قصيدة الدكتور علي الشابي في رثاء الأستاذ منصر الرويسي
كان المرحوم الأستاذ منصر الرويسي، حسب التعبير الاشراقيّ السّينوي، نورا ساطعا، فهو نور بفكره و وجدانه و أشواقه و جميل عمله. و حين نُمِيَإليّ خبر وفاته ُلْذتُ بالوهم وفق ما جاء في قول المتنبي:
طــوى الجــزيرة حتى جــــاءني خبـــر *** فـــزعت فيــه بـــآمـــالي إلىّ الكــذب
لكن سرعان ما تبدّد هذا الوهم تحت سطوة الواقع الأليم، و عندئذ شعرتُ بأن الزمان قد توقَّف و المكان قد اختفى و الظلام قد ساد و الطبيعة قد اختل توازنها، و أجدني قد أسلستُ قِيادي للشعر علّه يطفئ بعض الغُلَّة:
أمطرتْ تونـــــسٌ دموعًا غِــــــــــزارا *** لظـــــــلام أرخى عليها ســـــــــدولا
أمحلَ الـــــروض و الينابيــــــعُجفّت *** و قصـــــــور الخيال باتت طـــــلولا
فغــــــــناء الورقــــــــــاء أمسى بكاء *** و لحون الشحرور أضحت عـــــويلا
و بيــــــــــــــــاض النهار أصبح ليلا *** و النجوم الــــــــوِضَاءُ قارًا جزيـــــلا
مَلُحَ البــــــــــحرُ بعد أن كان شهدا *** و النسيم العـــــــليل صار عليــــــلا
و مِن ثَمَّ اتخذتُ من الأبيات التي صغتُها في تأبيني للمرحوم أساسا لصياغة المرثية البكائيّة التالية:
مــــــــــاذا دهى قــــــلبي فتاة و جــيبه *** و تدفـقـــــــــــــت بنياطه الأكــــدار؟
النـــــــــعي روّعني فلــــــــذت بمأمــــلي *** طمعاإلى الأوهامو هي دثــــــــــــار
فــــــــــإذا الحقيقة عاصف من ولــــوعة *** عــــــــــادي المنيّة ســـــــــيفه البتّار
جفّ المداد كأنّ صـــــــــوت يــــراعتي *** نـــــــــــــوْح يـُـــــــريع بـــــوقعه زخّار
نـــــــــدّت من النظم النضيد شــــوارد *** فـــــــرقا وجدّ الخبن و الإعـــــــــسار
أرخى الحمام على الحبيب ســـــــــدوله *** في لحظة لـــــــــــكأنّها الأدهـــــــــــار
صيغت من الدّمع الصّبيب و من أسى *** فاضت به الأبصار و الأشــــــــــعار
فالغربة الهــــــــــــــــوجاء بعدك مُنْصِر *** أمــــــــــــــــــواجُ حزن ما لهّن قرار
هذي الطبيعة قد تنأثر عــــــــــــقدها *** لا الليـــــــــل لـــــــيل لا النهار نهار
بمشاعـــــــــري شِمتُ البسيطة زُلزلت *** فإذا البـــــــــلاقع و الطلول ديـــــــار
حـــــــــلّ النهار فكأن ليلا حــــــــالكا *** ألـــــــــــقى الجِرانَ فأظلم الإبصــــــار
أفــــــــــل الرجاء و صـــــوّحت أفنانه *** و تـــــــوقّدت بين الضـــــــلوع جمار
نـــــــــــار من الأحـــــــزان عمَّ ضِرامُها *** مهجا تـــــــــــــــذوب و ذوبُهنّ أُوار
و يجيش بحر اليأس من فـرط الأسى *** المــــــــــــــوج داج و السّواحل نار
فالأربعـــــــــاء قد انقضت أنـــــــــواره *** فاربدّت الآفــــــــــاق و الأبصــــــار
كـــــــــــــانت لنا في الآفلات مجالــس *** الفكــــــــــر لحن و الرّؤى أوتــــــار
في العــــــــــلم في صور البيان مضيئةً *** يتــــــــــــــــــلاحق الإبحار و الإبهار
إن البـــــــدائع في ربــــــــــــيع بيــــانها *** و لحـــــــــــونها لَمـــــــــــــلاذُنا المختار
ما كنت أحسب أنّفــــــــقده ناجز *** و النّائبـــــــــــــــاتِ بمن يُجَلُّحِـــرار
قد كنت أرغـــــــب في رثائه لي إذا *** حُمَّ القضــــــــــاء و أحكمالإعصــــــار
لكن طــــــــــوى الموت الزؤام كتابه *** فاســـتحكمت بيــــــــــن الضلوع شَرار
فكتبت بالقـــــــــــلم الحزين قصيدة *** ورق ينــــــــوح و دمْعُهُ مــــــــــدرار
***************************
زان البــــــــــــلاد بصائبات حلوله *** و لــــــــــــــه الأدلّة معصمٌ و سـوار
كالبـــــــــــــحر يُهدِي للشداة لئالئا *** زُهْـــــــــــــرًا تفيض بسحرها الأنـوار
كالطّــــــل تحضنه الرياض فتنتشي *** منه الزهــــــــــور و تحتسي الأطيـار
أَنَّى ذكرتـــــــــــــــــك مُنْصِرٌليهدّني *** حـــــــــــــزنٌ يجيش بخافقي مــــــوّار
أسكنتَ تونس في الفؤاد فأشرقت *** لك في القــــــــــــــلوب محبّة و فخـار
و أنـــــــــرتَ درب المدلجِين بحكمة *** فاستيسر الإرســـــــاء و الإبحـــــــار
فكــرٌكنوز الشمس يسطع حاملا *** أَلَـــــــــــــــــــــقًابه تتأيّد الأنظـــــــار
قد غصتَ في بحر السياسةلاقطا *** دُررًا بفيض ضيائهن يُـنـَـــــــــــــــــار
مستغرقا في البذل يغمرك السَّـــنَى *** فالــــــــــــباذلون لشعبهم أقمـــــــــــار
لــــــــــــــــكنّما الأيّام و هي خبيئةٌ *** تُعْطِيكَنــــــــــورا ثم تنشب نـــــار
لـــــــــــكنّما الأيّام و هي خسيسة *** تــــــــردى بها الآمـــــــال و الأعمار
العــــــمرُ ومضُالبرق يظهر لحظة *** و ســــــــراب يوم قائــــــــــظٍ غرّار
و العـــــــــــيش في الدنيا غمام عابر *** الدّهــــــر يعصف و السّنون غبـــار
ضَــــــــــرِمُ الحشا و النائباتُ تغلُّني *** لــــــــرحيل بحر لم تـطلْـــــــــه بحار
بحــــــــــــــــر من الإِنجاز غَمْرٌمَدُّهُ *** أرأيتَ بحــــــــــرًا في القبـــــور يُزار!
تمـــــــضى الحياة و حزننا لا ينقضي *** فالدهــــــــــــر عـــــــادٍ و المَنِيَّةُ دار
- اكتب تعليق
- تعليق