعي المنشود لغايات ثلات، هي   أولا  العمل على وقف نزيف مؤسسات الدولة وإرهاق الشعب بأثقال لا يرى لها أفقا ولا  جدوى ،وهي العمل ثانيا على تغيير القانون الانتخابي  بما يسمح بالحد من تفتت المشهد  السياسي، وإنتاج  أغلبية تكون قادرة على الحكم وتحمل مسؤولياته، وهي العمل ثالثا على تحويل الأغلبية الاجتماعية الصامتة الى كتلة سياسية  انتخابية، حتى يكون للانتخاب  القيمة التي تضفي عليه  المشروعية التي لابد منها لتكون للقانونية معنى حقيقي.

سيدي الرئيس

من اروع ما قرأت في كتابكم هذا، ما قاله لكم المواطنون الذين  صادفتموهم في طريقكم، بعد ان أديتم الأمانة خير أداء، واسترجعتم موقع المواطن البسيط، وهو اعز المواقع وأبقاها.قالوا لكم في تلقائية السجية: شكرا لكم على ماقدمتم لنا ...ويقيني انهم سيقولونها بذات الصدق والعمق غدا حين تساعدون –من موقع المواطنة- على بعث التحالف الاجتماعي الذي عليه يتوقف اليوم  مصير الوطن  ومستقبل الديمقراطية.

حماي بن جاءبالله

Corruptissima republica plurimae leges : plus l'État est corrompu, plus les lois se multiplient...
 
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.