أخبار - 2020.10.21

سالم المنصوري: أحمـد بن صالح، رجل الـدولة والـواجـب (ألبوم صور)

سالم المنصوري: أحمـد بن صالح، رجل الـدولة والـواجـب

بقلم سالم المنصوري - فقدت تونس بوفاة الأستاذ أحمد بن صالح، الوزير الأسبق، عن سن تناهز 95 عاما، رجل دولة بامتياز، نشأ مناضلا وطنيّا، وترعرع في صفوف الحركة الوطنية، ونال ثقة باي الشعب، المنصف باي، الذي أسقطه الاستعمار عن عرشه وسارع بنفيه إلى مدينة بو، جنوب فرنسا، وانخرط في العمل النقابي إذ استنجده الزعيم الراحل فرحات حشاد وأوفده ممثّلا مقيما للاتحاد العام التونسي للشغل لدى منظّمة النقابات الحرّة "السيزل" ببروكسال. وعاد بن صالح إلى تونس بعد سنوات ليغذّي صفوف المنظّمة الشغّيلة ويتولّى قيادتها قبل أن يصطفيه بورقيبة عضوا بالمجلس التأسيسي ونائبا لرئيسه ثمّ وزيرا بحكومته، ومن الصحّة والشؤون الاجتماعية إلى الاقتصاد بمجمله وخوض تجربة التعاضد، حتّى إيقافها في سبتمبر 1969 وسط أجواء مشحونة.

ابتدأت سنوات الجمر لأحمد بن صالح بين السجن والمنفى والملاحقات والمضايقات حتى بعد عودته إلى تونس واضطراره للهجرة من جديد إلى الخارج ثمّ الاستقرار النهائي بموطنه.

ولعلّ أحمد بن صالح هو أهمّ شخصية تونسية طبعت إلى جانب بورقيبة، عشريّة الستينات، وغيّرت المنوال الاقتصادي وأثّرت في النمط المجتمعي. ولطالما أرّقت شخصية أحمد بن صالح منام بورقيبة فيما بعد، ولم يكشف التاريخ بعد كلّ أسرار تلك الفترة وغيرها من الفترات المتتالية، ولم ينصفه بعد.

وقد أبّن الأستاذ سالم المنصوري، الوالي السابق، وأحد أصدقائه الأوفياء، فقيد الوطن، يوم دفنه بمقبرة الجلاّز، في رثاء بليغ نقتطف منه هذه الفقرات. 

نودّع في الأستاذ أحمد بن صالح مناضلا صلبا. عمل ضمن فيالق من مناضلي الحركة الوطنية في الحزب الحر الدستوري التونسي العتيد للفوز باستقلال الوطن. ومكافحا فذّا جريئا استنبط الطرق والوسائل الكفيلة للنهوض بتونس وتحقيق تقدّمها أيام كانت طريحة الأرض دون بساط. مريضة ومنهكة في القرى والمدن. دون حكيم أو دواء، أميّة وجاهلة في الأرياف والمداشر، دون مدرسة او مدرس، ودون قرطاس وقلم، خاوية البطن، هنا وهناك.

نودّع اليوم ابن تونس البار. ترك الأستاذ احمد بن صالح المسؤوليات الحكومية لمريدها منذ ما يزيد عن الخمسين سنة بعد أن تألّبت عليه أقوام عديدة، أفرادا ومجموعات، نشرت الكذب والزور والبهتان، وكرّرت بغباء، ما طبخه ونسجه مناورون بدهــاء. ولا تزال بصمات فكره، وجهده قائمة، بارزة لأولي الألباب.

أقرّ حقيقة أنّه يصعب حصر شخصية أحمد بن صالح ضمن صنف محدّد من رجالات تونس المعطاء وتساءلت أكثر من مرّة عن حقيقة سجاياه وأصلها، وهو الذي شدّ انتباه أجيال عديدة إلى حدّ الإعجاب والانبهار بما امتاز به من ذكاء حادّ، ونشاط وحيوية وإيمان قويّ بمستقبل تونس، وحماس فيّاض، وطاقة عمل نادرة، اتّصفت كلّها بالتألّق، فاستقطبت أعدادا وافرة من المناضلين الشبان والنقابيين والإداريين والفنيين على درب البناء والتشييد.

فقد تغذّى وخلاّنه أيّام الفتوّة في الشبيبة الدستورية بالحسّ الوطني المرهف، والاندفاع النضالي، بتوجيه من الزعيم المرحوم الحبيب ثامر، قبل الحرب العالمية وأيّامها.

