عبد اللطيف الفراتي: أحمـد بن صالح، رجل ترك بصمة في جبـين تـونـس(وثائق وصور)
بقلم عبد اللطيف الفراتي - بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الغياب تقريبا بسبب احتجاب الرؤيا وكفّ النظر، في انتظار عملية جراحية على واحدة من عيني أتمنّى أن تعيد إليّ البصر، لم أستطع أن أمتنع عن الكتابة بمناسبة وفاة أحمد بن صالح.
ورغم صعوبة العثور على مواقع أحرف لوحة المفاتيح فقد أصررت على الكتابة، فوفاة أحمد بن صالح هي وفاة رجل ترك بصمة في جبين تونس هو ثالث ثلاثة من مواليد العشرينات غادرونا، بعد أن تولّوا مسؤوليات عالية في فترة بناء الدولة العصرية، المنخرطة في مجرى التاريخ الحديث: حامد القروي والشاذلي القليبي وأحمد بن صالح، والأخير متزوّج من أخت حامد القروي أي إنّ أرملة الفقيد أحمد بن صالح فقدت خلال بضعة أسابيع شقيقها وزوجها. إلى هنا توقّفت عن الكتابة، لعجز عن المواصلة بسبب احتجاب الرؤية لما أصاب عيني اليسرى من كلل، بعد أن فقدت النظر في عيني اليمنى منذ 2014 بسبب مرض غير قابل للعلاج يسمى DEMELA MACULA
2أكتوبر 2020 بعد أسبوع يوما بيوم على إجراء عملية جراحية على عيني اليسرى عدت للمحاولة ولو بصعوبة..
إذن كانت وفاة أحمد بن صالح حدثا في تاريخ البلاد لما تركه من أثر في مسيرتها. لم أكن من الذين اقتربوا من أحمد بن صالح أيّام مجده، وكنت متشبّعا زمانها بالأفكار اليسارية، إن لم أقل الشيوعية، التهمت ومنذ سنّ السادسة عشرة كتاب رأس المال لكارل ماركس، وإذ أذكر أني للصراحة لم أفهم الكثير، وحرصت وقتها من حين لآخر على اقتناء صحيفة لومانيتي التي يصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي ، وتردّدت على فرع الحزب الشيوعي في صفاقس ، وهناك تعرفت عن قرب على محمد الصياح، أستاذي المفضل للغة العربية في "الليسي"، والذي سيقف، كما علمت لاحقا من صديقي عبد المجيد بن سلامة ، كملاحظ عن الحزب الدستوري في انتخابات المجلس التأسيسي، فيما كان يقف أمامه عن الحزب الشيوعي كلّ من محمد الصياح وعمر بلخيريـــة، وكانا مــــن أساطين هذا الحزب، قبل أن يتحوّلا إلى دستوريين متحمسين ويرتقيان إلى أعلى المــراتب فيه.
لذلك، كان الحماس شديدا لارتقاء أحمد بن صالح إلى وزارات اقتصادية عدّة بمخطّطات كما كان الشأن في الدول الشيوعية، وبما كان يعد بإقرار عدالة اجتماعية تقع في تناقض كامل، مع السياسات الليبرالية التي كانت سائدة منذ الاستقلال، والمنخرطة ضمن منظومة الرأسمالية، كما جاء في عنوان الحزب الحر الدستوري، مثلما سمّاه الآباء المؤسّسون منذ 1920، وفي مقدّمتهم عبد العزيز الثعالبي، وهو الإرث الذي تمسّك به المجدّدون منذ 1934، بانشقاقهم عن الحزب القديم مع محافظتهم على قوقعته.
جاء بن صالح إذن بنسمة جديــــدة، عند توليه الوزارات الجديدة في اتجاه نحو اليسار، رحّب به المناضلون، لأن تلك كانت إرادة بورقيبة الذي لا تردّ له كلمة، ورحّب به الشباب المتعلّم والمثقّف الذي كان يتحرّق لشيء من العدالة الاجتماعية، برز بها أحمد بن صالح لمّا تولّى وزارة الصحّة والشؤون الاجتماعية، في ما أقرّه من نظام تقدّمي للضمان الاجتماعي، على غرار ما أقرّه الجنرال ديغول في فرنسا، عندما تقلّد رئــاسة الحكومـــة الفـــــرنسية بعيـــــد الحـــرب العالمية.
