توفيق الراجحي: جائزة نوبل في الاقتصاد فرصة لتحديث أشكال الصفقات العمومية
بقلم توفيق الراجحي - حصل بول ميلغروم وروبرت ويلسون، وهما أمريكيان من نفس جامعة ستاندفورد في الولايات المتحدة الأمريكية، على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020. جدارتهم هي تحسين نظرية المزادات وأيضا ابتكار صيغ أو قواعد جديدة للمزادات التي تتجاوز الأشكال الكلاسيكي من شاكلة البيع بسوق السمك أو الزرابي أو اللوحات الفنية.
من لم يسمع بالمزادات؟
هي ممارسة قديمة تتم على نطاق واسع في الوقت الحاضر حتى عبر الإنترنت، وتتم المزادات على المباني العقارية المحجوزة والمصادرة على حد سواء، فضلا عن المزادات على المنتجات الفنية، والسيارات، والملابس أو مزادات بيع الأسماك أو شراء محصول الخضر والغلال. كما أن المشتريات العمومية وصفقات البنية التحتية وتراخيص ولزمات الهاتف الجوال والأنترنات، والطاقة، ومعالجة النفايات وغيرها، هي أيضا أشكال خاصة من المزادات. حتى أن تمويل سندات الخزانة الحكومية يتم من خلال شكل معين من المزاد حيث تقدم البنوك عروضا حول حجم الشراء من السندات وأسعار الفائدة المقترحة بناءا على طلب العروض الذي تقدمه الدولة للبنوك.
نظرية المزاد هي في صميم القضايا الاقتصادية
نظرية المزاد هو مجال من نظرية الألعاب حيث اللاعبين (البائع والمزايدين) لديهم مصالح مختلفة ومعلومات مختلفة. البائع يسعى للحصول على أعلى سعر والمشتري يبحث عن أدنى سعر. وتعتمد نتيجة عملية المزاد على قواعد المزاد أو شكله. بعض المزادات تتم بعروض مفتوحة مع منظم المزاد(commissaire-priseur) وجمهور يزايد علناً أو مغلقة في شكل ظروف مغلقة ولا يعرف مقدمو العروض بعضهم البعض. في بعض أشكال المزادات يمكن للمشاركين تقديم عروض متعددة وفي بعض الأحيان القاعدة هي أن الفائز يدفع ثاني أعلى عرض. وتتوقف النتيجة أيضا على ماهية الشيء الذي يجري عليه المزاد حيث يمكن ان يكون التقييم مختلفا أو متشابها من قبل مقدمي العروض المتنافسين. وأخيرا، فإن العامل الأخير الذي يؤثر على نتيجة المزاد هو مجموع المعلومات المتاحة لمقدمي العروض بشأن الغرض من المناقصة. وبقدر توفر مزيد من المعلومات بفدر ما يكون الثمن "عادلا" للبائع والشاري.
وقد قدّم الفائزان مساهمات كبيرة أوضحت سير المزادات وسلوك مقدمي العروض. كل هذا في أطار نماذج رياضية نظرية أدت إلى استنباط صيغ مزادات جديدة أكثر تعقيدا من الأشكال الكلاسيكية.
ما هو شكل المزاد الأفضل؟
لا يتوقف ذلك على النتيجة فحسب، بل أيضاً على ما نعنيه بـ "الأفضل". "الأفضل" من وجهة نظر المشتري أو البائع لأن مصالحهما متضاربة. الصعوبة في تحليل العطاءات هي أن أفضل استراتيجية لمقدم العطاء تعتمد على تصوره للطريقة التي سيزايد بها بقية المشاركون المنافسون. بعض مقدمي العروض يقدمون عروضا ربما أكثر أو أقل قيمة من تقديرات منافسيهم. فهل تعكس هذه التقييمات المختلفة توفر معلومات أفضل عن طبيعة البضائع أو الصفقات وقيمتها لدى عدد من مقدمي العروض؟ هل يمكن لمقدمي العروض التعاون والتلاعب بالمزادات للحفاظ على سعر نهائي منخفض؟
لعنة الفائز
معظم المزادات، وخصوصا في الشراءات العمومية، لها قيمة مشتركة كبيرة بين المزايدين، مما يعني أن جزءا كبيرا من تقييم المزادات هو متشابه لجميع مقدمي العروض المحتملين. وفي الواقع يحصل مقدمي العروض على معلومات خاصة مختلفة عن خصائص الصفقة أو البضاعة. فعلى سبيل المثال، يتوقف عرض شركة لمعالجة النفايات على تكلفة معالجة النفايات وحدها، والتكنولوجيا المستخدمة، والكميات التي يتعين تجهيزها، وتوفر اليد العاملة الماهرة.
