أخبار - 2021.03.08

إلى سيادة رئيس الجمهورية: هل أتاكم حديث الفسيفساء؟

إلى سيادة رئيس الجمهورية: هل أتاكم حديث الفسيفساء؟

سيادة الرئيس،

تحية طيبة وبعد،

خبر لوحة الفسيفساء المعروضة في القصر الرئاسي بقرطاج

يزْدان أحد جدران ''القاعة الزرقاء'' بالقصر الرئاسي بقرطاج، التي تستقبلون فيها الكثير من زائريكم ومن تتوّلون دعوتهم، بلوحة فسيفساء رائعة تعود إلى العصر الروماني من تاريخ تونس، وقد تم تثبيتها بموضعها الحالي منذ عشرات السنين. وتتضمن تلك اللوحة مشهدا لأحد الأعيان وهو ذاهب للصيد رفقة مصاحب له وأحد خدمه.

ولا أشك في أنكم تَعْلمون أن تلك اللوحة الجميلة قد تم اكتشافها في موقع سيدي غريب الذي يبعد بضع كيلومترات عن بلدة برج العامري وحوالي أربعين كيلومتر عن مدينة قرطاج. وأنها كانت تمثل بِلاطا من الفسيفساء لأحد فضاءات حمّام خاص فاخر مُحاذ لقصر فسيح تم تزْوِيقه في أواخر القرن الرابع أو مطلع القرن الخامس ميلادي، كما بيّن ذلك أحد علماء الآثار التونسيين ضمن محصلة الحفرية التي أنجزها ونشر نتائجها.

ولوحة قصر قرطاج هي واحدة من مجموعة لوحات تم عرض البعض منها بالمتحف الوطني بباردو والبعض الآخر بالمتحف الوطني بقرطاج. وفي هذا الأخير تُعْرَض لوحة ''ساكبة الماء'' ولوحة ''ساكبة الورود'' المتميّزتيْن بطرافة موضوعهما وببراعة إنجازهما و لذا تُعَدّان من روائع فن الفسيفساء الذى ازدهر بالبلاد التونسية على مدى قرون عديدة كما تشْهد على ذلك مجموعات الفسيفساء المعروضة خصوصا بمتاحف باردو وسوسة والجم المتسمة بصيتها العالمي. ونظرا للقيمة الجمالية الفائقة للوْحتيْ متحف قرطاج المتأتّيتيْن من موقع سيدي غريب فقد تم عرضهما -صُحْبة روائع أخرى- خارج البلاد التونسية وذلك في أكثر من مناسبة.

وإن كانت لوحة فسيفساء قصر قرطاج في منأى عن الأخطار- رغم حرمان الجمهور العريض من مُتْعة مشاهدتها- فإن الأمر يختلف عن ذلك كثيرا بالنسبة إلى المئات من لوحات الفسيفساء التي عُثِر عليها في العديد من المواقع الأثرية والتي تُرِكَتْ حيثما وُجِدتْ إمّا لاعتبارها ذات قيمة جمالية متواضعة – رغم قيمتها العلمية التّوثيقية التي يمكن أن تَكون فائقة - أو للاقتناع بجدوى بقائها في أماكن اكتشافها لما في ذلك من إضافة لجمالية المعالم.

خبر فسيفساء بلاريجيا الفاجع

من فروع الثقافة التراثُ المادي وغير المادي الذي تطرّق له دستور 2014 في فصله الثاني والأربعين تحت تسْميّة ''الموروث الثقافي'' – وهي تسمية غير صائبة لما ينقصها من تدقيق وتفصيل - وأنزله منزلة المكسب الوطني الثمين الذي تلتزم الدولة بحمايته  و "تضمن حق الأجيال القادمة فيه". غير أن الأخبار المتصلة بوضعية المحافظة على التراث الثقافي وصيانته تدْفعنا يوميا إلى معاينة البون الشاسع بين الواجبات المحمولة على الدولة بنص الدستور والواقع الذي تعيشه معظم المواقع والمتاحف الأثرية.

