رافع ابن عاشور: تكريس للحق الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية
أحرزت القضية الفلسطينية فوزا قانونيا مهمّا في رحاب المحكمة الجنائية الدولية. فلأوّل مرة منذ إحداث هذه المحكمة الدولية (سنة 1998 ودخولها حيز النفاذ سنة 2002) المختصّة في النّظر في الدّعاوى المتعلّقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التصفية العرقية وجريمة الاعتداء، سوف تمضي المدعية العامة للمحكمة – السيدة فاتو بن سودة - في إجراء تحقيق حول جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، منذ 13 جوان 2014.
فقد قرّرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية يوم 5 فيفري 2021، بأغلبية القضاة، أنّ الاختصاص الإقليمي للمحكمة حول الوضع في فلسطين، الدولة الطرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يمتدّ ليشمل الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967، أي غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.
. وللتذكير فقد انضمت دولة فلسطين في 2 جانفي 2015، إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وأودعت لدى الأمين العام للأمم المتحدة وثيقة الانضمام وأصبحت رسميا عضوا بالمحكمة الجنائية الدولية منذ 1 أفريل 2015، تاريخ دخول نظام روما حيز النفاذ إزاءها.
وقد كانت المدعية العامة، السيدة فاتو بن سودة، أعلنت في 20 ديسمبر 2019 انتهاء الفحص الأولي للوضع في فلسطين فصرّحت "" أنه بعد تقييم شامل ومستقل وموضوعي لجميع المعلومات الموثوقة المتاحة لدى مكتبي، اختتِمت الدراسة الأولية للحالة في فسطين وقد تقرر أن جميع المعايير القانونية التي يقتضيها نظام روما الأساسي لفتح تحقيق قد استوفت.
وأنا مقتنعة بأن هناك أساسا معقولا للشروع في إجراء تحقيق في الحالة في فلسطين، عملا بالمادة 53(1) من النظام الأساسي. وإيجازا فإني مقتنعة بما هو آت، (1) بأن جرائم حرب قد ارتكبت أو ترتكب في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة (‘‘غزة’’) (للتفاصيل، راجع الفقرات 94-96 من الطلب) ؛ (2) وبأن الدعاوى التي قد تنشأ عن الحالة ستكون مقبولة ؛ (3) وبعدم وجود أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن إجراء تحقيق لن يخدم مصالح العدالة.
ونظرا لوجود إحالة من دولة فلسطين، فلا يشترط استئذان الدائرة التمهيدية قبل الشروع في فتح تحقيق ولن أسعى إلى ذلك.
ومع ذلك، ونظرا للمسائل المتعلقة بالقانون والوقائع المرتبطة بهذه الحالة، وهي مسائل فريدة ومحل خلاف شديد، ألا وهي الإقليم الذي سيمكن أن يجرى فيه التحقيق، فقد ارتأيت لزوم الاعتماد على المادة 19 (3) من النظام الأساسي لحسم هذه المسألة المحددة.
ولذلك فإني طلبت من الدائرة التمهيدية الأولى في وقت سابق اليوم إصدار قرار بشأن الاختصاص في ما يتعلق بنطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية (‘‘المحكمة’’) بموجب المادة 12 (2) (أ) من نظام روما الأساسي في فلسطين.
وعلى وجه التحديد، التمست تأكيدا بأن ‘‘الإقليم’’ الذي يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها عليه، والذي يجوز لي أن أجري تحقيقا بشأنه، يشمل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة. وهذا القرار إنما ي يتّخذ فقط من أجل تقرير قدرة المحكمة على ممارسة اختصاصها ونطاق ذلك الاختصاص بموجب النظام الأساسي.
وخلصت إلى أنه تم استيفاء جميع المعايير المحدّدة في نظام روما الأساسي لفتح التحقيق".
وقد كان لهذا الإعلان صدى كبير، إذ استبشر به كل مناصري القضية الفلسطينية العادلة وشجبته إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب.
وقد كنا، في مقال سابق نوّهنا بإعلان المدّعية العامّة، مع تعبيرنا عن خيبة أمل نسبيّة باعتبار أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية قررت في 22 جانفي 2020 رفع دعوى أمام الدائرة التمهيدية الأولى بموجب المادة 19 (3) من نظام روما الأساسي مطالبة إياها بالقضاء في مسألة وحيدة تتعلق بالاختصاص الإقليمي للمحكمة حول الوضع في دولة فلسطين.
وفعلا صدر الحكم وبدد المخاوف التي كنا أبديناها، إذ أقرّت الدائرة التمهيدية الأولى أن المحكمة الجنائية الدولية غير مختصة دستوريًا للفصل في مسألة الوضع القانوني الدولي لدولة فلسطين التي من شأنها أن تلزم المجتمع الدولي موضحة أنها عند البتّ في مرجع نظرها الإقليمي لا تفصل في نزاع حدودي بموجب القانون الدولي ولا تبتّ مسبقًا في مسألة الحدود المستقبلية المحتملة بين فلسطين وإسرائيل، لكن الغرض الوحيد من قرارها هو تحديد الاختصاص الإقليمي للمحكمة لا غير.