مختلف مقدمي العروض لديهم آراء مختلفة حول هذه القيمة السوقية المشتركة، اعتمادا على خبرتهم وتجربتهم والتكنولوجيات التي لديهم. ويمكن أن تقيم الشركة القيمة السوقية على نحو أفضل إذا كانت قادرة على الوصول إلى تقديرات جميع مقدمي العروض الآخرين أو المعلومات الخاصة، ومن ثم يمكنها الحصول على العقد. لذلك تعتبر كمية ونوعية المعلومات المتاحة لمقدمي العروض أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لعروض المزايدين. فمقدمو العروض المطلعون يقيمون السوق بشكل أفضل من أولئك الذين لا معلومات تذكر لهم.
لعنة الفائز هو وضع معروف لمقدم عرض حصل على المزاد لأنه بالغ في تقدير قيمته لعدم وجود معلومات كافية مما يلحق به خسارة فيما بعد. وكان روبرت ويلسون أول من وضع إطارا لتحليل المزادات ذات القيم المشتركة، ووصف كيفية تصرف مقدمي العروض في مثل هذه الظروف. وحدد استراتيجية المناقصة المثلى لمزاد بالأسعار الأولى عندما تكون القيمة الفعلية غير مؤكدة. تكون في هذه الحالة عروض المشاركين أقل من تقديرهم لتجنب عقد صفقة سيئة، وبالتالي تجنب معاناة لعنة الفائز. ويظهر تحليله أن مقدمي العروض يكونون أكثر حذراً وأن السعر النهائي يكون أقل وأن المشاكل الناجمة عن لعنة الفائز تكون أكبر عندما يكون لدى بعض مقدمي العروض معلومات أفضل من الآخرين.
بيع متعدد في وقت واحد (SMRA)
لم يكرس ميلغروم وويلسون بحوثهم فقط للنظرية الأساسية للمزادات بل ابتكروا أيضاً أشكالاً جديدة وأفضل للمزادات في الحالات المعقدة التي لا يمكن فيها استخدام المزادات الكلاسيكية. ومساهمتهم الأكثر شهرة هي المزاد الذي صمموه لأول مرة للسلطات الأميركية لبيع ترددات الراديو لمشغلي الاتصالات. ففي 1990، أدركت لجنة الاتصالات الاتحادية (FCC) أن "مسابقات الجمال"، وهي عملية توزيع التردد على أساس حجج الشركة المترشحة وبشكل مجاني، لم تعد قابلة للعمل وتم استبدالها بعملية ترخيص عشوائية تماما، والتي لم تدر سوى إيرادات محدودة للحكومة. كيف يمكن اذن للدولة تصميم مزادات تتدر مزيدا من المداخيل وتقدم بشكل فعال نطاقات الترددات الراديوية؟
لمعالجة هذه القضايا، استنبط ميلغروم وويلسون شكلا جديدا للمزادات حيث يتم وفي وقت واحد بيع متعدد (Vente simultanée à plusieurs tours SMRA). تقدم هذه المزادات في وقت واحد جميع المكونات للمزاد (نطاقات الترددات الراديوية في مناطق جغرافية مختلفة) ويتم الانطلاق من أسعار منخفضة والسماح للعروض المتكررة. وهذا الشكل من المزادات يقلل من المشاكل الناجمة عن عدم اليقين بقيمة المزاد ولعنة الفائز. وعندما استخدمت لجنة الاتصالات الفدرالية للمرة الأولى ترخيصاً من هيئة إدارة الشركات في جويلية-أوت 1994، باعت 10 تراخيص في 47 جلسة مناقصة بمبلغ إجمالي قدره 617 مليون دولار- وهي البنود التي سبق أن منحتها الحكومة الأمريكية مجاناً تقريباً.