ولا أتصوّر أن مهامكم السامية - على جسامتها وتنوّعها – يمكن أن تمنعكم من متابعة الشأن الثقافي، اعتبارا لما لهذا الشأن من أهمية بالغة واتصاله الوثيق، أحيانا، بالقضايا الحارقة التي تتصدّر اهتمامات المسؤولين وعامّة المواطنين. ولا أشك في أن البعض من تلك الأخبار السيئة بل والمُفْزعة التي تخصّ التراث الأثري قد تناهت إلى مسامعكم قبل انتخابكم رئيسا للجمهورية وبعد توليكم لتلك المسؤولية السامية.

ومن بين تلك الأخبار ما تداولته وسائل الإعلام، في الأيام الأخيرة عمّا يهدّد معالم موقع بلاريجيا الأثري والبعض من لوحاته الفسيفسائية النفيسة من خطر جسيم بسبب تكاثر المياه الجوفية التي طفح البعض منها وتراكم في مواضع عديدة من الموقع. وقد تمثّل الخبر في تصريح جاء على لسان محافظ الموقع الذي أفاد بأنه سبق له أن أعلم المصالح المختصة بوزارة الثقافة وبوزارة الفلاحة بضرورة التدخّل العاجل لدرء تلك المخاطر.

وموقع بلاريجيا الأثري يُعَدّ، كما تعلمون، من أهم المواقع التونسية. ومن ركائز صيته العالمي منازله التي تتضمّن طوابق سُفْليّة فريدة من نوعها، تزدان غرفها بلوحات فسيفساء يُعدّ البعض منها من روائع هذا الفن بالبلاد التونسية وحتى بمجمل العالم المتوسطي. وهي لذلك تُمثّل القبلة الأولى لزوار الموقع تونسيين وأجانب. وقد حضي البعض من هذه المنازل، في السنوات الأخيرة، بعملية صيانة تم تمويلها بفضل برنامج تعاون دولي رائد من الناحية التقنية، وفّر فيما وفّر حمايةً من خطر تسرّب المياه وتراكمها المُضر بمكونات البناءات وبلوحاتها الفسيفسائية. وإجمالا، يُعدّ الموقع، بما اكْتُشف فيه من معالم ونقائش وروائع فنية، حصيلة عمل أجيال من الأثرين والمؤرخين اشتغلوا فرادى وجماعات. وهو، وإن لم يزل يَعِد بمكتشفات أخرى متى توفّرت الإمكانيات المادية والبشرية، يمتلك من المُقوّمات ما يؤهلّه للطموح إلى تسجيل ضمن التراث العالمي، لو تم بذل الجهد المطلوب لذلك.

وحيث أن الموقع ينتمي إلى أكثر الجهات التونسية حرمانا في مجال التنمية فإن إتلاف البعض من معالمه الأكثر رمزية والبعض من لوحاته الفسيفسائية الأوسع شهرة، لن يمثل إلا كارثة بكل المقاييس سوف يتحمل مسؤوليتها جميع من لهم في ذلك ضلعٌ.

الخبر عن واقع الفسيفساء وما يحيط بها من معالم أثرية بمجمل البلاد التونسية

إن التركيز على وضعية موقع بلاريجيا الأثري، بمعالمه وفسيفسائه، اعتبارا للخطر المحدّق به، لا يجب أن يحجب ما عليه المعالم الأثرية التونسية، عموما، من أوضاع لا تُحْسد عليها.

فقبل الإشعار الأخير بما يهدد لوحات فسيفساء بلاريجيا بكثير، مُنيتْ لوحات مواقع عديدة أخرى بأضرار أو إتلاف جزئي أو تام. ومن ذلك سُوءُ طالع ما تبقّى من لوحات فسيفساء موقع سيدي غريب الذي اكتشفت فيه لوحة الفسيفساء التي تعرفونها. فإن اللوحات المتبقية بالموقع وعلى عين المكان هي في حالة تداع واندثار متواصل منذ سنة 1975، تاريخ الكشف عن مجملها. وذلك نظرا لانعدام الصيانة والترميم لمعلم له قيمة توثيقية كبيرة ونادرة في أكثر من مجال ومنها بالخصوص هندسة الحمامات ونظام تدفئتها المركزية. فالموقع الأثري، الذي لم تكتمل فيه الحفريات، مغلق، لا يعرفه إلا القليل النادر من أهل الاختصاص ومن أُتيحت لهم زيارته من عموم المواطنين في مناسبات قليلة.

