أخبار - 2020.11.21

حول إضراب القضاة: مظهر من مظاهر تفكيك الدولة والتطاول على القانون من قبل الساهرين على تأمين احترامه!

حول إضراب القضاة: مظهر من مظاهر تفكيك الدولة والتطاول على القانون من قبل الساهرين على تأمين احترامه!

بقلم حاتم قطران - أستاذ بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية
1. يتناول هذا المقال، مع تطويره، موقفاً كان محرر هذه السطور قد بدأه بالفعل بعد إضراب أولي أطلقه المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين خلال يومي 28 و29 ديسمبر 2016 في جميع محاكم الجمهورية (انظر جريدة الشروق، 30 ديسمبر 2016).

وها هو المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين يعطّل مرة أخرى سير مرفق القضاء ومصالح المتقاضين بالدخول في إضراب عام لمدة خمسة أيام، وهذه المرة من الاثنين 16 إلى الجمعة 20 نوفمبر 2020، من أجل الاحتجاج على "تدهور وضعهم الاجتماعي والصحي"، بحجة، على وجه الخصوص، أن "المحاكم أصبحت أماكن لانتقال وباء كوفيد-19" ، على حد تعبير رئيس الجمعية، الذي كرر أيضا مطالبتهم المستمرة لتحسين الوضع المادي اللازم للقضاة.

إضراب مخالف لمركز القضاة ويتنافى مع استقلالية القضاء! 

2. وليس الهدف من هذا المقال مناقشة الطلبات التي تأسس عليها قرار الدعوة إلى الإضراب أو المآخذ الموجّهة من جمعية القضاة ضد الحكومة. وإنما يجوز التساؤل عن الأسس التي بنى عليها المكتب التنفيذي لجمعية القضاة قراره بالدعوة علناً إلى الإضراب والحال أن القضاة ينتمون إلى "السلطة القضائية"، إحدى السلطات الثلاثة في الدولة على النحو المعترف به في الباب الخامس من الدستور الذي ينص بشكل خاص على أن "...القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون" (الفصل 102) وعلى أنه " يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه...". (الفصل 104)!

3. وهنا بالذات موضع التساؤل عن مآل القواعد القانونية لتي تحدد وضع القضاة، بما في ذلك الفصل 18، من القانون عدد 29 لسنة 1967 مؤرخ في 14 جويلية 1967 يتعلق بنظام القضاة والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة، مثلما تم تنقيحه بمقتضى القانون الأساسي عدد 79 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت 1985، والذي ينص صراحة على أنه: "يحجّر تحجيرا باتّا على أعضاء السّلك القضائي الإضراب وكل عمل جماعي مدبّر من شأنه إدخال اضطراب على سير العمل بالمحاكم أو عرقلته أو تعطيله".

ويكرس نفس التحجير على القضاة في جلّ القوانين المقارنة المنظمة لوضع القضاة، بما في ذلك في الدول ذات التقاليد الديمقراطية الأكثر تجذرا. ففي فرنسا مثلا، لا يخوّل بتاتا للقضاة الدخول في أي إضراب عن العمل منذ قانون 22 ديسمبر 1958، حيث تحظر المادة 10 منه "... أي عمل جماعي مقصود من شأنه أن يوقف أو يعرقل سير المحاكم".

4. كيف، وعلى وجه التحديد، وصلت جمعية القضاة التونسيين إلى هذا الحد المناقض مع واجب التحفظ المنصوص عليه بالفصل 24 من نفس القانون الأساسي للقضاة المرتبط هو الآخر وثيق الارتباط باستقلال القضاء إزاء السلطة التنفيذية والذي يفرض "على القاضي أن يتجنّب كل عمل أو سلوك من شأنه المس بشرف المهنة"، بما يشمل بالنسبة لعامة القضاة، بما في ذلك ممثليهم في النقابة أو الجمعية المهنية، التعبير عن آراءهم ومواقفهم بطريقة متزنة، وعدم الإدلاء بتصريحات متحمّسة أو مبالغة، من شأنها أن تقوّض الثقة التي يجب أن تمليها وظيفتهم السامية لدى عموم المتقاضين؟