لم تظهر ملامح التوجهات اليسارية في بدايات المخطط الثلاثي التمهيدي، وانخرطت قوى محسوبة على الاعتدال، والمهووسة بالنجاعة والجدوى في التصرّف الاقتصادي مثل عبد الرزاق الرصاع ومنصور معلى وآخرين في هذا المسار وفي تلك الفترة زاولت شخصيا دروسا غير نظامية في الاقتصاد، وكنت لا أترك فرصة لم أتردّد فيها على دروس أساطين الأساتذة في تلك المادّة، وفي مقدّمتهم الشاذلي العياري، ثمّ وفي فترة لاحقة دروس المعهد الأعلى للتصرّف. ولكن سرعان ما حاول بن صالح الاسراع في خطواته التجميعية الاشتراكية، ومنذ 1965 / 1966 بدأ أن التوجهات أخذت تتسارع، وسيتهم أحمد بن صالح الذي نجح منذ 1964 في توجيه الحزب الحر الدستوري، وجهة غير وجهته الأصلية بتسميته الحزب الاشتراكي الدستوري، وهي تسمية استمرت حتّى سنة 1988، رغم تغيير التوجّهات نحو ليبيرالية مقنعة تحت حكم الهادي نويرة بداية من العام 1970.
تزامن وصول بن صالح إلى الحكم الفعلي، بمعركة الجلاء ثمّ بمؤامرة أواخر 1962، ورافق ذلك تصلّب للحكم فألغيت الجامعات الدستورية المنتخبة ، وتمّ تعويضها بمندوبين للحزب الحاكم يتمّ تعيينهم من فوق الرؤوس ، وقد يكون هذا وجد هوى لدى أحمد بن صالح ، شبيها بما يحدث في بلدان " ما وراء الستار الحديدي "، وإن تمّت الاستعاضة لاحقا عن مندوبي الحزب بلجان تنسيق منتخبة صوريا فإنّه تمّ تأكيد التوجّه التسلّطي ، بدل الشبيه بالديمقراطي الذي ساد بين 1956 و1961 ، وجاء مؤتمر الحزب الحاكم في خريف 1964 ليثبت التوجه التسلّطي ، فأنشئت لجنة مركزية ، على شاكلة ما يحدث في البلدان الشيوعية ، ويكون الوزراء أعضاء فيها بصفتهم لا بالانتخاب ، وبات الديوان السياسي معيّنا من قبل رئيس الحزب – رئيس الدولة ، وكان الديوان السياسي منتخبا حتّى مؤتمر 1959 ، وسجل فيه فشل أحمد بن صالح في الانتخابات ، فعيّنه بورقيبة عضوا في الحكومة ، رغم بعض التململ ، وكان في ذلك متناقضا مع نفسه حيث كان دبّر له مؤامرة في سنة 1956 ، أقصته من الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل.