هذا وقد نظرت الدائرة التمهيدية الأولى في طلب المدعي العام وكذلك في المذكرات الواردة من الدول والمنظمات والأكاديميين المقدمة بصفتهم أصدقاء المحكمة ومجموعات الضحايا. وأكّدت الدائرة أنه وفقًا للمعنى العادي الذي يُعطى لمصطلحاتها في سياقها، وفي ضوء النظام الأساسي والغرض منه، فإن الإشارة إلى " الدولة التي وقع السلوك المعني في أراضيها." (الواردة في المادة 12-2-أ من النظام الأساسي) يتعين تفسيرها على أنها إشارة إلى دولة طرف في نظام روما الأساسي. وخلصت الدائرة إلى أنه، وبغض النظر عن وضع الدولة بموجب القانون الدولي العام، فإن انضمام فلسطين إلى النظام الأساسي اتبع الإجراءات الصحيحة والعاديّة، وأن الدائرة ليست مخوّلة للطعن والنظر في نتيجة إجراءات العضوية التي اتبعتها جمعية الدول الأطراف. تبعا لذلك استنتجت الدائرة أن فلسطين وافقت على الخضوع لبنود نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وأن لها الحق في أن تُعامل مثل أي دولة طرف أخرى في كل المسائل المتعلقة بتنفيذ النظام الأساسي.
هذا وقد لاحظت الدائرة التمهيدية الأولى أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67 /19 المؤرخ في 29 نوفمبر 2012، وهو القرار الذي يرتقي بمرتبة فلسطين من كيان غير عضو إلى دولة غير عضو وغيره من القرارات الأخرى المشابهة "أكد من جديد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال في دولة فلسطين الواقعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 ". وعلى هذا الأساس أكدت غالبية الدائرة، المؤلفة من القاضية رين أديلايد صوفي ألابيني غانسو Reine Adélaïde Sophie Alapini-Gansou du والقاضي مارك بيرين دي بريشامبو Marc Perrin de Brichambaut ، إلى أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة حول الوضع في فلسطين يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل. وهي غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية.
بالإضافة إلى ذلك اعتبرت غالبية أعضاء الدائرة التمهيدية الأولى أن الحجج المتعلقة باتفاقات أوسلو وبنودها التي تحدّ من نطاق الولاية القضائية الفلسطينية لا علاقة لها بمسألة النظر في الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين، فهذه المسائل وغيرها من المسائل المتعلقة بالاختصاص يمكن فحصها إذا ما تقدمت المدعية العامة بطلبات في إصدار بطاقة توقيف أو أمر بالحضور ضد متهم أو متهمين معينين.
لقد لاقى هذا الحكم، كالمعتاد، ردّ فعل عنيف من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي – بنيامين نتنياهو – إذ أصدر بيانا مما جاء فيه إن "المحكمة أثبتت مرة أخرى أنها هيئة سياسية وليست مؤسسة قضائية" مضيفا أن القرار يقوّض "حق الأنظمة الديمقراطية في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب" (هكذا) وهو موقف متواتر تبديه السلطات العليا الإسرائيلية كلما أصيبت بهزيمة في محفل دولي سواء كان سياسيا مثل مجلس الأمن أو الجمعية العامّة للأمم المتحدة أو هيئة قضائية مثل المحكمة الجنائية الدّولية أو محكمة العدل الدولية. وأضاف نتانياهو أن "المحكمة تتجاهل جرائم الحرب الحقيقية، وتتعقب بدلا من ذلك إسرائيل، وهي بلد له نظام ديمقراطي قوي يقدس حكم القانون وليس عضوا بالمحكمة". وأكد نتنياهو أن إسرائيل "ستحمي كل مواطنيها وجنودها" من المقاضاة.
وفي نفس الاتجاه ذهبت وزارة الخارجية الأمريكية، فذكرت أن إسرائيل غير ملزمة بالمحكمة لأنها ليست عضواً فيها. وقد صرّح المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس: "لدينا مخاوف جدية بشأن محاولات المحكمة الجنائية الدولية أن تمارس الاختصاص القضائي على الأفراد الإسرائيليين. لقد اتخذنا دائماً الموقف بأن يقتصر اختصاص المحكمة على الدول التي توافق عليها أو قضايا يحيلها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إليها" وقد تناسى المتحدّث الأمريكي أنّ مجلس الأمن أحال على المحكمة قضايا ضد دول ليست طرفا في نظام روما.
أمّا رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية فقد رحّب بالقرار، قائلا إنه "انتصارا للعدالة وللإنسانية، ولقيم الحق والعدل والحرية، وانصافا لدماء الضحايا. من جهتها قالت وزارة الخارجية الفلسطينية في بيان إن قرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية بأن لهم ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية "يوم تاريخي لمبدأ المساءلة" وأكدت الوزارة أنها مستعدة للتعاون مع المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في حال فتح تحقيق. ومن ناحيته قال حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية بالسلطة الفلسطينية إنّ "قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتبار فلسطين دولة عضو بموجب معاهدة روما واختصاص المحكمة بالنظر في المسائل المتعلقة بالأراضي الفلسطينية والشكاوى التي ترفعها السلطة، هو انتصار للحق والعدالة والحرية وللقيم الأخلاقية في العالم".
إنّ قرار الدائرة التمهيدية الذي يقر ما ذهبت إليه المدعية العامة بأن جرائم حرب قد ارتكبت أو ترتكب في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة وبأن الدعاوى التي قد تنشأ عن الحالة ستكون مقبولة وبعدم وجود أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بأن إجراء تحقيق لن يخدم مصالح العدالة هو قرار محوري يضع حدّا لشعور إسرائيل أنها فوق القانون الدولي وأن جرائمها لا تخضع للمساءلة الجنائية الدولية وهو قرار يمنح ضحايا الجرائم الكبرى الإسرائيلية بالضفة والقطاع والقدس الشرقية بصيصا من الأمل الحقيقي في تحقيق العدالة.
الأستاذ رافع ابن عاشور
- اكتب تعليق
- تعليق