5. كيف وعلاوة على كل ذلك، وصل الأمر بالجمعية التونسية للقضاة إلى الدعوة إلى تنظيم وقفات احتجاجية بالزيّ القضائي أمام قصر العدالة بتونس، وذلك في تعارض مع واجب التحلّي بالرصانة المطلوبة والاحترام اللازم لمؤسسات الدولة ورموزها التي يتقيّد بها القضاة عادة والواردة في القسم الذي يؤدّونه قبل مباشرة وظائفهم، والذي يشكّل أي إخلال به مخالفة تأديبية؟

هل الحق في الإضراب حق دستوري مطلق وغير القابل للانتقاص للجميع، بمن فيهم من يمارسون السلطة نيابة عن الدولة!

6. قد يميل البعض إلى الإقرار بأن القضاة المضربين يمارسون في الواقع حقًا معترفا به بالفصل 36 من الدستور، الذي ارتقى بالحق في الإضراب إلى مرتبة حق دستوري مطلق، وذلك بالتنصيص على أن: "الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون...". والقيد الوحيد الذي ذكره الفصل 36 هو أنه "...لا ينطبق هذا الحق على الجيش الوطني. ولا يشمل حق الإضراب قوات الأمن الداخلي والديوانة".

7. وها نحن بالتأكيد في قلب الصعوبة! وليس من المعتاد، في واقع الأمر أن يكرّس الدستور في أي من النظم، بما فيها تلك الراسخة في التقدم السياسي والتقاليد الديمقراطية، هذا المفهوم المطلق للحق في الإضراب، مثلما كرّسه الدستور التونسي، فجعله بمثابة الحق المقدّس وغير القابل لأي من القيود!

و على سبيل المثال، لم يتضمن الدستور الفرنسي لعام 1958 أي إشارة إلى الحق في الإضراب، خلافا للدستور الفرنسي لعام 1946، التي تتطلب، في الوقت نفسه، "الحق في الإضراب يمارس في إطار القوانين التي تنظمه"

في ألمانيا، لم يذكر القانون الأساسي (Grundgesetz, GG)  صراحة الحق في الإضراب الذي يستمد من الشروط المحددة للحرية النقابية ولحرية تكوين الجمعيات. وبموجب المادة 9 الفقرة 3 من القانون الأساسي، فإن النضالات العمالية ممكنة "... بهدف الحفاظ وتحسين ظروف العمل والظروف الاقتصادية ". وفي ذات الوقت تحظر الإضرابات السياسية، حيث لا يسمح بالنضالات إلا كجزء من تنظيم علاقات العمل، وعلى أن تجري فقط بتنظيم من منظمات العمال وأرباب العمل.

أما دستور سويسرا، البلد المقر للمنظمات الدولية، بما في ذلك منظمة العمل الدولية، فقد أشار إلى الحق في الإضراب، على أن يكون مطابقا لعدد من القيود. ففي حين أنه لم يرد أي تنصيص في دستور عام 1874، أقر الدستور الجديد المؤرخ في 18 أفريل 1999 صراحة الحق في الإضراب. مع التأكيد في المادة 28، الفقرتين 3 و 4، على أن: "...الإضراب والصد عن العمل قانونيان عندما يتعلقان بعلاقات العمل ويتفقان مع التزامات حفظ السلام في العمل واللجوء المسبق إلى التوفيق.

يمكن للقانون حظر استخدام الإضراب لفئات معينة من الأشخاص".
وعلى غرار ألمانيا وسويسرا، تفرض الدنمارك وبريطانيا العظمى أيضا قيودا صارمة على الحق في الإضراب.

8. وبموجب قانون الاتحاد الأوروبي، لا تنص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان صراحة إلاّ على حرية تكوين الجمعيات والنقابات (المادة 11). وبناء على ذلك، اضطرت محكمة ستراسبورغ إلى رفض جعل الحق في الإضراب عنصرا أساسيا من عناصر هذه الحرية.

