أخبار - 2020.11.11

رياض الزغل : قراءة في اتفاقية تطاوين

رياض الزغل : قراءة في اتفاقية تطاوين

بقلم رياض الزغل - انتقد الكثيرون وشككوا في فائدة هذه الاتفاقية بل رأى فيها بعضهم خطرَ تأجيج النزعة الجهوية وربما القبلية عند البعض، وهناك من سخِر من المنهجية المتّبعة للوصول إلى هذه الاتفاقية وتوقع انتشار الاحتجاجات وقطعا للطرقات وتعطيلا للإنتاج في الجهات الأخرى من أجل الحصول على ما حصلت علية جهة تطاوين.

لست من بين هؤلاء المنتقدين، بل بالعكس أرى أنه لو صحّ ما قيل عن هذه المنهجية أنها ارتكزت على مقاربة ميزاتها:

الحوار الذي جمع في مقر الولاية ـ أي الفضاء الرمز للدولة ـ نخبة من الإطارات الحكومية والبرلمانية والجهوية وممثلين عن المنظمات الوطنية الثلاثة (الشغل والصناعة والتجارة والفلاحة) وممثلين عن المجتمع المدني دون الإغفال عن المحتجين على تخلي الدولة عن وعودها،

أخذ الوقت اللازم للحوار حتى الوصول إلى اتفاق ملزم للجميع مما يعني أن الحل ليس بيد للدولة وحدها وإنما فيه مشاركة محلية من طرف عديد الفاعلين بالجهة،

ربط الحلول المتفق عليها لا بالتشغيل الحيني والهش بل بتصور شامل للتنمية الجهوية فيه التشغيل وتثمين الثروات الطبيعية المتاحة والمساعدة على بعث المشاريع للذين يحملون أفكارا ويرون في أنفسهم قدرة على ذلك،

الأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المالية والتشغيلية المتاحة وفي ذلك تعبير عن رغبة الحكومة في بناء الثقة وتحمل الفاعلين وممثلي المجتمع المدني بالجهة جزءا من المسؤولية ليس فقط من حيث التنازلات التي وجب أن يقبلوا بها للوصول إلى حلول ممكنة وإنما أيضا من حيث المساهمة والسهر على تطبيق الاتفاق.

كل هذا أقرؤه على أنه يمثل خطوة نحو تركيز الديمقراطية التي أصبح الكثيرون يشككون فيها اليوم. إن الوصول إلى اتفاق عبر نقاش مطوّل مع توسّع في عدد المشاركين المتباينة آفاق مصالحهم وتوجهاتهم وذلك في موضوع له علاقة بالتشغيل والتنمية وكرامة الإنسان، هو في نظري نتاج لعملية مستجدة لحل مشكلة متعددة الأبعاد، ويمثل تجربة متميزة تمزج بين "الديمقراطية التحاورية" (démocratie délibérative) والاقتصاد، بعيدا عن البحث عن "الأنموذج الاقتصادي الأمثل" المفقود.

ولعل عزم الحكومة على اعتماد نفس المنهجية لمعالجة قضايا التنمية الجهوية بمختلف الولايات هو اختيار صائب. إنما من الأفضل قبل الشروع في ذلك القيام بقراءة علمية ونقدية لهذه التجربة، وبعد ذلك، تحديد منهجية دقيقة تشتمل أيضا على بعض المكونات التي تحتمها الحاجة إلى اعتبار نظرة بعيدة المدى مع تناغم وانسجام مع خاصيات كل جهة إضافة إلى إمكانيات التكامل بين الجهات.

إذا كانت هذه التجربة التي تحققت بتطاوين يغلب عليها الطابع التدريجي وما يعنيه من تقدم مرحلي فيه الاتفاق الظرفي وفيه، كما رأيناه، العودة على ما اتفق عليه من بعض الذين ليس لهم مصلحة فيه، فالمحبذ الآن هو الانتقال إلى منهجية علمية– وهذا لا يعني أنها غير قابلة لإعادة النظر – وإنما فيها بحث عن عدم الإغفال عن أي معطى أو محدِّد له تأثير على الأداء في تطبيق الاتفاقات الحاصلة. ومن بين هذه المحددات أخص بالذكر:

الإدراك الدقيق للتعقيد وللديناميكية التي تختصّ بها الجهة، وهنا يمكن الاستعانة بالدراسات المتاحة وهي متعددة،

الاستشراف قدر الإمكان لبناء تصور لما يمكن أن تكون عليه الجهة مستقبلا من حيث قدرتها على الاستمرار في النمو بفضل ميزات تنافسية تتكون لديها اعتمادا على نقاط القوة التي تمتلكها،

تحفيز الفاعلين المحليين على المساهمة في تحقيق الاستراتيجية المحدّدة وتكييف مناهج العمل حسب المتغيرات التي تطرأ على مسار الإنجاز، ملتزمين بالخدمة لفائدة الصالح العام.

لقد سنحت لي الفرص للبحث الميداني في عديد الجهات ومن بينها ولاية تطاوين وتيقنت أن لكل جهة إمكانيات تنتظر التثمين أو/والتنمية من بينها الطبيعي والبشري الفردي والاجتماعي، بقي أن الرافعة التي يجب تشغيلها اليوم تتمثل في مزيج من الديمقراطية والاقتصاد، وذلك ما يتطلب منهجية دقيقة واستقطابا للكفاءات وبناء الثقة والشعور بالمسؤولية في تحقيق تطلعات المجتمع وبخاصة الفئات التي تركت على قارعة الطريق لما كانت البلاد تسير نحو التنمية والحداثة.
إن الانطلاق من القاعدة، أي من الجهة لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية ليس بالإثم إنما يمثل منهجية تقطع مع الإيديولوجيات المكبّلة ومع الاعتقاد بأن الحلول لا تأتي إلا من الفوق، ومن المعلوم ما فعلت هذه التوجهات من مآسي على مر السنين. فالمشاكل التي تواجهها البلاد منذ سنوات جد معقدة وليس هناك أنموذج جاهز لمعالجتها فلِمَ لا العمل كما أشار ديكارت في كتابه "خطاب المنهجية" تجزئة كل صعوبة قدر الإمكان وحسب ما هو مطلوب حتى تصبح قابلة للحل الأفضل.

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.