شكل المزاد الأول لموجات الأثير باستخدام SMRA عموما نجاحا كبيرا. وقد اعتمدت بلدان كثيرة (منها إسبانيا وبولندا والسويد وفنلندا وكندا والنرويج والهند والمملكة المتحدة) نفس الشكل لمزاداتها على الهواء. وقد حققت مزادات لجنة الاتصالات الفدرالية وحدها، باستخدام هذا الشكل، أكثر من 120 مليار دولار على مدى 20 عاماً (1994-2014)، وعلى الصعيد العالمي، حققت هذه الآلية أكثر من 200 مليار دولار من مبيعات الطيف. كما استخدم شكل SMRA في سياقات أخرى، مثل مبيعات الكهرباء والغاز الطبيعي.
مهندسو صيغ مزادات جديدة
Milgrom هو واحد من مهندسي مزاد معدل ٍ (la vente aux enchères d’horloges combinatoires) التي يمكن للمشغلين تقديم عروض على "حزم" من الترددات، بدلا من التراخيص الفردية. كما أنه طور شكلا جديدا (مزاد الحوافز). في الجولة الأولى، يشتري المشغل طيف الراديو من المرخص لهم الحاليين. وفي الجولة الثانية، يبيع بعض شبكات الترددات لمشغلين آخرين يمكنهم إدارتها بكفاءة أكبر.
تحديث أشكال المزاد للمشتريات العمومية في تونس
تتحكم المزادات فعليا في تحديد تعريفة الكهرباء لأن تكلفة محطات الكهرباء أو محطات الطاقة المتجددة تتم من خلال المزادات. كذلك تكلفة المكالمات الهاتفية والعروض من الجيل الرابع أو ربما 5G تعتمد على سعر التراخيص التي حصلت عليها شركات الاتصالات من خلال مزادات التراخيص واللزمات. حتى معالجة النفايات المنزلية لها تكاليف بالنسبة للمجموعة الوطنية وتعتمد على المزادات التي تحصل عليها الشركات الخاصة. كما تباع سندات الدولة BTA التي تشتريها البنوك من الدولة في مزاد علني، ويتوقف مبلغ الفائدة التي تدفعها الدولة على نجاح المزاد. وتؤثر المزادات على السعر الذي تدفعه الدولة لتنفيذ مشاريع المرافق العمومية وبالتالي على الإيرادات الضريبية التي تنفق على هذا المشروع. يمكن تعداد الأمثلة وسحبها على كافة المشاريع العمومية. ولا ننسى أن مقدمي العروض يتأثرون أيضا بنتائج المزادات. يمكن للشركات الفوز أو الخسارة في المزادات لأنها لم تكن قادرة على تقديم "السعر المناسب". نتائج المزادات لها اذن تأثير كبير على الأفراد والشركات والدولة.
تعتبر أشكال المزادات الجديدة مثالا جيدا على كيفية اقتناء الحكومات للسلع والخدمات وانجاز الصفقات مما يولد إيرادات عادلة للمالية العمومية أو يقلل من تكاليف المشاريع. في تونس تتجاوز المشتريات العمومية ستة آلاف مليون دينار، يديرها شكل مزاد واحد وهو العروض بظروف مغلقة. وقد تم إجراء جميع مبيعات تراخيص لزمات الجيل الرابع أو محطات الطاقة المتجددة بنفس الطريقة.
الدروس التي يجب تعلمها:
1. المعلومات التي تعدها الدولة وتقدمها للمتنافسين أمر بالغ الأهمية لتحسين العروض المقدمة.
2. حصول أحد مقدمي العروض على معلومات خاصة يؤدي إلى منافسة غير شريفة وخسارة للمنافسين.
3. كل صفقة عمومية لها شكلها وقواعدها الخاصة، والشكل الكلاسيكي للمناقصة ذات الظروف المغلقة يمكن أن يكون دون المستوى الأمثل لصفقات محددة، ومن ثم فإن الحاجة إلى ابتكار أشكال جديدة للصفقات العمومية مسألة هامة.
لفهم أفضل:
https://www.nobelprize.org/uploads/2020/09/advanced-economicsciencesprize2020.pdf
https://www.nobelprize.org/uploads/2020/09/popular-economicsciencesprize2020.pdf
توفيق الراجحي
أستاذ جامعات فرنسا
وزير الإصلاحات الكبرى السابق
- اكتب تعليق
- تعليق