أخبار - 2020.10.16

توفيق الحبيّب: سنـة أولــى قـرطــاج، وبعــد...

توفيق الحبيّب: سنـة أولــى قـرطــاج، وبعــد...

لا تزال ارتدادات انتخابات الخريف الماضي، الرئاسية السابقة لأوانها، ثمّ التشريعية، تدكّ صميم تونس، دولة وشعبا، بما حملته من مفاجآت، لم تكشف إلى اليوم كلّ أسرارها، ومن مضاعفات ازدادت حدّة بسبب تبعات جائحة الكوفيد.

يوم 23 أكتوبر الحالي تمرّ سنة على صعود الرئيس قيس سعيد إلى دفّة رئاسة الجمهورية في ارتقاء قد باغت غير المتبصّرين بعمق بحجم القطيعة بين الشباب والمهمّشين وبين «السيستام» القديم، وكذلك هو الشّأن مع الجديد، المنتصب غداة 14 جانفي 2011. ولعلّ الفترة التي قضــــــاها إلى حدّ الآن في قصر قرطاج قد لا تكفــــي لتقييـــــم آدائه ولكنّها كفيلة باستشــــراف مســــاره خلال السنوات الأربع المتبقّيـــة من عهدته.

كتوما كعادته وحتّى أكثر، لم يفصح الرئيس قيس سعيد إلى حدّ الآن عن نواياه وهو يمسك بقيادة البلاد ويكتشف خفايا ممارسة السلطة لا عن أسلوبه غير المعلن وهو يضع بيده دواليب مؤسّسة الرئاسة، ويمارس على طريقته صلاحياته الدستورية. ولم يكشف أيضا ساكن قرطاج الجديد، بالخصوص عن تفاصيل برنامجه الذي اختزله زمن الحملة الانتخابية في مقولة "الشعب يريد" وأسّسه على إرادة إحداث "ثورة في قلب الثورة".

وعده الانتخابي كان أيضا القطع لا فقط مع القديم والمتجدّد وإنّما أيضا مع هيكلة الدولة المركزية وتقسيمها الإداري وإعلاء صلاحيات القرار القاعدي المنبثق من الشعب نحو رأس هرم التنظيم السياسي والإداري.

وكان من الطبيعي أن تستهوي هذه الوعود، على الرغم من عزوف كبير عن التصويـــــت، أغلبيّة لا مثيل لها من الناخبين، إذ فجّرت في نفوسهم آمالا عريضة تشفي غليل يأسهم من الحكّام السابقين، وتفتح أمامهم آفاقا فسيحة. ولكنّ حجم التأييد والثقة والاستبشار، سرعان ما بدأ في التبخّر مع تباطؤ توضيح الرؤى بدقّة وتفصيل، وتجسيمها بقرارات منجزة، تغيّر بالسرعة المنشودة أحوال البلاد والعباد. وكلّما تقدّم الزمن وطال الانتظار، يتعمّق لدى ناخبي قيس سعيد بالخصوص، الشعور بخيبة الأمل وفقدان الثقة بالمستقبل وتهتزّ صوة الثورة ووعودها ويتبدّد الإيمان بمزايا الديمقراطية وكأنّها لم تحقّق سوى حرية التعبير بما اكتنفها من تجاوزات ومناكفات.

وممّا يزيد في إرباك المشهد، هو أن الخيال التونسي الشعبوي الذي يطرب لبعض المبادرات والمواقف الرئاسية في البداية، لن يتوانى عن الملل منها في النهاية، لأنّها بقدر ما تحرّك مشاعره، في الأوّل، وتعيد له نخوة عزّتة، بقدر ما تتسبّب له في نهاية المطاف في تحطّم أحلامه على صخرة الواقع المرير الذي يعاني منه.

من الواضح أنّ رسائل نتائج انتخابات خريف العام الماضي أكّدت انتشاء الخطاب الشعبوي بأشكال متعدّدة، من شعبوية فئوية وجهوية، وشعبوية تضامنية شخصيّة تنتصب محلّ توزيع اجتماعي عادل للثروات وتضامن وطني، وشعبوية دينية باسم الإسلام السياسي والإسلام الديمقراطي وغيرها. ويترسّخ هذا الخطاب في مشهد سياسي يسجّل انحسار القوّى التقدمية والوسطيّة، وضمور التيارات الحداثية وتشظّى جميع الأحزاب، وتلوّن كبير للبرلمان، بما يعسّر بناء الأغلبيات عند التصويت ولا يسهّل عمل الحكومة.

وإذا كانت الأزمة السياسية الناجمة عن هذه الأوضاع، على الرغم من خطورة انعكاساتها هي الوحيدة التي تتهدّد مسار تونس فإنّ تزامنها مع الأزمات الصحيّة والاقتصادية والمالية والاجتماعية في نفس الوقت وبنفس الحدّة هو الذي يضاعف حجم التهديدات والمخاطر.

القضيّة الأساسية اليوم في تونس، هي مدى اقتناع التونسيين، نخبا وقيادات وشعبا، شبابا ومهمّشين، بمزايا الديمقراطية، عنصرا رئيسيا في تثبيت المسار الصحيح، وانحيازهم لصالح الحداثة، وإيمانهم المتجدّد بقيم الثورة الحقيقية وأهدافها، وانخراطهم في تحقيقها السلمي.

هذا ما يؤسّس الأرضية الصلبة والخصبة ولكنّه لن يكفي إذ يستوجب في نفس الوقت، شحذ كلّ الهمم في قرطاج وباردو والقصبة بالخصوص وغيرها، لمعالجة عميقة للملفّات الحارقة، واتخاذ الإجراءات الفعّالة، ووضع سياسات عمومية ناجعة.

شعب تونس وأصدقاؤنا في العالم ينتظرون من الرئيس قيس سعيد وهو يدشّن السنة الثانية من عهدته، تقييما يراجع تعاطيه مع رئاسة الجمهورية، ويفصح فيه عن تفاصيل برنامجه، ويكشف أيضا عن خطّة تنفيذه وتنزيله لفائدة جميع الفئات والجهات.

وهذا هو الأوكد والأهمّ.

توفيق الحبيّب

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.