فتحي الهمامي: طبليّة لِلْكل وإلا الكُلْ مِنْ غِيرْ طبليّة
بقلم فتحي الهمامي - يُخطئ من يظّنُ أن العمليّة الإرهابية الأخيرة بِنيس٬ والّتي اقْترفها تُونسيّ٬ قضيّة عابرة ستُطوى مع الزمن. فباكورة تبعاتها بدأت تطلّ عليْنا بِرأسها ونحنُ في هذا الوضع السيئ: "هز ساق تغرق لُخرها". الحق يقال ما تمّ "تصديره" هذه المرّة إلى أوروبا يتسم بالغرابة ومُخالف للمألوف، إذ لا يُشبِهُ في شيء تِلك العقول التونسية المُهاجرة سنويا طلبًا للشغل أو المعرفة أو تلك قوة العمل العابرة يوميّا إلى أوروبا بِطريقة غير نظامية٬ لقد تبيّن أنّ "الطرد" المبعوث إليهم أكثر من خطِير فهو مُدمِّر ومُهْلِك لِلبشرِ. في الواقع تلك"البِضاعة" ليست جديدة عن قائمة صادراتنا. فالخاص والعام يعرف أننا زوّدنا بها في السابِق "السوق" السورية وبالآلافِ. هي فِعلا "ماركة" تونسية تمّ إنتاجها في مخابرٍ محلية٬ تلك التي أقيمت بِمساعدة تقنية من أشقائنا الخلُصْ. ألم يُذكر يوما أن تونس على رأس البلدان المصنعة والمسوقة لتلك "السّلعة"؟ وها أنّ اسم بلادنا يدور على الألسن من جديد على إثر كارثةِ "نيس".
لكن ليت الأمر يتوقف عند ذلك الحدّ. إذ تستعد فرنسا لِردّ الصاع صاعين٬ كيف؟ إنها تعتزم إرجِاع ذلك الطرد المرسل إليها: "ولمّا فتحُوا متاعهُمْ وجدوا بِضاعتهُمْ رُدّتْ إليْهِمْ". فليْس خاف أنّها ترغب في تسفيرِ إرهابيين تونسيين٬ يقضّون مضاجِعِها٬ إلى أرضنا. ومن غير المستبعد هنا أن تمارس عليْنا ضغوطا اقتصادية أو غيْرها من أجل أن نتسلّمهم ونتسلم غيرهم٬ بِمثْلِما استقبلنا "النفايات" الايطالية. ورُبّ قائل يقول: ماذا تُريد فرنسا منْ بِلادِنا؟ ألا نقاوم الإرهابِ يوميا بعمليات أمنية؟ ألم نقدم الشهداء في معركتنا ضده؟ ألا يكفي فرنسا تنديد حكومتنا بِالإرهاب الذي طال نيس؟ ألا يكفيها تعاوننا الأمني معها في هته القضية؟ ألا يكفيها تبرأ تونس من الإرهابيين؟
كلّ ذلك صحيح ولعلّي أضيفُ عليه أنّ فرنسا نفسها تُعاني من إنتاج محلي للإرهاب٬ كانت تغاضتْ عنْه سنوات فتسرّب إلى مواقعٍ حيوية في كيان دولتها ينشر حقده وأذاه. وقد أقرّت الدولة الفرنسية (أخيرا) بأنّ مصانع الإرهاب قائمة داخل فرنسا ذاتها من خلال ذيوع تلك الايدولوجيا الشموليّة وأدواتها. فهي (الأيديولوجيا) تختطف الإسلام وتُعبئ العقول بِحقائق مُطلقة عن الحياة والتشريع والآخر٬ فتصير قنابل موقوتة مطلقة الكراهية والعنف عند انفجارها. ولهذا انطلقت (فرنسا) في مواجهة أصل الداء.
من ناحيتنا لم تأخذ الدولة التونسية على محمْل الجدّ خطر انتشار (في المجتمع) الفكرْ الباعث على الإرهاب٬ ولم تسع بِجديّة (منذ2011) إلى مُعالجة ظاهرةِ الإرهاب من أصولها٬ ولم تحْرِص بِهمة على تجفيف منابعه من مال وجمعيات وحلقات دعوية. فما بالك بِنشر ثقافة مضادة لتلك العقيدة العمياء.
فأين (مثلا) إنفاذ القانون ضد من يشيد بالإرهاب؟ وضد من يسعى إلى تقويض النظام الجمهوري لبلادنا؟ وأين أعمال اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب؟ ألم يُعهد لها تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمناهضة الإرهاب؟ أليس من أدوارها العمل على الوقاية من الإرهاب بالتصدي إلى جذوره وعوامله الهيكلية؟ وهنا أشير فقط إلى رأي خبير تونسي كان قال في مقال حول الإرهاب نشرته لوموند (12/11/2020): "أن الإرادة تنقص الدولة لاستعادة شبابنا الذي هرب منها"٬ وأيضا إلى صيحة الفزع التي أطلقها المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة محذرا من تنامي ظاهرة ترويج خطاب ديني تكفيري"جهادي" في صفوف التلاميذ (بيان 3 نوفمبر2020)٬ وكذلك الى الدعوات غير المسموعة التي تلفت النظر إلى نشاط "التعليمي" المشبوه لفرع الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين بتونس (بيانا لمرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة في 27 أكتوبر2020).