سريعا ما أصبح أحمد بن صالح الرجل المرتكز في الحكومة و الديوان السياسي المعيّن ، فجمع عدّة وزارات هي الأهمّ في الحكومة ، وتولّى موقع الأمين العام المساعد للحزب ، وبقدرته الخارقة على العمل ، وقدرته على التصوّر والبلورة، ثمّ قدرته على إقناع رئيس الدولة أضحى المحور في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وجاءت الأزمة القلبية للرئيس بورقيبة في سنة 1967، لتشحذ همم كبار رجال السياسة لسباق محموم للخلافة استمر 20 سنة حتّى 7 نوفمبر 1987، ودفع البلاد نحو مغامرات ، وقد تمّ اتّهام بن صالح بإنشاء جهاز مواز للحزب الدستوري عماده أنصاره ، وكان لا بد ّله أن يسارع بإنشاء تعاضديات في المجالين الزراعي والتجاري ، عارضتها القوّى الحيّة في البلاد وأدّت إلى تظاهرات وأموات في بلد كان يظن أنّه استكان، فانفرط عقد المجتمع واستقال وزراء مؤثرون معارضة صريحة منهم لذلك التوجّه الذي اعتبر تجميعيا والذي سانده لفترة أولى البنك الدولي، وأولوف بالم رئيس الحكومة السويدية الذي كان يتمتّع بسمعة دولية كبرى، لنجاحه في تطوير بلاده عن طريق تعميم تعاضد الخدمات، وفي سباق محموم مع الزمن وبدل عقد مؤتمر للحزب الاشتراكي الدستوري في سنة 1969 كما كان مقرّرا منذ 1964، أنشأ بن صالح الاتحاد العام للتعاضد، وعيّن على رأسه ( بالانتخاب ) الطاهر، قاسم أستاذي في المرحلة الثانوية. وعقد له مؤتمرا عــامّا في 25 جانفي 1969 تحـت رئاسة بورقيبة نفســـــه، قبل أن يقلب عليـــه ظهـر المجـــن، ويرفـــــع عنه حصانته، ويرسله إلى السجن لسببين اثنين:
1 • أوّلهما اجتماع كبار الحكم ضدّه مثل الهادي نويرة محافظ البنك المركزي، ومحمد المصمودي، والحبيب عاشور، وحسان بلخوجة وغيرهم
2 • انهيـــــار اقتصــــادي كبير غير مسبوق جاء صداه سواء في رد الفعل الشعبي، أو خــــاصّة في تقرير للبنك الدولي متشائم جدّا عن الوضــــع في البلاد، أخفاه بن صالح عن بورقيبة حسبـــــما قيــــل لاحقا.
وكنت شخصيا قبل ذلك بعدّة أشهر، وقد لاحظت عن كثب الغضب الشعبي، كتبت افتتـاحية في صفحة " ثقافتك الاقتصادية " التي كنت أشرف عليها مقالا تحت عنوان " ضمانات ثلاثة من أجل إنجاح التعاضد في بلادنا".
وكــــانـــت الضمــــانات الثـــــــلاث:
• طوعيــــة الانخراط في التعـــاضدية لا الإجـبار،
• الدراسات المسبقة الفنية والمالية الفعلية لا الارتجالية،
• تولية الكفاءات العالية على رأسها والتفعيل الحقيقي لأصحاب المصلحة الفعلية أي أعضاء مجالس الإدارة والمتعاضدين.
وقد أثار هذا المقال في حينه غضبا في أوساط السلطة بلغتني أصداؤه، ونبّهني المرحوم الطاهر قاسم إليه.
فقد كانت السياسة المتّبعة عكس ذلك تماما في تركيز التعاضديات أو الوحدات ارتجالا وبعيدا عن الطوعية، وكان اقتلاع الطوابي بكاسحات وزارات الفلاحة والتجهيز هي المظهر السائد، وقد تصدّى لذلك أصحاب قطع الأرض، كما إن أنشاء التعاضديات سواء الفلاحية أو التجارية تمّ بدون أيّ دراســــة لا مالية ولا فنية، وكان الأمر سباقا مع الزمن لوضع البلاد على طريق لا رجعة منه.
• في سبتمبر 1969، كنت واحدا من القلائل الذين علموا باقتراب " قلب " بن صالح، كان ذلك بمثابة انقلاب قصور كما يقول المثل الفرنسي، وعندما كنت أردّد ذلك كخبر لا غير، لم يصدّقني حتّى كبار الموظفين، فقد كان يبدو أن بن صالح وضع قدما راسخة في الحكم، وأنّه سيكون الخليفة المحتمل لبورقيبة، ظنّ ذلك الهادي نويرة، ولم يحصل رغم أنّ معلومات تفيد بأن الرئيس بورقيبة اختاره لخلافته منذ كانا صحبة آخرين سجناء في حصن "سان نيكولا" في مرسيليا سنة 1943.
ولم يحصل مع محمد مزالي، رغم أنّه كان يعتقد أنّه الأدنى إلى ذلك قبل أن يقيله بورقيبة ويلاحقه قضائيا.