نفس هذه الظروف الصعبة تعيشها لوحات الفسيفساء المحاذية للساحة العمومية بموقع تيبربو مايوس (Thuburbo Maius) / هنشير القصبات، المُكْتشفة منذ ما يزيد عن القرن ضمن آثار أحد أكثر الأسواق البلدية طرافة من حيث الهندسة. فهي تعيش منذ سنوات وضعية تشويه متواصل نظرا لخسوف الأرض التي ثُبِّتت فوقها. ومن ذلك أيضا لوحات موقع بيلاليس مايور (Belalis Maior)/ هنشير الفوّار المُكْتشفة في ستينات القرن الماضي والتي تمت دراستها في نطاق أوّل بحث دكتوراه دولة أنجزه باحث تونسي متخصص في الآثار والتاريخ الروماني القديم، وتمّ  نشره منذ ما يقارب نصف القرن.  وقد أصبح ذلك الموقع منذ سنوات عديدة، ضحيّة تصرّف بعض الخواص في أرض من المفترض أن تكون ملكا عموميا. ومن ذلك أيضا لوحات موقع أوبنا (Uppenna) / هنشير الشقارنية التي يقترب يوما بعد يوم من الاندثار التام بعد أن حضي أحد معالمه ولوحاته الفسيفسائية، في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي، بدراسة ضُمّنت في أطروحة دكتوراه قارب عدد صفحاتها الألف. وليست لوحات الفسيفساء لوحدها مهدّدة، فالعديد من المعالم الأخرى المنتشرة بالعديد من جهات البلاد من المتوقع أن تندثر برمتها إذا لم تحض بالعناية المطلوبة، ويعود ذلك إلى الأخطار العديدة التي تترصدها على غرر سيلان مياه الأودية، كما هو ماثل بموقعي حيدرة (َAmmaedara) وهنشير فرادس/ سيدي خليفة (Pheradi Maius) 

وقد مثّلت لوحات الفسيفساء المكتشفة بالبلاد التونسية منذ ما يناهز القرن ونصف عنوانا بارزا للتراث، لا لبعدها الفني فحسب وإنما أيضا لما تتضمّنه من معلومات شتّى حول خصوصيات المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولا غرابة في مبادرة دولة الاستقلال بتضمين صور للوحات فسيفساء على أوراقها النقدية وبإهداء لوحة لمقر منظمة الأمم المتحدة، سنة 1961، وتضمينها لوحات فسيفساء في جلّ معارض التراث المادي التي دُعيتْ إليها بلادنا في الخارج. كما أن الشعور بالاعتزاز نفسه هو الذي دفع إلى تخيّر أحد قاعات القصر الرئاسي بقرطاج لتثبيت لوحة سيدي غريب الفاتنة.

ولعل في استحْضارنا لأوضاع لوحات الفسيفساء المُتْلفة بلا رجعة أو المُهدّدَة بالإتلاف تذكيرٌ بمعضلات التراث الأثري بمجمله والتراث الثقافي على وجه أعم. فمشاكل لوحات فسيفساء بلاريجيا لا تُمثّل إلا جانبا من مشاكل الموقع الأثري المتصلة برداءة وسائل النقل العمومية المُؤدّية له، وضعف التجهيزات المخصّصة للزوار، وضحالة التوثيق، وغياب متحف محلي... وهي في مجملها تعود بالأساس لا إلى انعدام التمويلات فحسب، وإنما أيضا إلى قلة الموارد البشرية وغياب الاعتبار ضمن التّنمية الجهوية. ولا يشكو موقع بلاريجيا وحده من ضعف الجاذبية وقلة المردود التنموي حيث ينطبق الوضع نفسه على الموقع الثاني الأبرز بجهة جندوبة ونقصد موقع شمتو (Simitthus) طبعا، وذلك رغم طرافة مكوّناته ذائعةُ الصيت وقيمةُ الحفريات الأثرية والدراسات التاريخية التي شملته منذ ستينات القرن الماضي، فضلا عن متحفه الأنيق الذي تم تدشينه منذ حوالي ربع قرن. والقائمة تكاد تشمل كل المواقع وكل المتاحف الأثرية بدون استثناء، بما في ذلك موقع قرطاج الأثري ومتحفه الوطني.