لقد نبّه الأستاذ فرج بن رمضان منذ 2013 في كتابه "تلقّي الوهابيّة في تونس" إلى ما يدبر بليل ضدّ هذه البلاد. فالحملة الوهابية على تونس لم تتوقف للحظة منذ تلقيها الرسالتين الدعويتين (أي تقريبا منذ قرنين من الزمن). و"الهرج الوهّابي" أو "فتنة الوهّابي" ماضي (ة) قُدما في أسلمة المجتمع على المنوال الخليجي. وقد أكد بن رمضان في دراسته تلك أن الدعوة الوهابية مرت إلى طور الفتح (منذ 2011) بعد طور الكمون السابقة، قائلا أن" الفتح الوهابي يريدونه (الوهابيين) مبين بينما هو يرشح بلادنا للانفتاح على أليالٍ أليل وظلم أهْول (أي) على استبداد أعتى وأطول".
ولكن لمن تقرأ مزاميرك يا داوود! فالعملية الإرهابية الأخيرة في نيس والردود التي أعقبتها بيّنت بما لا يدعو للشك أن نزعات عدوانية تكمن في ذهنية أفراد من المجتمع: كراهية٬ تعصب ودعوات إلى العنف. بلْ ثمة من يمجد الإرهاب على مرأى ومسمع الجميع دون رادع، فقط ينهض لتصدى لهم فئة -هنا وهناك - من العزائم صادقة.
وهنا أقول بخصوص تلك الذهنية أنها لم تتبلور فقط من الآثار الاجتماعية للإقصاء الاجتماعي أو من سلبيات المنظومة التربوية أو من ضعف الزاد الثقافي أو من أزمة الفرد العربي٬ إنّما أيضا نتيجة القصف الذهني المنهجي للعقول والأذواق (الممتد لسنوات) من قبل عقيدة الإسلام السياسي المتطرفة (وهي دين ظاهرة الإرهاب).
لهذا أسأل كيف نُفكر - اليوم - في تنمية وفي تعبئة موارد من الخارج وفي إقامة الشراكات مع الآخر في حين تحولنا أو كدنا " من نبهر العالم إلى نرهب العالم"؟ (أنظر مقالة الأستاذ مختار اللواتي بذات العنوان في "الصباح" بتاريخ 1/11/2020) وكيف نعدّ أنفُسنا للنهوض من كبوتنا في غياب إرادة جديّة في محاصرة مصانع الإرهاب؟ وكيف نحرر طاقات شبابنا الذهنية في حين يُحاصره الفكر الوهابي المتكلس من كل جانب؟ وكيف نواصل عهد الديمقراطية بثبات ونحن في أوج "عهد الفتح الوهابي"؟
وكيف لا ينتبه القائمون على الدولة على أن المتربصين بنا يدفعوننا دفعا على أن نصبح دولة مارقة بسبب تراخينا في مواجهة أصل داء الارهاب؟ أليس من الممكن أن نصبح غدا ضمن قائمة جديدةاسمها: قائمة البلدان المشيدة بالإرهاب؟
هنا ليس جديدا القول أن الفرد هو مدار المعركة وموضوعها، لأنه أساس الرقي وازدهار المجتمع أو انكساره. فان كان قد " تم تحويل توق الإنسان إلى الارتقاء والمعرفة والمعنى والجدوى إلى جموع منظمة تمضي في حماس وصدق وذكاء إلى النشوة بدلا من المعنى، والترفيه بدلا من المعرفة، وإلى النظر إلى الذات بدلا من الكون، والاكتفاء بالانتماء بدلا من الغايات والجدوى، وصناعة الوهم بدلا من الحكمة، وتحويل الثقة والفضول والمغامرة إلى قرابين تمضي راضية إلى الموت" (على رأي إبراهيم غرايبة وعي الذات في ثورة الفردانية مجلة الجديد في 1/8/2020)
فإنه في المقابل - وهذا مبعث أمل - ثمة نوعية من الأفراد بالإمكان الاعتماد عليهم والبناء على الروح الايجابية والإبداعية التي تعتمل داخلهم. وأعني أولئك الشباب الّذين يدخلون العصر ويتبنون قيمه بِمِلْءِ عقولهم وأذهانهم٬ فتراهم ينجحون ويبدعون في مجالات شتى. وإن كان المجال هنا لا يتسع لِتعداد البعض منها فقط أريد أن أذكر تلك العريضة (الطريفة والمعبرة) التي يتم تداولها حاليا في الأوساط التلمذية تحت عنوان "طبليّة لِلْكل وإلا الكُلْ مِنْ غِيرْ طبليّة". بماذا يطالبون؟ إنهم ببساطة (أي التلاميذ) يلتمسون من وزارة التربية إعادة النظر في التشريع المنظم للباس الميدعة في المدارس في اتجاه إقرارها للجميع أو تركها. وقد استند محررو العريضة على نص الدستور المقر بالمساواة بين للمواطنين والمواطنات ونبذ جميع أشكال التمييز. من الواضح إذن أن الذي يدفعهم إلى ذلك إيمانهم العميق بقيمة المساواة. أليس ذلك من دواعي الأمل؟
فتحي الهمامي
- اكتب تعليق
- تعليق