لم أكن من أنصار بن صالح، وإن كنت آمنت لفترة ما بسخائه الفكري، انطلاقا من قراراته الجريئة في وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث كان يرافقه في ديوانه محمد الناصر الدكتور في مجالات الترقية الاجتماعية، والذي تعود إليه أفكار تعميم التقاعد والعقد الاجتماعي والمفاوضات الاجتماعية وغيرها من الأفكار التقدّمية التي باتت ثوابت في حياتنــــا الاقتصادية والاجتماعية، والذي تقلّب في عدّة مناصب آخرها رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية المؤقت.
بالرّغم أنّي إذن لم أكن موافقا على السياسات التي اتّبعها أحمد بن صالح ، أو على الأقل الأساليب المتغطرسة التي سلكها، فلقد كنت أرى أنّه يستحقّ إبعادا سياسيا لا غير، وأن لا يتمّ الانتقام منه بسجنه، وتلفيق تهم رئيس الدولة مسؤول عنها بنفس القدر، ولذلك كتبت افتتاحية، عندما تمّ تنظيم حملة صحفية وإذاعية وتلفزيونية وفي شعب الحزب الدستوري الذي كان أمينا عاما مساعدا له، كتبت مقالات تندّد بهذه الأساليب في التعامل مع المسؤولين السابقين، محتجّا بأنّ ذلك يمسّ حتّى بهيبة الدولة ، بالنيل من سمعة الرجال الذين خدموها، وأن عقابهم يكون سياسيا ، لا بالتشهير بهم أو النيل منهم ومن سمعتهم ، وكالعادة قوبل ذلك بامتعاض ، وإن كانت الفترة التي تلت "سقوط" بن صالح اتسمت بانطلاق شيء من حرية التعبير بعكس الفترة التالية لأحداث بنزرت ثمّ خاصّة "مؤامرة" 1962.
جاء ربيع 1970، وجاءت محاكمة بن صالح ورفاقه، استدعاني قبل أيّام من المحاكمة المدير الأستاذ المرحوم الحبيب شيخ روحه، إلى مكتبه وكنت ارتقيت إلى موقع سكرتير تحرير السياسة الداخلية، وفي غياب المرحومين الهادي العبيدي وعبد الجليل دمق، وأعلمني أنّ وزير الإعلام وهو المنسوب إلى الخط التحرّري، أحاطه علما بأنّه نظرا لضيق المحل الذي ستجري فيه المحاكمة فإنه تقرّر أن يتولى فريق من اثنين من الصحفيين المتميّزين من وكالة الأنباء، نقل وقائع المحاكمة، سألني المدير ما هو رأيك؟
أجبته على الفور، لماذا لا ننقل نحن وقائع هذه المحاكمة، كما تعوّدنا منذ نقل محاكمات المحكمة الشعبية على يدي المرحوم الصادق بسباس، أو محاكمة " المؤامرة " أو محاكمات مجموعات برسبيكتيف ؟
أجابني: هذا بالضبط مأ أحببته، قلت له سي الحبيب، بودّي أن تؤكّد له ذلك، وتضيف له: إنّنا في حالة منعنا من التغطية سنعلن ذلك للعموم، ونندّد به، وكان في الوسع ذلك في تلك الحقبة التي تميّزت بحريّة نسبية للتعبير، خاطبه مباشرة مردّدا له ما قلته له خصوصا وأنّه كان سابقا من العاملين في الصباح، أجابه وأنا أستمع له بفضل التليفون المسموع:" طيّب، ولكن بصحفي واحد، ثمّ بعد صمت قصير، شكون؟ "
أجابه الحبيب شيخ روحه، وكانت مفاجأة لي: "عبد اللطيف الفراتي"، سجّل الوزير الاسم وقال له كلاما أخجــل من ترديده لما فيــــــه مــــن إطراء.