ووقف على الثبات على المبادئ الأصيلة والقدرة على تحمّل المكاره والأذى عند الباي الشهيد محمد المنصف في وحشة المنفى بفرنسا وقد اصطفاه إثر أوّل لقاء لربط الصّلة بينه وبين زعماء الحزب وخاصّة الزعيم الأكبر الحبيب بورقيبة المقيم بالقاهرة آنذاك.

وقد اضطرّ لأسباب اجتماعية بعد عودته إلى تونس مرافقا لجثمان الباي الشهيد في سبتمبر 1948 للإقامة بالساحل موطن صباه، والعمل بالتدريس بمعهد سوسة حيث انخرط في العمل الاجتماعي والنقابي وعايش حوادث النفيضة الأليمة في 21 نوفمبر 1950 وحضر المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشغل في مارس 1951، ومن المؤكّد أنّ الزعيم فرحات حشاد سجّل مؤشّرات النباهة في احمد بن صالح ومؤهّلاته القيادية وقد يكون تقصّى لدى قدامى النقابيين مسيرة الاستاذ الشاب، ليستقرّ رأيه على جدوى إيفاده لمنظمة السيزل في بروكسيل كممثّل عن الاتحاد العام التونسي للشغل وقد اكتسب من ذلك التكوين والتجربة ليعود بعد اغتيال الزعيم حشاد  بطلب من القيادة الجماعية للقيام بالأعمال التحضيرية للمؤتمر الخامس للاتحاد الذي سينتخبه أمينا عاما.

ولسنا في حاجة في مناسبة اليوم إلى سرد وتبيين كلّ الظروف، الظاهرة والخفيّة منها، التي أحاطت بالعمل النقابي في تلك الفترة التي تلت المؤتمر الخامس للوصول ما بعد المؤتمر السادس في سبتمبر 1956 والتي ادّت الى حصول أوّل انشقاق في صفوف الاتحاد أفضى في ثلاثة أسابيع الى إزاحة احمد بن صالح من قيادة الاتحاد في ظروف وبطريقة معلومة ليتفرّغ إلى العمل النيابي بوصفه كاهية رئيس المجلس القومي التأسيسي ورئيس لجنة صياغة الدستور ومنسّقا عامّا لكافة لجان المجلس.
والتحق احمد بن صالح دون سعي منه بالحكومة بعد إعلان الجمهورية، وزيرا للصحّة العمومية ثمّ الشؤون الاجتماعية وعرض عليه الرئيس بورقيبة أمام تفاقم الصعوبات الاقتصادية والمالية في البلاد كتابة الدولة للتصميم لتطبيق محتوى التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت قيادة الاتحاد أعدّته لمؤتمرها السادس بعد أن استعان بها الحزب الدستوري في مؤتمر صفاقس في نوفمبر 1955.

ومن الصعب استعراض كلّ ما تحقق من إنجازات هامّة في كافة الميادين والتي لا تزال تونس تعيش عل ما تحقّق منها...وكلنا يعرف ما لحق بن صالح من مؤامرات حيكت ضدّه بالليل والنهار من طرف الأشرار وهو المناضل المنصرف في العمل الجاد بالليل والنهار صحبة الأخيار، أدّت الى تألّب السيوف الغادرة والإطاحة به. والزجّ به في السجن ظلما وعدوانا ومحاكمته على غير أحكام الدستور وتحرّره من السجن. حسب العبارة التي يفضّلها على الفرار، وقضاء ما يقارب العشرين سنة في المنفى متنقّلا بين العواصم مُلاحَقا. بشهادات موثّقة لمسؤولين شرفاء. واضطرّت أسرته إلى مغادرة تونس والإقامة في ضيافة الجزائر الشقيقة بتعليمات من الرئيس الراحل هواري بومدين ومتابعة تنظيمية من الدكتور أ حمد طالب الإبراهيمي الذي قدم إلى تونس في نوفمبر الماضي في زيارة خاصة للفقيد العزيز للاطمئنان على أوضاعه الصحية وفاء للصداقة والنضال المشترك أيّام الاستعمار وأيّام البناء والتشييد.

ولو كان المتنبي حيّا لأعاد على مسمعه ما قاله في مدح سيف الدولة عند تشييد القلع.