9. أما الصكوك الدولية، التي يشار إليها غالباً بشكل غير صحيح، فإنها لم تعط الحق في الإضراب هذا القدر من الحماية المطلقة ولم تكفله خاصة إلى الأشخاص الضين يمارسون السلطة بالسم الدولة!

وتأكيدا لذلك فقد أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في المادة 8 منه، الحق النقابي والحق في الحرية النقابية الذي تتعهّد الدول الأطراف بأن تكفله، وبما يتضمّن، من جملة أمور: "... (د) الحق في الاضراب..."، مع إضافة القيد التالي: "...  على أن يمارس طبقا لقوانين القطر المختص". وتضيف نفس المادة 8 من العهد الدولي المذكور أنه "...لا تحول هذه المادة دون فرض القيود القانونية على ممارسة هذه الحقوق بواسطة أعضاء القوات المسلحة أو الشرطة أو الإدارة الحكومية".

أما الاتفاقية (رقم 87) لمنظمة العمل الدولية لسنة 1948 "بشأن الحرية النقابية وحماية الحق النقابي" فهي لم تتضمن أية إشارة صريحة إلى الحق في الإضراب وتقرّ في المقابل بجملة من الضمانات الأساسية لكفالة الحق في حرية ممارسة النشاط النقابي وعدم إخضاعه لأي قيود سوى ما ينص عليه في القانون مما يكون ضروريا في مجتمع ديمقراطي لصالح الأمن الوطني أو النظام العام أو من أجل حماية الآخرين وحرياتهم.

10. وانطلاقا من هذه الأحكام، فقد وضعت هيئات الإشراف المختصة لمنظمة العمل الدولية، وهي اللجنة المعنية بالحرية النقابية (منذ 1952) ولجنة الخبراء المعنية بتطبيق الاتفاقيات والتوصيات (منذ عام 1959)، مجموعة من المبادئ تحدد شكل ونطاق الحق في الإضراب، بما في ذلك فئات العمال أو الموظفين خاصة في القطاع العمومي والهيئات العامة، الممكن حرمانهم من الحق في الإضراب، وخاصة منهم "الذين يمارسون السلطة نيابة وبالسم الدولة". ويمكن أن يشمل التقييد حظر الحق في الإضراب، بالنسبة لموظفي الخدمة المدنية في الوزارات أو الإدارات المشابهة أو أعضاء السلطة القضائية ، وذلك على خلاف موظفي المؤسسات العمومة، على سبيل المثال، الذين يتمتّعون بالحق النقابي دون قيد أو استثناء.

11. ولعلّنا توصّلنا أن ندرك في هذه الظروف إلى أي مدى يشكّل إضراب القضاة في تونس هرطقة تتجاوز الحدود التي تحددها قوانين وممارسات أعرق النظم القانونية، والصكوك المرجعية الدولية.

12. ما هو السبيل لحل جميع هذه الصعوبات التي من المحتمل أن تقوض ثقة المواطنين في أحد أركان الدولة الديمقراطية القائمة على الحقوق والحريات في كنف احترام القانون والمؤسسات؟

هناك خياران لا ثالث لهما في تقديري

الأول أن يتم عضّ النظر على كل ما حدث وأن تتواصل مثل هذه الاحتجاجات والإضرابات، بما يعني أن القضاة، تحت لواء جمعيتهم، قد فازوا في هذا النزاع الذي يدور بينهم وبين الحكومة! بل ويمكن القول إنهم قد كسبوا بعد بالفعل هذا الصراع الدائر أمام أنظار المواطنين، ضرورة أنه، وبالنظر لتوازن القوى، وتنامي الخطاب الشعبوي الزاحف والميل الجامح لتفكيك الدولة، لا يتسنّى وضع حدّ لمثل هذه التصرّفات أو حتى التفكير في اتخاذ أي من الإجراءات التأديبية أو الخصومات عن الرواتب المقابلة لخمسة أيام من التوقف عن العمل؛
أما الخيار الثاني فيدعو إلى تنقيح الفصل 36 من الدستور وتمديد حظر استخدام الإضراب صراحة، فضلا عن "الجيش الوطني" و"قوات الأمن الداخلي والديوانة"، إلى جميع المنتمين لمختلف أصناف الهيئات والوظائف التي تمارس فيها السلطة نيابة عن الدولة. وما من شك أن هذا الخيار الثاني معقد حاليا بالنظر إلى مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 49 من الدستور والتي تنص على أنه "لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور".