للحقيقة، أصابني الذهول من المفاجأة ، رغم أنّي كنت حتّى ذلك الحديث قد غطّيت قضية " المؤامرة " مع المرحوم الصادق بسباس ، وتعلّمت معه الأهم والمهمّ في ما يقال ، ثمّ كيفية التبليغ ، وأذكر أنّنا كنّا نتداول على التليفون لنحجزه لإملاء الأحكام ، ثمّ بعد صدورها في ساعات الفجر، ركبنا سيارة البيجو203 للزميل واتّجهنا إلى شارع بورقيبة حيث وجدنا "الصّباح" في أيدي الباعة ، وكان لنا سرّ في سرعة الطبع ، وإذ كان الليل ما زال مطبقا، فإنّ الأولى من صحف المنافسة لم تنزل إلى السوق قبل الثامنة صباحا، أي بعدنا بحوالي 3 ساعات.
كما كانت لي تجارب في تغطية كلّ المحاكمات السياسية حتّى بدايات التسعينيات، حتّى تمّت إ(ست) قالتي من رئاسة تحرير الصباح، لسوء سلوكي الصحفي وعدم الخضوع للتعليمات.
كانت محاكمة بن صالح ورفاقه شاقّة ، فقد كانت الجلسات تطول نهارا وليلا ، وكنت أتابعها منفــردا، وكان لا بدّ أن لا أتــــرك لا شاردة ولا واردة ، وكان سائق الصباح يأتي كلّ ثلاث ساعات لاستلام الأوراق كما هي وبنسختها دون رتوش ، وهي مهمّة تولاّها نهارا عبد الجليل دمق ، ومساء الهادي العبيدي، وكان علينا أن نحرص على تجنّب أي تحريف، وانتهت المحاكمة بما انتهت إليه ، دون أيّ ملاحظة ، وكانت تغطيتنا التغطية الوحيدة الكاملة، فقد اكتفت بقيّة الصحف أيّامها وكلّها حكومية أو حزبية بنقل الملخّصات التي توزّعها وكالة الأنباء.
ويردّد عدد من رفاق أحمد بن صالح أنّ تلك كانت الوثيقة الوحيدة التي يعتدّ بها الباقية من المحاكمة. ولقد تلقت الجريدة وتلقيت شخصيا التهاني على دقّة التغطية واكتمالها حتّى من بعض الوزراء آنذاك.
دخل بن صالح ورفاقه السجن " ظلما" من وجهة نظري، وأقيل محمد مزالي من منصبه كوزير باعتباره أهدى أحمد بن صالح كتابه الجديد ممهودا بإهداء، وأدار عدد ممّن كانوا يتقرّبون من أحمد بن صالح أو من نالهم خيره، بالمناصب والمواقع ظهورهم عنه، تلك هي السياسة في البلدان المتخلّفة وفي البلدان غير الديمقراطية.
كنت أحد الذين يطالبون بإطلاق سراح أحمد بن صالح أيّام كان قابعا في السجن وكنت دائم اللقاء مع عدد من مريديه وأنصاره أيامها، وفي مقدّمتهم التيجاني حرشه الذي كنت أزوره في مكتبه في شارع فرنسا بعد أن نزعت عنه صفته الرسمية، أو عبد الرحمان عبيد الذي كان يتردّد عليّ في مكتبي، ويثني دائما على تغطيتي للمحاكمة " مردّدا " أنها الوثيقة الوحيدة المتاحة والتي تبرز الظلم الذي حاق بالرجل وفريقه، وإن أبرزت لحظات ضعفه.
***
أطلّت سنة 1980 وقد انقضى عهد الهادي نويرة بنظريته الليبيرالية و حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية كبديل عن الحرية والديمقراطية وحرية التعبير التي انطلقت المطالبة بها منذ 1970 وجسّمها مؤتمر المنستير الأوّل والمجهض في 1971 وجاء قكر الحرية والديمقراطية على شكل ما هو موجود في الغرب ، وإذ تولّى محمد مزالي الوزارة الأولى في الأشهر الأولى من سنة 1980، فقد حضر ما نظّر (بتشديد الظاء) محمد مزالي في كتاب له في سلسلة البعث في 1956 .