والمؤلم أيضا، في جميع هذا، أن السياحة الأثرية، باعتبارها رافد من روافد السياحة الثقافية وإحدى مكونات السياحة البديلة، كثيرا ما ترد على لسان المسؤولين، خبراء حقيقيين في شؤون هذه السياحة أو متطفلين، على أنها إحدى سبل النجاة بالنسبة إلى السياحة التونسية المنكوبة. والحال أنهم يلجئون إلى هذه الوعود من دون أي برامج واضحة ومن دون تذكير بالبرامج التي أُعْلِن عنها منذ عشرات السنين ولم تُنْجز رغم توفّر التمويلات الوطنية والأجنبية التي صرفت في شكل هبات وقروض والتي عاينت تكاثرا وتنوّعا مطردا. وبهذا يبقى الكلام من باب الإغراء بالحلول التي يتطلب التطرق إليها اجتهادا غير مرغوب فيه لاعتبارات لا يجرأ المسؤولون على التصريح بها.

والحال أن التراث الأثري، كمجمل التراث الثقافي، علاوة عما يتضمّنه من تجسيم للهوية الجماعية الثرية والمتعددة الانتماءات، قد تحوّل في الدول المتقدمة وحتى النامية إلى مجال شاسع للتشغيل في اختصاصات لا تُحْصي ومنها ما يتطلّب خبرات عالية، كما أصبح محركا أساسيا للتنمية الجهوية بمردودية عالية لأدنى تمويل صائب. وقد أثبتت التجارب الناجحة في الكثير من البلدان أن النهوض بالتراث الثقافي، بحثا وصيانة وإحياء، يتطلب جملة من الشروط التي جُرِّبت فصحّت وتتمثل تلك الشروط في : إرادة سياسية واضحة، وحوْكمة تُنْهي كل الاحتكارات غير المبرّرة، - تكوين إطارات كُفْئة وكافية، مع تشريك المواطنين باعتماد التربية على التراث وبالتعويل على المجتمع المدني - توفير وسائل وساطة عصرية وجذّابة - تنزيل فعلي للتراث في سياسة التنمية الجهوية والمحلية.

سيادة الرئيس،

رجائي أن تستحضروا، مستقبلا، كلما ألقيتم نظرة ولو خاطفة على لوحة فسيسفاء سيدي غريب، مجمل الإشارات الواردة في هذه الرسلة وأن يكون ذلك حافزا لكم على اتّخاذ قرارات تبدوا في ظاهرها خاصة بمجالات غير حيويّة ولا تطلب استعجال النظر، وهي في الواقع على خلاف ذلك تماما. فالعناية بالتراث الثقافي تأصيل للكيان وتنمية مستدامة وإنصاف للجهات غير المدمجة ولأهلها، وهي قبل كل هذا وبعده تطبيق لما ورد ضمن بنود الدستور الذي أسند لكم الناخبون شرف الحرص على حسن تطبيقه.
وفي النهاية أستسمحكم للإشارة إلى أن يوما واحدا يكفي، دون عناء، لزيارة مواقع سيدي غريب وبلا رجيا وهنشير الفوّار الأثرية الوارد ذكر أسمائها أعلاه، وما هي سوى عينات لتعاظم بؤس مواقعنا الأثرية رغم قيمتها الرفيعة محليا وضمن سجلات الأثار العالمية أيضا.

والسلام
الأستاذ حسين الجعيدي






 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.