تعديل الفصل 36 من الدستور حفاظا على أسس الدولة وهيبتها

13. ومع ذلك لا مفر من إدخال هذا التعديل على الدستور – من ضمن تعديلات أخرى بدأت تظهر الحاجة الملحّة إليها- إذا كانت الدولة تريد حقا الحفاظ على جزء كبير من جوهرها! وإن إساءة استعمال الحقوق والحريات المعترف بها في دستور 27 جانفي 2014 تبرّر في رأينا التنقيح اللازم لهذا الحق الدستوري الذي يمثله الحق في الإضراب، ضمانا لمنع ممارسته بشكل غير قانوني من قبل أولئك الذين أناطهم الدستور ذاته بمهمة إقامة العدل، وضمان علوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات.

14. وفي غياب ذلك، فإنه من المتوقع جدا أن تقوم شرائح أخرى من سامي الموظفين وأعضاء الهيئات العامة بالانخراط في قائمة المضربين، بدعوى عدم ذكرها ضمن الفئات المحجر عليها ممارسة الحق في الإضراب بموجب الفصل 36 من الدستور، والقائمة يمكن أن تشمل: أعوان السجون والإصلاح، أعوان الحماية المدنية، متفقّدي الشغل ونحوهم ممن يمارسون صفة الضابطة العدلية في حدود وظائفهم، الولاة والمعتمدين، ولم لا والحالة على هذه الدرجة من الانفلات أعضاء مجلس نواب الشعب نفسهم، والوزراء ورئيس الحكومة نفسه. وحينئذ لن يبقى إلا رئيس الجمهورية، "رئيس الدولة، ورمز وحدتها" (الفصل 72 من الدستور) والساهر على "القيادة العليا للقوات المسلحة" (الفصل 77 من الدستور) مسؤولا على الحفاظ على أركان دولة لم تبق فيها أسس وهيبة تذكر!
نداء من أجل الكفّ عن تفكيك الدول واستعادة مكانتها وقيم الجمهورية!

15. هل نقبل مواصلة تفكيك الدولة وقيم الجمهورية؟ ألم يحن الوقت أكثر من أي وقت مضى لإنقاذ البلاد من حالة الانحلال التي تغرق فيها، لاستعادة أركان الدولة وإعلاء قيم الجمهورية وما يفرضه كل ذلك من حاجة إلى تأسيس فضاء مواطني مفتوح للجميع لحماية الدّولة ومؤسساتها من كلّ قوى التطرّف والفساد واللامسوؤلية والشعبوية، ووضع آليات فض النزاعات الاجتماعية، ذات الصلة بعلاقات الشغل الجماعية أو غيرها من النزاعات التي تطرأ في بعض جهات الجمهورية، وفق مقاربة مؤسسية وحقوقية منتظمة، تؤمن الاستجابة السلمية للمطالب المشروعة في كنف احترام المبادئ الأساسية لدولة القانون والمؤسسات، وبعيدا عن كل استغلال أو توظيف سياسي أو أيديولوجي أو طائفي أو نحوه.  

تلك هي الشروط الأساسية التي أضحى تحقيقها أمرا ضروريا لتثبيت مكانة الدولة وقدرتها، بالشراكة مع جميع القوى الحية الوطنية ومكونات المجتمع المدني، على فتح آفاق حوكمة سياسية جديدة تعيد بناء الثقة في المستقبل لكل تونسي/ة.
تحيا الجمهورية! تحيا تونس!

حاتم قطران
أستاذ بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.