والواضخ أن محمد مزالي كان صادقا في توجّهه الليبيرالي الديمقرااطي غير أنّ ثلاثة أمور حالت دون ذهابه للآخر في تنفيذ سياساته التحرّرية:
أولاها: انعدام وجود طبقة سياسية مساندة له أو انفراط عقدها لسياسات الإبعاد التي مارسها،
ثانيتها: انتهازية مفرطة تمثّلت في أولوية انتظار خلافة بورقيبة وذلك قبل ابتلاع كل الثعابين وخاصّة تزوير انتخابات خريف 1981 ضدّ رغبته،
ثالثها: نتائج اقتصادية كارثية لفترة حكمه بعد إقالة الوزراء الاقتصاديين المتميزين.
لكــــن يمكــــــــن القــول إنّ الســـــت سنــــــوات من حكم مزالي مع ما اعتراها من قرارات إفراغ حزامه السياسي من المؤثّرين حوله، اتّسمت بشيء من حرية التعبير رغم نكسات اضطرّ للقبول بها. فقد ارتفعت أصوات منادية بإطلاق سراح الإسلاميين المسجونين، وبعودة أحمد بن صالح من منفاه. وإذ نجح التحرّك الأول في تسريح الاسلاميين، فإنّ عودة بن صالح انتظرت حتّى جاء بن علي للحكم بعد حركة 7 نوفمبر 2087.
فقد قامت حركة واسعة داعية لترك سبيل راشد الغنوشي وجماعته في 1984، وهي حركة تزعّمها الدكتور حمودة بن سلامة الأمين العام لرابطـــة حقوق الإنسان وكنـــــت شخصيّا ضمنها.
وأذكر أنّه في ذات يوم التسريح وصلتني برقية شكر من الأستاذ راشد الغنوشي، أتبعهــــــا بمناسبة عيد الإضحي برســـــالة أعرض عليكم صورة منها:
***
ومنذ السبعينيات قام تحرك كبير لعودة بن صالح إلى حضن البلاد منذ هرب من سجنه في بداية السبعينيات ووجد هذا المسعى أوجّه عندما قامت مجموعة من الحقوقيين، بتشكيل فريق للمطالبة بتلك العودة وكنت شخصيا ليس فقط ضمن تلك المجموعة، ولكن المبادر فيها ومحرّكها.
وقد ارتأيت وقتها:
1 • إدراج هذا التحرّك تحت إشراف رابطة حقوق الانسان لمنع السلطة من استعمال تهمة تشكيل تنظيم غير قانوني،
2 • وضعه تحت لواء شخصية معروفة بهدوئها ونفاذ كلمتها متمثلة في أستاذ جامعي حوله إجماع، هو السيد الأستاذ المنجي الشملي فكان تشكيل ما سمّي في حينه لجنة عودة أحمد بن صالح.
وقد اعتُمد في هذا التشكيل توازن دقيق، فشخصيا كنت آنذاك رئيس تحرير ثان في الصباح، أمّا حمودة بن سلامة فقد كان هو الأمين العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بما يعطي وجوده نوعا من الحصانة للتحرّك، أمّا حميدة النيفر، فكان يمثل توجها إسلاميا من مجموعة ما كان يسّمى بالإسلاميين الديمقراطيين أو التقدميّين، المنتسبين لفكر حسن حنفي ويضمّ في من يضمّ صلاح الجورشي، أما الميداني بن صالح فقد كان يحمل صفة نقابية مهمّة إضافة إلى شاعريته الفذّة ، ويعتبر الصادق الوحشي من الأطبّاء المتميّزين المعروفين بدفاعهم المستميت عن حقوق الإنسان ، والأستاذ صالح الماجري وهو محام دولي له مكتب في جنيف ، ويتولّى من حين لآخر بعض القضايا في تونس، ويمثّل في حدّ ذاته ضمانة للمجموعة كلّها، باعتبــــار صفته وقربــــه من مؤسّســـات حقــوق الإنسان في ســــويسرا.