بناها فأعلى والقنا يقرع القنا
وموجب المنايا حولها متلاطم

وبعد عودته إلى تونس في 16 جوان 1988، إثر عفو أصدره الرئيس بن علي لفائدته، شمل حكما دون أحكام اخرى وجد نفسه يواجه المحكمة من جديد في إطار ما يُسمى عند الحاجة باستقلالية القضاء. وكانت ظروف صعبة غلب عليها جوّ الريبة والترصّد. وبعد إلغاء الحكمين لانقراض الدعوى بمرور الزمن ولقائه برئيس الدولة الذي عبّر عن غبطته باستقبال أستاذه بمعهد سوسة وسروره " برفع اهمّ مظلمة حصلت في عهد بورقيبة " حسب تعبيره، وطمأنته بخصوص ممارسة حقوقه السياسية بما فيها الحصول على تأشيرة الحزب التي طالب بها بن صالح أثناء اللقاء.

وتوافدت على بيت بن صالح جموع الزائرين والمهنئين بعودته وسلامته ومنهم بعض المقرّبين من مستشاري الرئيس لنصحه بعدم التموقع على الساحة السياسية و"الارتقاء فو ق الأحزاب" وهي كلمة حقّ اريد بها باطل اذ هو حقّا فوق الأحزاب في تلك المرحلة.

وأمام تمسّكه بحقوقه كاملة وممارسة العمل السياسي وتحالفه بعد مدّة مع بعض القوى السياسية في مقدّمتها حركة الديمقراطيين الاشتراكيين برئاسة الاستاذ احمد المسيري متّعه الله بالصحّة والعافية، تفاقمت المضايقات ضدّه وطالت مواليه ثمّ أصدقاءه وزائريه في بيته الى حدّ دفعه الى مغادرة البلاد لمدّة عشر سنوات أخرى. فتمّت شيطنته وحرمانه مرّة اخرى من ممارسة حقوقه المدنية وقطع جرايته للمرّة الثالثة.

وعاد بن صالح الى أرض الوطن سنة 2000 وانزوى في بيته. لا يٌعبر عن غضب من ظلم أو ألم ولا يشتكي من الجحود اذ كان من كاظمي الغيض. مكتفيا باستقبال ما بقي له من حافظي الودّ والصداقة الخالصة وفي مقدّمتهم المرحوم الاستاذ الشاذلي القليبي، متناغما مع إنتاج الفكر العالمي والأدب العربي في رحاب الشعراء من عروة بن الورد الى المتنبي، ومن أبي العتاهية الى المعري، ومن الحلاج إلى ابن عربي، ومن الشابي إلى الجاحظ وابن خلدون.

وأعيدت له منحة التقاعد للمرّة الثالثة ليتبيّن في بداية 2017 أنّ احتساب مبلغها لم يكن على تمام الصحة فيتمّ إصلاح الأمر في شهر جويلية بفضل مجهود أحد المناضلين الشرفاء الذي تابع بصبر وثبات مراحل التصويب معلّقا لنا أنّه من طبيعة بن صالح عدم الانتباه بسرعة للخطإ لثقته التامّة في الإدارة التونسية.

بعد ذكرنا لتأثير كلّ من الزعيم ثامر والمنصف باي في شخصية احمد بن صالح، نضيف أنّه تأثّر بصلابة إيمان الزعيم فرحات حشاد بحقوق المستضعفين وصفاء سريرته وصدقه ونضالاته، وحكمة طريقته في تناول القضايا المبنية على المنهجية ونحت السبل المؤدية إلى الأهداف المنشودة.

ونضج بن صالح باحتكاكه بالرئيس الحبيب بورقيبة بالتمرّس على تحليل الصعاب وأعمال الرأي وتأصيل القيم والإصرار على السعي المتواصل دون كلل لبناء مستقبل أفضل للوطن وأخذ عل جميع هؤلاء نبل المقاصد وعلوّ الهمّة وبعد النظر ونظافة اليدين.

خصال متعدّدة انصهرت في ذاته فميّزته عن كثير من رجالات القوم في مختلف المحطات التي مرّ بها سواء في الاتحاد العام التونسي للشغل أو في المسؤوليات الحكومية في تفاعله مع محيط متقلّب وهو يندفع في دروب الإصلاح فيحصل على العزّ حينا ويحصد المحن أحيانا وهو الذي أقرّ يوما أنّ التاريخ لم يظلمه بل ربّما أراد معاقبته لأنّه أحبّ تغيير مجرى رياحه..

سالم المنصوري

قراءة المزيد

الأستاذ أحمد بن صالح : نسيج وحده
سالم المنصوري: أحمد بن صالح وزمانه
 


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.