وفي ما يلي نصّ الوثيقة التي أعلنت انبثاق هذا التحرّك بإمضاء رئيسه المنجي الشملي، وبأسماء المشاركين فيه:
لحق هذا المسعى الذي وجد صدى لدى رجال السياسة المعارضين ورجال الثقافة والعلــــم، وتمّ الاتفـــــاق أيّامها على إيفادي شخصيا لمقابلة أحمد بن صالح في مدينة "نيون" السويسرية لإعلامه بالمساعي الجارية لضمان عودته مع حفظ كــــرامتــــه.
وفعلا قابلته في مدينة " نيون " وعقدنا عدّة جلسات، ودعاني على عشاء حضره مناضل الوحدة الشعبية في سويسرا آنذاك السيد الصافي وابن أخته الذي كـــان يدرس الطــبّ.
ولم أترك الفرصة وأنا الصحفي تمرّ دون أن أقتنص منه مقابلة صحفية، وردّا عن سؤال لماذا هرب من تونس؟، اتّهم الرئيس بورقيبة بأنّه أراد قتله في السجن، وكان شرطي أن ينشر الحديث كاملا ولذلك لم تقدم أيّ صحيفة على نشره، فتولّيت نشره في مجلة "المجلة" الصادرة بلندن والتي كنت مراسلها في تونس، وقد كان لرئيس تحريرها الصحفي القدير عبد الكريم أبو النصر من الشجاعة بحيث تولّى النشر، مغامرا باحتمال مصادرة المجلة ومنعها من الرواج في تونس.
صدر العدد وكانت يدي على قلبي خوفا من أن أودع السجن، ولكن كان استغرابي شديدا وأنا أتابع يوما بعد آخر وجود المجلة في الأكشاك، ولم يقع سحبها واستئناســـا بـــــذلك، تشجّع الزميل الصديق منصف بن مراد مدير مجلة رياليتي، فتمّت مصادرة كلّ أعــــدادها صبيحــــة صدورها.
جاء أحمد بن صالح إلى تونس بعد 7 نوفمبر، معزّزا مكرّما، وصرفت له مرتّباته التقاعدية من يوم وضع في السجن، وما كان يحقّ أن تحجز، لأنّ المرتب التقاعدي هو حقّ مطلق، لا يمنع عن صاحبه ولا حقّ لأيّ محكمـــــة أن تنال مــنه.
كنت يوم وصوله في بيته في رادس وكان إلى جانبه المرحوم حامد القروي وكان آنذاك وزيرا للعدل وهو صهره باعتباره شقيق زوجة السيد حامد القروي، صافحته وأخذت في البحث عن مكان أجلس فيه، فنادى أحمد بن صالح أحـــد الجالسين داعيا إياه لترك مقعــــده وقرّبنــــي منه.
على أنّه لا يمكـــن إنهاء هذا المقال على طوله، دون ذكر مغامرة طالت رئيــس الفريق.
ففي الفترة التي كان فيها الرئيس بورقيبة يستبدل الوزراء كلّ يوم إثنين، تمّ استدعاء المنجي الشملي للقصر، وتمّ إعلامه بأنه ستتمّ توليته وزارة التربية عوضا عن فرج الشاذلي المقرّب من محمد مزالي، هرع محمد مزالي إلى القصر والرئيس بورقيبة في اجتماع مع المنجي الشملي بقصد تعيينه، عندها استأذن محمد مزالي، ولمّا أذن له، دخل واندفع دون مقدّمات للقول بأن هذا الشخص هو رئيس المدافعين عن عــــــودة بن صالح، عدل بورقيبة عن التسمية لما مازال يحمله من غلّ على أحمد بن صالح باعتباره " خان ثقته"، ولكنّ بورقيبة لم يعدل عن تسمية وزير آخر بدل فرج الشــــاذلي، ففي الأسبــــــوع الموالي أعلنــت إقالة فرج الشاذلي وعيّن مكانه ابن عمّه وخصمه الدكتور عمر الشاذلي.
عبد اللطيف الفراتي
قراءة المزيد
سالم المنصوري: أحمـد بن صالح، رجل الـدولة والـواجـب (ألبوم صور)
الأستاذ أحمد بن صالح : نسيج وحده
سالم المنصوري: أحمد بن صالح وزمانه
- اكتب تعليق
- تعليق